في مقاله المنشور حديثًا في مجلة فورين بوليسي الأمريكية تحت عنوان: “How Gaza Shattered the Postwar World Order” (كيف حطمت غزة النظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية) [[1]] يقول الكاتب والناقد الأدبي الهندي بانكاج ميشرا إن المحرقة النازية تركت ندوبًا على أجيال يهودية متعاقبة؛ وكان من الواضح بعد السابع من أكتوبر / تشرين الأول 2023، أن القيادة الإسرائيلية الأكثر تعصباً في التاريخ لم تتردد في استغلال ذلك الشعور اليهودي الدائم بالخوف والهلع؛ فقد ادعى زعماء إسرائيل الحق في الدفاع عن النفس ضد حماس، ولكن كما اعترف عمر بارتوف، المؤرخ البارز للمحرقة في أغسطس / آب 2024، فإنهم سعوا منذ البداية إلى “جعل قطاع غزة بأكمله غير صالح للسكن، وإنهاك سكانه إلى الحد الذي يجعلهم يموتون أو يبحثون عن كل الخيارات الممكنة للفرار من المنطقة”.
يقول ميشرا إن الضحايا في حرب غزة قد استشرفوا موتهم على وسائل الإعلام الرقمية قبل ساعات من قتلهم، بينما بث القتلة أنفسهم جرائمهم على منصة “تيك توك”. ومع ذلك، جرى التعتيم على عملية تصفية غزة التي كانت تحدث على الهواء مباشرة يوميًا بواسطة أدوات الهيمنة العسكرية والثقافية للغرب، وعلى يد زعماء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة الذين هاجموا المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، وعلى يد محرري صحيفة نيويورك تايمز الذين أصدروا تعليمات لموظفيهم، في مذكرة داخلية، لتجنب مصطلحات “مخيمات اللاجئين” و”الأراضي المحتلة” و”التطهير العرقي”.
وبينما كنا نواصل حياتنا كل يوم، كان مئات الناس العاديين يُقتلون أو يُجبرون على مشاهدة مقتل أطفالهم. وكانت المناشدات من الناس في غزة، وكثير منهم من الكتاب والصحفيين المعروفين، الذين حذروا من أنهم وأحباءهم على وشك القتل، تليها أنباء عن قتلهم، تزيد من إذلال العجز الجسدي والسياسي لمن يتابعون مجريات تلك الحرب. وقد تفرس البعض ممن دفعهم الشعور بالذنب بسبب العجز في وجه الرئيس الأميركي جو بايدن بحثا عن أي علامة على الرحمة، أو أي علامة على نهاية إراقة الدماء، ولكنهم وجدوا صلابة مخيفة، لم تكسرها إلا ابتسامة عصبية عندما تفوه بأكاذيب إسرائيلية مفادها أن الفلسطينيين قطعوا رؤوس أطفال إسرائيليين. وقد تحطمت بوحشية الآمال التي أثارها هذا القرار أو ذاك للأمم المتحدة، والنداءات المحمومة من المنظمات غير الحكومية الإنسانية، والقيود من قبل المحلفين في لاهاي، واستبدال بايدن في اللحظة الأخيرة كمرشح رئاسي بنائبته كامالا هاريس. وبحلول أواخر عام 2024، كان العديد من الأشخاص الذين يعيشون بعيدًا جدًا عن ميادين القتل في غزة يشعرون – على الرغم من أنهم بعيدون – أنهم قد تم جرهم إلى أرض غزة المخضبة بالدماء عبر مشهد ملحمي من البؤس والفشل والألم.
الحرب سوف تتحول في نهاية المطاف إلى جزء من الماضي، وقد يمحو الزمن الرعب الذي خيم على المكان. ولكن علامات الكارثة سوف تظل باقية في غزة لعقود من الزمان، في الأجساد الجريحة، والأطفال الأيتام، وأنقاض البيوت، والناس المشردين، وفي الحضور الشامل والوعي بالحزن الجماعي. وأولئك الذين شاهدوا عن بعد قتل وتشويه عشرات الآلاف على شريط ساحلي ضيق، وشهدوا أيضاً تصفيق أو عدم اكتراث الأقوياء. هؤلاء سيعيشون بجرح داخلي، وصدمة لن تزول لسنوات.
