لا يمكن توضيح أهمية شخص ما في التاريخ، إلاّ بعد انقضاء السياق التاريخي الذي ساهم هذا الشخص في صياغته. ولأن اللبنانيين يكتبون تاريخهم- هذا إن كتبوه- بعد لحظات من حدوث الحدث، وأيضا كأنّهم محور الكون، قد يصبح، في سردياتهم، حاجب وزير من الشخصيات المزلزلة لمجاري التاريخ.
ولكن في الحقيقة، إذا ما أتى مؤرخ بعد خمسين عام من اليوم، ليمحّص السياقات التاريخية لغرب آسيا بعد الحرب العالمية الأولى، لن يأتي على ذكر إلاّ بضعة لبنانيين، يتقدّمهم زمنيا الامام السيد موسى الصدر. فما صنعه الامام الصدر في مدة زمنية قصيرة- اقل من عقدين- أقرب إلى الإعجاز منه إلى مسار تاريخيّ طبيعيّ. حطّ آية الله موسى الصدر في لبنان في عام 1959، ليمارس دور الزعامة الدينية- بشكل تقليديّ- على الشيعة في لبنان. وإذ به ينقلب على هذا الدور، فحوّل هؤلاء من شراذم فقراء مهجّرين من مناطقهم إلى أحزمة البؤس المحيطة ببيروت، ويعيشون بصمت تحت نير إقطاعين- واحد سياسيّ والأخر دينيّ- إلى جماعة مكتملة المواصفات. ورسم، في وقت قياسيّ، حدود هذه الجماعة: الحدود السياسية والاجتماعية والدينية. فكان أن حوّل الخطاب العاشورائي إلى أداة لاستحضار قيم مجابهة الظلم، كلّ الظلم.
وأصبحت حدود الجماعة السياسية والدينية تمتدّ لتسع كل قضايا الظلم في محيطها. فاندفع شبابها لينخرطوا في معسكرات منظمة التحرير في لبنان بداية، ثم للانخراط في أفواج المقاومة اللبنانية (اوّل حركة مقاومة لبنانية) بعد اجتياح عام 1972 -تتحمّل حركة أمل مسؤولية جهل عموم اللبنانيين بجهود مقاومتها وتضحياتها بين عامي 1972-1982. وعلى الضفة الأخرى قاد الامام الصدر هذه الجماعة في مسار رفع الظلم وتحصيل الحقوق من الدولة اللبنانية، ولكن مع تقديم مشروع شمولي يجمع كل مهمّشي لبنان.
فقد كان الامام الصدر يفهم العلاقة العضوية بين الطوائف اللبنانية والاحتكارات وتوزيع موارد الدولة، وكان يعلم أن تحدي هذه «المكتسبات» الطائفية، كقائد للجماعة، سيؤدي إلى شلاّلات دماء. فهذه المكتسبات هي البنى الفوقية في منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني. لذا عمل الامام على نسج سياسات تبتعد عن استفزاز هواجس الطوائف والاصطدام بها، متظلّلا بشرعية فئة «المحرومين» الجامعة والعابرة للطوائف، والتي أدخلها هو كبند أساسيّ في الحياة السياسية اللبنانية، علّه يتمكن من تحصيل بعض المكتسبات لعموم فقراء لبنان في منظومة اقتصاد سياسي تخدم بعض التجار والمصرفيين. وكان رفضه لانجرار الجماعة إلى الحرب خير دليل على فهمه لتبعات سفك الدماء بين الجماعات اللبنانية المختلفة، وذلك بالرغم من إيجاده للخطاب المحفّز للقتال ومقاومة مسلّحة داخل الجماعة التي صنعها. هذه الجماعة شكّلت الوعاء الذي عملت فيه باقي قوى الاسلام الحركيّ، والذي انطلقت منه المقاومة الاسلامية وبدأت بمراكمة الانجازات، في كافة الساحات في الاقليم، انطلاقا من جنوب لبنان. وكان كلما كبر حجم المقاومة وتوسع حجمها السياسي ليمثل الجماعة أكثر، وجدت نفسها تنحو منحى الامام الصدر في مقاربة المظلومية بشقها اللبناني أكثر، فكانت تتجنب كل مسار يمكن أن يريق الدماء.
ولكن منذ عام 2018، بدأت المقاومة تغيّر في مقاربتها، ولو بشكل خجول، من خلال توسّع دورها بقدر ما يسمح لها حجمها السياسي. فكان، مثلا، الاصرار على فرض الضرائب على المصارف ورفض قروض مؤتمر “سيدر”، قبل الازمة، والدفع باتجاه التوقف عن سداد الديون بعد اندلاعها. فالواقع هو أنّ الظروف، التي تسمح بنسج سياسات جامعة وعابرة للطوائف، كانت قد بدأت تتشكّل- سواء أكانت مرتبطة بتراجع المشروع الأمريكي في المنطقة أو تردّي الوضع الاقتصادي في لبنان.
هذه الظروف ستسمح مع الوقت بإضعاف الحواضن الطائفية لاحتكارات زعماء الطوائف، وتجعل من تطوير مشروع جامع يتحدى ظلم منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني، ولا يريق الدماء في الوقت عينه، أمرا ممكنا. بعد خمسين عام من اليوم، وعندما سيأتي مؤرخ ما ليمحّص في مسارات تاريخ غرب آسيا، سيتحدث عن مقاومة أنجزت في الميادين العسكرية، والارجح السياسية والاقتصادية ايضا، وحرّرت تحريرا كاملا تامّا، ومن ثم سيردف أن نقطة البداية كانت حين حطّ رجل طويل ساحر، يتكلم العربية بلكنة فارسية، في حاضرة من حواضر ساحل جبل عامل. رجل صنع جماعة ساهمت في تشكيل سياق تاريخيّ تحرّري، انطلاقا من زاويتها الصغيرة من غرب آسيا.
الأمجد سلامة – عن صفحته على فيسبوك