استوعبت “إسرائيل” وهضمت عملية الردّ التي نفّذها حزب الله، في إثر الإغارة على الجنوب اللبناني، لأول مرة منذ وقف إطلاق النار في عدوان يوليو (2006). البعض من اللبنانيين يرفض عملية الردّ هذه، وأيّ ردّ آخر. وجهة نظر هؤلاء المعلَنة بجسارة اليوم، ليست كذلك على الدوام. وكثيراً ما تتخفّى، في انتظار التوقيت الملائم، إقليمياً ودولياً، ليخرج أصحابها إلى المنابر بكلام ممجوج، يُدين عمل المقاومة، ولا ينتبهوا لنبرة خطابهم، التي تلتقي بوضوح (وبلا أيّ تجنّ هنا)، مع وجهتَيِ المعتدِين في التكتيك والاستراتيجية. فإنْ كان ما يُقلق العدو هو المقاومة، فكراً وعملاً، يُلاقِهِ بانسجام من الضَّفة الأخرى، لبنانيون وعرب، اجتمعوا تحت لافتة “الاعتدال العربي”، الذي يتوسّل “تسوية” على حساب حقوق شعوبهم بالكامل في الحياة والكرامة، قبل أن تكون سياسات بائسة، لا تشي إلاّ بضدية العقل والمنطق.
أطاح كِيان الاحتلال الإسرائيلي منذ احتلاله فلسطين الأعرافَ والقوانين، ولم يلتفت إلى قرارات مجلس أمن، أو أمم متحدة، أو أيّ منظمة حقوقية. وعاش، كـ”دولة”، بعقلية عصابة تمارس الإرهاب، وترتكب الجرائم يومياً بحق الفلسطينيين بصورة خاصة، والعرب بصورة عامة. حتى اللحظة، لا يُرضي “تلَّ أبيب” هذا القَدْرُ من انبطاح “المعتدلين”، فداست هُراءات “مؤتمر مدريد” (1991)، وأوهامَ “اتفاق أوسلو” (1993)، وسخِرت من مبادرة الملك السعودي التطبيعية (مؤتمر القمة العربية، بيروت، 2002)؛ أي بعد عامين على نجاح فريدٍ للمقاومة اللبنانية في طرد قوات الاحتلال، وتحرير شبه كامل للتراب الوطني، ومن دون أي مفاوضات!
“المبادرة السعودية” من بيروت لم تكن صدفة بهذا المعنى. كذلك، هي تقاطع للمصالح “العميقة”، بين تيار “الاعتدال العربي” و”الحركة الصهيونية”. وهما لا يحتملان سابقة التحرير. بالنسبة إلى “تل أبيب”، تهزّ المُشاع “القهري”، والذي فحواه أن قوة جيشها لا تُهزَم. وبالنسبة إلى “المعتدلين العرب” من الحكّام والنخب، فإن التحرير، الذي أصبح واقعاً وحقيقة “تاريخيَّين”، لا بدّ من أن يشرّع الأبواب نحو التحرُّر، وإزالة عروش لـ”دول” لم ترقَ إلى مستوى الدولة الوطنية، الصانعة لإرادة الاستقلال.
لم يكن حضور لبنان تفصيلاً عابراً في العالم العربي. وشكلت بيروت، منذ منتصف القرن الماضي، منصّة للتصادم بين تيارات ومشارب، أكثر من مزاعم أنها “جسر” العلاقة بين الشرق والغرب.
نشوب القتال بين اللبنانيين عام 1958 لم يكن نتيجة أسباب محلية. ظلَّلته حماوة المواجهة بين طرفي “الحرب الباردة”: واشنطن وموسكو. كميل شمعون، الرئيس الثاني للجمهورية الأولى، تنحّى عن لقب “فتى العروبة الأغر”. رفض إدانة “العدوان الثلاثي” على مصر (1956)، وانحاز إلى “حلف بغداد”، وعارض الوحدة بين مصر وسوريا، وانخرط في المشروع الخارجي في مواجهة المشروع العربي.
سقط كميل شمعون، وصعد فؤاد شهاب، تحت مظلة عربية “ناصرية”، وقبول “أجنبي”. أتاحا امام السلطة الجديدة صناعةَ “فلسفة” سياسية تغلّف رؤيتها بشأن الحكم، فاستلهم من جديد شعار “الحياد”. وبلغ تشبيه لبنان بسويسرا حدودَ “هلوسة” أزالت عن السياسة تماسها مع الواقع، وقدَّست “التذبذب” الغامض في مقابل الموقف الواضح.
لفظت “الشهابية” أنفاسها عشية “صِدام” عام 1975، وأمعن اللبنانيون في سَفك دماء بعضهم بعضاً على مدى 15 عاماً. أدّت خلالها “الدولة” دوراً إدارياً لصراع “الدويلات السويسرية”، وانحازت في كثير من الأحيان إلى جهة “اليمين” بسبب تقارب أوهامه مع أوهامها، في أغلب التقدير.
يَضيق صدر حاملي شعار “الحياد” ومَن ينتقدهم، على حدّ سواء. والخلاف بينهما يكاد يكون جذرياً. “الحياديون” يستنجدون بهدنة لم يحترمها العدو لحظةً خلال سبعة عقود، و”الممانعون” يرتابون في طرح “الحياد” في المبدأ، ويشكّكون أكثر في إعادة تدويره في هذا التوقيت.
تكثيف الخطاب الحيادي لم يَعُدْ للتمايز في إطار التوازنات اللبنانية، وهو يؤكد الدور السياسي الخارجي في المأساة الاجتماعية الداخلية، ويخون بذلك مفهومه الحيادي، وينخرط إلى جانب من تراه شريحة واسعة من اللبنانيين عدواً، يخوض منذ نحو عامين حرباً اقتصادية على لبنان، من أجل انتزاع ما لم يستطع أخذه في الميدان.
مأزق “الحياد اللبناني” كمأزق “الاعتدال العربي”، فهما لا يحملان “جعبة” بالطبع، ويتمسّكان بخيار “تسووي” وحيد، يُفقدهما أيّ قدرة على المناورة “التفاوضية” أمام العدو من جهة، ويكشفان خواءً سياسياً يقدّم الانصياع للهيمنة على أنه أمر طبيعيّ، وليس فقداناً لحقوق، وقمعاً لإرادات.
إذاً، آلاف الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، واجتياحه مرتين، واحتلال عاصمته، لم تُسقط “اتفاق الهدنة” (عام 1949). فلا بدّ من تفسير لهذا الشذوذ عن “المنطق”، ومن مسؤولية “الحياديين”، أخلاقياً ووطنياً، الإجابة عنه.
حسين قطايا – الميادين