إن القسوة التي صاحبت المذابح الجماعية ليست غير مسبوقة. فمنذ عقود من الزمان، كانت المحرقة النازية بمثابة معيار للشر البشري، حيث قوضت تلك الأحداث التي وقعت عشية الحرب العالمية الثانية في الذاكرة الحية الافتراض الأساسي لكل من التقاليد الدينية والتنوير العلماني بأن البشر لديهم طبيعة “أخلاقية” أساسية. والآن أصبح الشك المدمر في أنهم ليسوا كذلك منتشراً على نطاق واسع. فقد شهد العديد من الناس عن كثب الموت والقسوة؛ وهم يدركون بصدمة أن كل شيء ممكن، وأن تذكر الفظائع الماضية لا يضمن عدم تكرارها في الحاضر، وأن أسس القانون الدولي والأخلاق ليست محفوظة على الإطلاق من الانتهاك الدائم والمستمر.
لقد جرت أحداث كثيرة في العالم في السنوات الأخيرة: كوارث طبيعية، وانهيارات مالية، وزلازل سياسية، وجائحة عالمية، وحروب غزو وانتقام (مثل الحرب الروسية – الأوكرانية). ومع ذلك، لا توجد كارثة تقارن بغزة – لا شيء تركنا بهذا القدر الذي لا يطاق من الحزن والحيرة وألم الضمير. لم ينتج عن أي من تلك الأحداث الكبرى الكثير من الأدلة المخزية على افتقارنا إلى العاطفة، ومعاناتنا من ضيق الأفق، وضعف الفكر؛ فقد تم دفع جيل كامل من الشباب في الغرب إلى مرحلة الرشد الأخلاقي من خلال أقوال وأفعال (وتقاعس) شيوخهم في السياسة والصحافة، وأُجبروا بمفردهم تقريبًا على الانتفاض ضد أعمال الوحشية التي ساعدتها أغنى وأقوى الديمقراطيات في العالم.
كان حقد بايدن العنيد وقسوته تجاه الفلسطينيين مجرد واحد من العديد من الألغاز المروعة التي قدمها الساسة والصحفيون الغربيون. كان من السهل على القادة الغربيين أن يمتنعوا عن تقديم الدعم غير المشروط لنظام متطرف في إسرائيل والاعتراف بضرورة ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب وتقديمهم للعدالة في السابع من أكتوبر / تشرين الأول. فلماذا إذن ادعى بايدن مرارا وتكرارا أنه شاهد مقاطع فيديو فظائع غير موجودة؟ لماذا أكد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، وهو محام سابق في مجال حقوق الإنسان، أن إسرائيل “لها الحق” في حجب الطاقة والمياه عن الفلسطينيين، وعن عزمه معاقبة أعضاء حزبه الذين يدعون إلى وقف إطلاق النار؟ ولماذا قفز الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، البطل البليغ للتنوير الغربي، للدفاع عن مرتكبي التطهير العرقي؟
ما الذي دفع مجلة “أتلانتيك”، إحدى أقدم الدوريات في الولايات المتحدة، إلى نشر مقال يزعم، بعد مقتل ما يقرب من 8000 طفل في غزة، أن “قتل الأطفال أمر ممكن قانونيًا”؟
وما الذي يفسر اللجوء إلى صيغة المبني للمجهول في وسائل الإعلام الغربية السائدة أثناء تغطية الفظائع الإسرائيلية، الأمر الذي جعل من الصعب معرفة من يفعل ماذا لمن، وتحت أي ظروف.
ولماذا ساعد المليارديرات الأميركيون في تحفيز حملات القمع الوحشية ضد المحتجين في الحرم الجامعي؟ ولماذا تم فصل الأكاديميين والصحافيين، وجرى حظر الفنانين والمفكرين من العمل، ومُنع الشباب من العمل والتوظف لمجرد أنهم يتحدون الإجماع المؤيد لإسرائيل؟
يقول ميشرا في ختام مقاله إنه بغض النظر عن الكيفية التي نتعامل بها مع هذه الأسئلة، فإنها تجبرنا على النظر الآن مباشرة إلى الظاهرة التي نواجهها وهي الكارثة التي تسببت فيها الديمقراطيات الغربية بشكل مشترك، والتي دمرت الوهم الضروري الذي نشأ بعد هزيمة الفاشية والنازية في عام 1945 حول حقيقة وجود إنسانية مشتركة في هذا العالم يدعمها مبدأ احترام حقوق الإنسان والحد الأدنى من المعايير القانونية والسياسية.
[[1]]https://foreignpolicy.com/2025/02/07/pankaj-mishra-world-after-gaza-book-israel-war-global-order-history/
أواصر