ما إن أُعلنت سيطرة حركة «طالبان» على العاصمة الأفغانية كابول، وفرار الرئيس المدعوم أميركياً، أشرف غني، من البلاد، لم تتوقّف محاولات فهم طبيعة ما جرى وعلاقة كلّ من الدول المجاورة به، وصولاً إلى قراءة المشهد من زاوية الرابحين والخاسرين من التطوّر الاستراتيجي الذي طرأ على الدولة المجاورة بشكل مباشر لإيران والصين، وبشكل غير مباشر لروسيا عبر العديد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. وإذا كان الموقع الاستراتيجي لأفغانستان يحوز أهمّية كبرى بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية لناحية صراعها مع إيران وروسيا والصين، فإن خسارة هذا الموقع ستُخلّف تداعيات كبيرة ومتنوّعة على الخطط الأميركية المستقبلية في إدارة المواجهة.
علاقة مباشرة للصين؟
يُحمّل أنصار الرئيس الأفغاني الهارب، الصين وروسيا، الكثير من المسؤولية عمّا آلت إليه أوضاعهم عقب الانسحاب الأميركي الكبير، والمشهد المهين لهم الذي ارتسم توازياً. لا ينكر هؤلاء المسؤولية الأميركية الكبرى، إلّا أنهم لا يستطيعون قراءة المشهد من دون الأخذ في الاعتبار الدور الصيني – الروسي في تعزيز قدرات «طالبان»، ربطاً بتصاعُد المواجهة بين كلّ من بكين وموسكو من جهة، وواشنطن من جهة أخرى. تسري رواية في صفوف المنهزمين الذين كانوا يراهنون على «الوفاء» الأميركي، عن أن زيارات وفود «طالبان» المعلَنة لكلّ من روسيا في 8 – 9 تموز الماضي، والصين في 27 تموز الماضي (كانت برئاسة الرجل الثاني في «طالبان» ورئيس مكتبها السياسي الملا عبد الغني برادار) لم تكن الوحيدة أو الأولى من نوعها، بل إن زيارات أخرى سبقتها وظلّت بعيدة عن الأضواء، لتَظهر حصيلتها بالتوازي مع التقدّم السريع الذي حَقّقته الحركة في عدد كبير من المدن والمحافظات التي سيطرت عليها، وخصوصاً في كابول، وفق ما تقول مصادر واكبت الأيام الأخيرة قبل هروب غني، لـ«الأخبار». تضيف المصادر أن أنصار غني يتّهمون الصين بالتواطؤ مع «طالبان» من خلال تعطيل شبكة الإنترنت في البلاد، ما أدّى إلى شلل شبه كامل للقوات الأفغانية ومراكز الإدارة لديها. والجدير ذكره، هنا، أنه في عام 2017 أُطلق مشروع شبكة كابلات الألياف الضوئية، الرابط بين أفغانستان والصين عبر ميناء واخان، من خلال ما يقرب من 480 كيلومتراً من الكابلات التي تغطّي 34 مقاطعة من البلاد، بكلفة وصلت إلى 50 مليون دولار أميركي تمّ دفعها من خلال المساعدات التي يقدّمها «البنك الدولي».
بالطبع، الأولويات في أفغانستان، بعد الذي حصل، لا تسمح لأيّ جهة بخوض مثل هذا النقاش، إن نفياً أو تأكيداً. إلّا أن الحقيقة الجغرافية و«المصلحية» قد يراها البعض مبرّراً للصين أو غيرها. مثلاً، تتقاسم الصين وأفغانستان حدوداً بطول 76 كيلومتراً، عبارة عن مرتفعات شاهقة لا تتخلّلها أيّ معابر حدودية. لكن الحدود التي تمتدّ بمحاذاة منطقة شينجيانغ الصينية ذات الأغلبية المسلمة، هي التي تشكّل مصدر قلق كبير لبكين. يضاف إلى ما تَقدّم أن الصين التي كانت منذ مدّة طويلة حريصة على تمديد مبادرة «الحزام والطريق» الخاصة بها إلى أفغانستان، وتطلب من كابول الانضمام إليها، صارت أكثر تحفّزاً اليوم لمواصلة هذا المشروع، بعد انسحاب واشنطن، وانتفاء تأثيرها على القادة السياسيين الأفغان. كما أصبح بمقدورها الآن أن تفكّر في أنه يمكن لأفغانستان أن تزوّدها بقاعدة استراتيجية لتثبيت نفوذها في موقع مثالي، لتكون بمثابة مركز تجاري يربط بين الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وأوروبا. وبالطبع، ستحرص بكين على أن تضع على الطاولة مشروع بناء الطريق السريع بين بيشاور (شمال غرب باكستان) وكابول، بعد طول عرقلة أميركية.
هذه المشاريع لن تبقى، على ما يبدو، حبيسة التمنّيات الصينية، إذ ثمّة إشارات «إيجابية» في شأنها آتية من «طالبان» نفسها، التي أشاد المتحدث باسمها، سهيل شاهين، في حديث إلى وسائل الإعلام الصينية الرسمية، بدور الصين «البنّاء في تعزيز السلام والمصالحة في أفغانستان»، مرحّباً بها للمساهمة في إعادة بناء البلاد. وقال شاهين إن «الصين دولة كبيرة ذات اقتصاد وقدرة ضخمة، أعتقد أنها يمكن أن تلعب دوراً كبيراً للغاية في إعادة بناء وإعادة تأهيل وإعادة إعمار أفغانستان».
