تحــــدّيات جــديــدة تواجه المجتمـــع المــقاوم

مقدمة

بعد أكثر من أربعين عامًا على تأسيسه وقيامه، واجه المجتمع المقاوم في لبنان تغّيّرات كبيرة، بسبب الحرب الإسرائيلية الأخيرة التي بدأت مع معركة طوفان الأقصى، وبسبب قرار الإسناد الذي اتّخذه الحزب لمساعدة غزة وأبنائها وأهلها الذين تعرّضوا لمظلومية عالمية شديدة، ولحرب إبادة من قبل الكيان الصهيوني الاحتلالي.

خلال العام 2024 حصلت في لبنان أكثر الضربات قساوة: اغتيال القادة الكبار بعد مطاردات حثيثة، تفجيرات البايجر، اغتيال الأمين العام، هدم ستين قرية حدودية، تهجير آلاف العائلات إثر تدمير المباني والمنشآت، استشهاد أكثر من خمسة آلاف شخص، جرح حوالي العشرة آلاف شخص، خسائر مادية ومعنوية كثيرة.  فما العناوين/ المدخلات التي ينبغي التفكير إزاءها من جديد لمعاودة النهوض الفعلي بعد تلقّي خسائر موجعة؟ فيما يلي مطالعة لأبرز النقاط.

1.    الهوية وتحديد الذات – Identity and self-identification

 لا ينبغي الخوف من موضوع الهوية لأنها تستند إلى مرجعية تاريخية ودينية وتراثية مهمة.  تقوم هوية هذا المجتمع على ذخيرة عقود زمنيه طويلة، فهي ليست وليدة زمن حديث، كالهوية الأميركية مثلًا أو الخليجية المنبتّة، بمعنى الموجودة بلا جذور. الهوية هنا ليست فرديه أبدًا بل هي هوية جماعية كبيرة وممتدة أفقياً وعموديًا. تلتقي أفقيًا مع المسلمين/الشيعة على امتداد الكرة الأرضية، وتلتقي عموديًا مع امتداداتها الدينية والعقائدية بعمق 1400 سنة، لذلك لا خوف عليها.

هذه الهوية اليوم موجودة ضمن دولة لها حدود جغرافية، وتقوم على التعدّدية والتنوع واختلاف العقائد والمبادئ. وعلى الرغم من ذلك، تملك خصوصية فريدة، فهي ممزوجة بالفخر والاعتزاز لأنها هوية المجتمع المقاوم، الذي لم يعتدِ ولم يظلِم، بل اعتُدِي عليه وظُلم فقاوم وقاتل حتى انتصر، لذلك هي هوية تختلف عن هويات المجتمعات الاحتلالية أو الاستيطانية أو المهيمنة والمعتدِية التي تعيش الفوقية والرعب في آن واحد، وتتمايز عن هويات المجتمعات التي تعيش الذل أو الانكسار (نتيجة سلطة ملكية حاكِمة أو نظام ديكتاتوري)، وتختلف عن مجتمعات المهزومين بفعل الفقر أو الجوع أو الاستبداد أو التبعية. تقوم هوية هذا المجتمع وتستمر بسبب تحقّق الإشباع الفكري، والعقائدي، والأخلاقي، والمعيشي المادي، والروحي المعنوي. إنها هوية مشبعة لذلك لا يمكن كسرها ولا إلغاؤها.

هوية المجتمع المقاوم لا نجدها في أي مكان، أو عند أي من الشعوب، لأنها تستند الى تجربة واقعية وحقيقية. بقيت الشعوب تحتفل بالثورة الكوبية وبالرمز تشي فيفارا لأنه مقاوم تحدّى الاحتلال والتبعية، مثل غاندي الذي تحدّى الاحتلال الإنكليزي، وفيدل كاسترو في كوبا والجنرال ألليندي في تشيلي، الذين تحدّيا الإمبريالية الأميركية، وعبد الناصر في مصر، والإمام الخميني في إيران وغيرهم. هؤلاء أعطوا لمجتمعاتهم وبيئاتهم خصوصية تميّزهم عن الآخرين، لقد اختبروا مقاومة التبعية ومقاومة الاحتلال، ونجحوا في تقديم مفاهيم متعددة للرمز المقاوم والهوية المقاومة التي لا يطمسها التاريخ مهما حاول “المستكبرون” في الأرض تهشيمها أو تهميشها.

أبناء المجتمع المقاوم، هم فقط من يحقّ لهم الانتساب الى هذه الهوية كمنتمين درجة أولى. لكنها هوية مفتوحة، أي قابلة لاحتواء الآخرين المنضوين تحت رايتها وشعاراتها، مثل ما كان يحصل مع مؤيّدي المقاومة في لبنان من المسيحيين ومن غير اللبنانيين. فالانتماء لهذه الهوية موضوع غير سهل، لأنه يتطلّب من المنتمي أن يملك (بالقول والفعل) الإحساس الدائم بالمسؤولية والقابلية الدائمة للتضحية والبذل، ضمن مسارٍ تاريخي قام على الإحساس بالمسؤولية والتضحية والبذل، وهذا ما قد لا نجده في مجتمعات أخرى.

هذه الهوية هوية شفهية وتدوينية، تعرّضت تاريخيًا للظلم والانسحاق في بعض مراحلها (المرحلة اليزيدية/المرحلة المملوكية/المرحلة العثمانية/مرحلة الاستعمار الفرنسي) لذلك تحتاج إلى تأريخٍ ينصفها بوجه تاريخٍ مزوّرٍ عمل على الإساءة إليها، والانتقاص من أدوارها، وتهميشها ومحاولات إلغائها، كما حاول الكثيرون منذ قرون، لكنها استمرت بفضل عوامل متعددة. لا بدّ للتاريخ أن يحكي أن ملايين الناس حول العالم كانت تردّد مقولة “يكفينا أننا عشنا في زمن السيد نصر الله، وسنحدّث أولادنا وأحفادنا عنه”، هذا جزء من هذه الهوية التي شغلت العالم المعادي، فأقبل على دراستها وتفكيكها لمعرفة أسرار تميّزها، وهو تميّز برز في خريف 2024 حين عجزت أقوى جيوش العالم عن التقدم لأمتار في الجنوب اللبناني بسبب المقاومة وأبنائها المخلصين، الذين بقيت جثثهم تحت أنقاض البيوت والغارات أكثر من ثلاثة أشهر. هذه الهوية بدأت بالسطوع منذ سبعينات القرن العشرين عندما بدأ بعض الأفراد والجماعات والأحزاب التفكير، ثم العمل، للوقوف بوجه المحتل الإسرائيلي، ثم برزت أكثر في العام 1982 تاريخ الغزو الإسرائيلي لبيروت وانطلاق أكثر من جبهة المقاومة، وظلّت تنمو وتتّسع حتى العام 2024، تاريخ العدوان الإسرائيلي الأشرس، واستشهاد السيد نصر الله وما تبع ذلك من حربٍ دموية، أوهمت البعض في لبنان وخارجَه بأن أبناء الطائفة انتهوا، ومن بقي منهم لن يستطيع رفع رأسه، وحان الوقت لإعادة من بقي منهم إلى أدوارهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي خلّفها الاستعمار الفرنسي حتى السبعينات. هذه الهوية التي كانت ضامرة وغير مرئية في بداية القرن العشرين، كانت الهوية الأبرز مع نهايات القرن العشرين، وتحديدا منذ أيار 2000 حين سارع العالم كله متسائلًا: من هم هؤلاء الذي قهروا إسرائيل وانتصروا؟ لمن يتبعون وكيف يعيشون؟

هذه الهوية تتعرض منذ لحظة استشهاد السيد نصر الله، لمحاولات الإلغاء والتهميش والشيطنة، حتى وصل الأمر بإحدى الفضائيات اللبنانية إلى أن تخصّص برامجها لأيام وأسابيع، لاستضافة شخصيات إعلامية وسياسية للمشاركة في حوارات مكثّفة تحت عناوين: انتهاء القوة الشيعية في المنطقة/ الذل الشيعي في الحرب الأخيرة من كرتونة الإعاشة إلى الفرشة/ لماذا يملكون هذا المال الوفير/…الخ.