نفوذ روسيا ووساطة باكستان
لا تتوقّف الاتهامات عند الصين، بل تطاول أيضاً روسيا، عبر أوزبكستان التي «قطعت مصادر الطاقة عن كابول، ما أعاق حركة الجيش الأفغاني ومنظوماته العسكرية»، وبالتالي سهّل سيطرة مقاتلي «طالبان» على الأرض، وفق ما تقول المصادر نفسها لـ«الأخبار». وتتغذّى أفغانستان بالطاقة الكهربائية من إيران وأوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان، إلّا أن إمدادات الطاقة الرئيسة فيها تأتي من أوزبكستان بنحو 100 مليون دولار سنوياً. بالطبع، تأمل روسيا في أن تُعزّز علاقاتها مع «طالبان» نفوذها في جميع أنحاء غرب آسيا. ومن هذه النقطة تحديداً، تنطلق الاتهامات لموسكو بأنها أمدّت الحركة بالسلاح في مراحل متفاوتة، على الرغم من أن الروس ينفون بشدّة هذه المزاعم. لكن، بينما كان مقاتلو «طالبان» يجتاحون معظم المحافظات الشمالية المتاخمة لآسيا الوسطى، كانت روسيا وحلفاؤها من الدول السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى (طاجيكستان وأوزبكستان) يجرون تدريبات عسكرية على مقربة من حدود أفغانستان، في تزامن لا يبدو، في حال من الأحوال، دونما دلالة.
تسلّم «طالبان» زمام الأمور في أفغانستان، بصرف النظر عن الجدال القائم عمّا إذا كان الأمر منسَّقاً مسبقاً مع الأميركيين أم لا، يضع البلد المهمّ جيوسياسياً أمام خيارَين: الانضمام من جديد إلى المنظومة الأميركية عبر التقرّب من باكستان وقطر وتركيا، أو الالتفات صوب روسيا والصين وإيران. لا شكّ في أن «طالبان» ستكون بحاجة إلى دعم دول كبرى، لكن الخيار بين أميركا كـ«عدو معاصر»، وروسيا كـ«عدو تاريخي»، يجعل الحركة «المتجدّدة» إزاء تحدٍّ صعب للغاية.
كانت الصين من أوائل المسارعين إلى إبداء الاستعداد لإقامة «علاقات ودّية» مع «طالبان»، وكذلك جاء الموقف الروسي «متفهّماً» للحركة. وفي مواجهة ذلك وما ينبئ به، من الطبيعي أن تعمل واشنطن على أن لا تترك «طالبان» لقمة سائغة لبكين وموسكو. هنا، تَبرز باكستان من بين دول أخرى قد تلعب دوراً في «احتضان» الحركة. صحيح أن كلّاً من الولايات المتحدة والصين وروسيا تملك علاقات جيّدة مع باكستان، إلا أن واشنطن ستعتمد أكثر على إسلام أباد في التعامل مع «طالبان» تمهيداً لاحتوائها على المدى القريب، على أن يتحدّد نوع العلاقة بعد نضوج التجربة «الطالبانية» واستقرار شكلها النهائي.
وإذا كان من المبكر الحديث عن شكل أفغانستان وعلاقاتها المستقبلية، إلا أنه من الواضح أن الصين وروسيا من أكثر المستفيدين من خُلوّ نقطة مهمّة على الخريطة الآسيوية من الوجود الأميركي المباشر والفعّال. وإذا ما سارت الأمور وفق ما تتمنّاه بكين وموسكو، فإن المستقبل المثالي بالنسبة إلى العاصمتَين، تعكسه المشاريع الاقتصادية والاستثمارية الضخمة التي من شأنها أن تُغيّر وجه أفغانستان وجوارها. أما بالنسبة إلى «طالبان»، فهي حتماً بحاجة إلى «رافعة دولية» تُمكّنها من اجتياز «مطبّات» المجتمع الدولي ومؤسساته، خصوصاً أن «طالبان» كـ«دولة» هي غيرها كحركة شعبية، ومن المرتقب أن ترث باكستان بمؤسّساتها ومقاعدها في الهيئات والمنظّمات الدولية، وهو ما يستدعي نسْج شبكة علاقات مع دول مؤثّرة وقادرة على أن تقدّم «أفغانستان الجديدة» لـ«المجتمع الدولي»، وإنْ كان لكلّ خطوة ثمنها السياسي والاقتصادي.
حكومة الظلّ «الطالبانية»
لا يبدو فعل حركة «طالبان»، الكلامي أو غيره، وسواءً تجاه الداخل أو الخارج، آتياً من فراغ، أو وليد لحظة سياسية مُربِكة؛ فبحسب ما تفيد به مصادر مطّلعة، «الأخبار»، فإن «طالبان»، على مدار السنوات الماضية، كانت قد بنت ما يشبه «حكومة ظلّ» في أغلب مناطق «بيئتها الحاضنة»، وتلك التي تمتلك فيها ثقلاً شعبياً ونفوذاً. وتشير المصادر إلى أن الحركة كانت تقدّم الخدمات الطبّية والاجتماعية، وكان لديها لجان قضائية تابعة لإدارات محلية. وبالتالي، فإن ما حصل على الأرض لم يكن مفاجئاً، بل انطلق من بعد تمهيد وتحضير طويلَين. إلا أن النقطة الأبرز التي تتطرّق إليها المصادر في سياق شرح الواقع الأفغاني، هي التحوّل الكبير لدى قادة الحركة وعناصرها على السواء، وهو تحوّل أدّى إلى أن تنسج «طالبان» شبكة علاقات واسعة مع زعماء قبائل محليين، وزعماء سياسيين تقليديين، وحتى مع موفدين أجانب من بينهم صينيون، ما جعل «انتقال السلطة في أفغانستان أكثر سلاسة من الانتقال الرئاسي في الولايات المتحدة»، على حدّ وصف الصحافي في «جلوبال تايمز»، هو شيجين.
حمزة الخنسا – الأخبار اللبنانية