كيف ينبغي أن يُقرأ هذا الفعل العدواني الثقافي والفكري غير العسكري؟ وكيف يتم الردّ عليه ومواجهته؟ سوى بتعزيز هذا المجتمع وبذل كل الجهود لإعادة شحن قواه السياسية والاقتصادية والتربوية والعمرانية. (أشار أحد الضيوف إلى هيمنة ثقافة ما، على الوزارات في البلد، مثل الثقافة والتربية والتعليم، معتبرًا أن الموضوع يشكل خطرا كبيرا جدا، ينبغي الوقوف بوجهه وعدم القبول به مستقبلًا، قال: “هؤلاء يرسمون ثقافة معينة ويسيطرون على ثقافة البلد وعلى الفكر فيه وعلى التربية ومؤسسات التعليم والتأليف…” هذه الهوية المميزة والفريدة تشكّل خطرًا على الآخر من دون أن تستعديه، في الوقت الذي يعلَن فيه عن إلغاء أجزاء من دروس التربية والدين والعلوم وغيرها من المناهج التعليمية والفكرية في مجتمع مجاور، من دون أن نسمع صوت هؤلاء.

2.    الاستقرار- stability

الاستقرار حاجة فطرية وغريزية مقرونة بحركة التمدّن شبه الثابتة، التي تناقض حركة البداوة المتنقلة، إذ يطمح الإنسان إلى الاستقرار في المكان والبيت والعائلة والعمل، فيعيشه من دون أن ينتبه له.

صارت كلمة الاستقرار حساسة جداً بعد المفترق السياسي والمعيشي الذي عاشه المجتمع، على قاعدة “لا يعرف المرء قيمة الشيء إلّا بعد أن يفقده”. مع فقدِهِ في البلدة (الخط الأمامي) أولًا، ثم بعد فقدِهِ في جغرافية أوسع، وصولًا إلى خسارة الاستقرار العائلي والمنزلي والمهني، مع التدمير الذي طال جزءاً من البيوت والمنازل والشوارع والطرقات والمؤسسات، استشعر الكثيرون اهتزاز الاستقرار بعد تحوّله إلى حال مفقود، فتحوّل إلى هدف منشود.

المشكلة ليست فيمن يستطيع استعادة استقراره إلى ما كان عليه، وسيبذل جهودًا مضنية للاسترجاع، لكن المشكلة هي في الاستقرار الذي يصعب استعادته عند الكثيرين ممن انقلبت حياتهم رأسًا على عقب (لن نقدم أمثلة على وقائع لا تعد ولا تحصى).

بعد تحوّل الاستقرار إلى حالة متأرجحة، بات اليوم هاجسًا رئيسًا يولّد هواجس ثانوية وأفكارًا كثيرة زائدة في مختلف المستويات الحياتية، عند النساء والرجال، والكبار والصغار، والطلاب والمراهقين، والمقبلين على الزواج والساعين لتحقيق مشاريع خاصة، وعند المرضى والأصحّاء، والتجّار والمزارعين والصناعيين، والجميع.

لأجل ذلك يُطرح السؤال: كيف أستعيد الحد الأدنى من الاستقرار المفقود؟

تقوم محاولة استعادة الاستقرار على العناوين التالية:

  • أوّلًا: التعوّد على التكيّف مع الواقع. هو الأمر الأساس والأهم. سيقول كثيرون إن التكيّف صعب جدًا وقد لا يحصل، لكن التكيّف مع الوضعيات الطارئة يسهّل أمورًا كثيرة ويجنّب الفرد الخضّات النفسية والمعنوية. المطلوب: محاولة التكيّف مع الواقع حتى لو كان أدنى من طموحاتي. هذا التعوّد يحتاج إلى جهود نفسية وجسدية حتى يسترجع الإنسان جزءًا من الاستقرار.
  • ثانيًا: وضع هدف قابل للتحقيق في متناول الواقع. سيجد البعض أن الحديث عن هدف في ظروفٍ غير مستقرة ضرب من خيال. لذلك ليس المطلوب أن يكون الهدف كبيرًا أو خياليًا، يكفي أن يكون هدفًا متواضعاً يتلاءم مع الظروف الموجودة والخاصّة بكل فرد. (أحيانًا يكون الهدف بسيطًا جدا مثل إعداد طبخة معينة ودعوة البعض إلى الغداء أو العشاء لخلق أجواء متجددة/ زراعة بعض النباتات في الشرفة والاهتمام بها/ القيام بزيارة أسبوعية لمكان ما أو جماعة/ مساعدة أحد الأبناء أو الإخوة ليفتح مشروعًا صغيرًا…)
  • ثالثًا: محاولة استعادة المفقود الذي كان جزءًا من الحياة المستقرة. مثلًا: العودة للتواصل مع الأصدقاء الذين تفرّقوا، الانشغال ببعض الهوايات التي تركتها، البحث عن انشغالات تملأ الوقت وتقي من مساوئ الفراغ، التفكير بإيجابية في خطط للمستقبل القريب وليس البعيد.
  • رابعًا: المطلوب الاستخفاف بالانفعالات السيّئة وعدم المبالغة في مشاعر الإحباط أو الخسارة. ليس من المنطق أن ينشغل الإنسان الساعي للاستقرار والراحة بالمشاعر السلبية، التي تقوّض الأفكار وتزيد من الهموم، فالخروج من حالة اللاإستقرار نحو الاستقرار تتطلّب إرادة وإصرارًا قبل كل شيء، على الاستقرار. (إذا كانت متابعة الأخبار ومشاهدة الفيديوهات تسبّب لي مشاعر سلبية أتخلّى عنها/ البقاء مع أشخاص من ذوي الطاقة السلبية يلحق ضررًا بي أخفّف من لقاءاتي به…)

3.    الأمان الوظيفي- Job security

 الأمان الوظيفي عامل استقرار مهم خلال الأزمات، وهو مسؤولية فردية وجماعية. يخلق فقدانه هواجس متعِبة ومقلقة. ماذا لو ذهب الأمان الوظيفي وفقد الكثيرون وظائفهم وأعمالهم ومشاريعهم؟  ولا يُعقل مع تفاقم الأزمات والمصائب أن يفقد الإنسان عمله وراتبه ومصادر دخله. وقد حصل هذا الأمر ويحصل تكرارًا، خلال الأزمات التي تنتج إغلاقات أو دمارًا أو تهديمًا أو عدم القدرة على الوصول بسبب انعدام الأمن أو السبل.

كيف أسعى لتحقيق الأمان الوظيفي لنفسي وللآخرين؟ هذه بعض الإضاءات الفردية والمؤسساتية:

  • النصيحة الأولى: محاولة امتلاك أكثر من مصدر واحد للدخل. (كأن يكون موظفًا بدوامٍ في مؤسسة، ويعمل لحسابه الخاص في أوقات أخرى).
  • معرفة مهارات متعددة. وهذه أمور صارت سهلة في أيامنا الحالية بسبب غزارة المعلومات المتوفرة. (نلتقي في بعض الأحيان بشخص يجيد تصليحات الكهرباء والأدوات الصحية والميكانيك في الوقت نفسه، هذا الشخص مطلوب دائمًا للعمل ولا يعيش هواجس الأمان الوظيفي خلال الأزمات أو من دونها).
  • الاستفادة من ممارسة بعض الأعمال أو متابعة بعض الأنشطة أو تعلّم بعض المهارات عبر الإنترنت.
  • إذا كان الفتى أو الفتاة في مرحلة الجامعة يُنصح بدراسة أكثر من اختصاص (وهو أمر متاح وسهل ويقوم به كثيرون، مثل دراسة الهندسة واللغات/ القانون والتاريخ/ المحاسبة والتسويق/ التصميم والميكانيك…الخ) هذا الموضوع يحقّق تقديراً عن الذات لجهة الأمان الوظيفي، أكثر من الشخص الذي تخصّص في مجال واحد ومحدّد فقط.
  • بالنسبة للمؤسسات، يرتبط الأمان الوظيفي بوجود فرص اجتماعية واقتصادية متعددة، مثل المشاريع المعروضة والمتاحة وتوفّر الطلبات التي تحتاج إلى جهود جماعية لإنجازها. المؤسسة المميزة هي التي تستطيع الحصول دائماً على مشاريع تشغيلية طويلة الأمد تحمي بها العاملين لديها.
  • يرتبط الأمان الوظيفي في المؤسسات بوجود ميزانيات جيدة تسيّر العمل، إذا عانت مؤسسة كبيرة وضخمة من خلل في الميزانية فإن ذلك سيشكّل تهديدا للعاملين لديها وتهديدًا لأمنهم الوظيفي. لذلك ينبغي على أصحاب المؤسسات أن يكون لديهم معرفة مسبقة بأعمالهم ومشاريعهم ومدى استمراريتها حتى لا يظلموا العاملين لديهم إذا ما تعرّضوا لأي انتكاسة تهدّد أعمالهم. هناك تهديدات مفاجئة قد لا يستطيع أرباب العمل الاحتياط المسبق لها، كما حصل مع الحرب والتدمير، ولكن هناك مشاكل تحدث بعد توقّعات، يمكن تجنّب الوقوع فيها.
  • يرتبط الأمان الوظيفي أيضًا بالمكان الذي تقوم عليه المؤسسة: من يعمل في مؤسسة موجودة في عيتا الشعب لا يشبه من يعمل في مؤسسة في بيروت من ناحية الوجود على مسافة قريبة من العدو. من يعمل في تنورين أو ضهر البيدر عليه أن يفكر بأسابيع من التعطيل وتوقّف الإنتاجية إذا ساءت الأحوال الجوية. فالمطلوب هنا أمران: اختيار مكان للعمل لا يشكل ضغوطًا مستقبلية، أو الاحتياط بخطط بديلة وجاهزة في حال حدوث مشاكل معيقة. التفكير بالخطة البديلة يكون حسب الوضع الخاص بإمكانيات كل مؤسسة ونوعيتها. وهذه إضاءات تخص أرباب المؤسسات الذين يفكرون بالأمان الوظيفي للعاملين لديهم. (منذ حرب الإسناد تعطّلت مئات المؤسسات الإنتاجية في بلدات المواجهة، وخلال الحرب تعطّلت وتدمّرت مئات المؤسسات الأخرى في منطقة البقاع مثلُا، ما نتج عنه خسارة مئات العائلات لأعمالها ومشاريعها الإنتاجية). البحث عن المكان الأكثر تناسبًا مع الحاجات والأكثر راحةً للعاملين.

(ملاحظة: تلفت الانتباه في هذه الأيام نسبة الإعلانات عن بيع البيوت والبنايات والأرض في مناطق لبنانية معيّنه كان من الصعب أن يعثر فيها الإنسان قبل فتره على بيت أو مسكن أو أرض. الإعلان عن البيع يدل على أن شريحة معيّنة من المجتمع فقدت الإحساس بالاستقرار وبالأمان وهذا يتطلّب جهودًا لعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه).

4.    غياب الرمز/ غياب القائد Absence of the symbol/leader

يشكّل غياب القائد/الرمز خللًا بنيويًا كبيرًا في سيكولوجية الجماعة، نظرًا لمكانته ودوره ومهامه وتأثيره على القاعدة. تدلّ القراءات التاريخية على أن معظم الجماعات تنتهي وتضمحل بغياب قائدها، بحسب شخصية القائد ومواصفاته التاريخية والزمكانية، أي بحسب الحقبة التاريخية التي يعيش فيها، والبيئة الجغرافية التي ينتمي إليها[1].

إنّ مدى التأثير الذي يتركه القائد وحضوره في أتباعه، يكون بحسب الجماعة التي يقودها، فهي تختلف من قبيلةٍ وعشيرةٍ إلى حزب أو بلد أو ثورة أو مجتمع. وينتهي ذكر القائد عادة إلّا في المناسبات، وهو الأمر الذي لا يحصل في الجماعات العقائدية المرتبطة بالدين ارتباطًا وثيقًا، كما حصل مع الدين الإسلامي الذي لم ينتهِ بوفاة الرسول (ص)، ومع الثورة الحسينية التي ازدادت توهّجا وتأثيرًا بعد استشهاد قائدها، وهذا ما لم يتشابه مع غياب الرمز في التاريخ المعاصر.

لتخطّي مأساة غياب القائد، يستلزم -بالضرورة- على الجماهير والأتباع، أن يتخطّوا مراحل الحداد الخمس[2]، مع الإشارة إلى أن المراحل ليس بالضرورة أن تكون ترتيبية، بل يمكن للمرء أن يتنقّل من حالة إلى أخرى.

بعد إشباع مراحل الحداد التي تستغرق حوالي العام – ربما أكثر أو أقل لدى البعض- تبدأ استعادة الحياة بطرق شبه طبيعية. وإذا كان القائد/الرمز قد خلف تركةً كبيرةً من المسؤوليات والتحدّيات والأمانة، نقترح عدم التراخي في عبور مرحلة الحداد، حيث تُجبر الظروف على الإسراع في التعافي/ من باب الوفاء للقائد الذي بذل حياته وروحه ودمه ومماته في سبيل قضية مبدئية كبيرة. إذا كنت تريد الوفاء لهذا القائد عليك أن تستكمل ما بدأه، أن تتابع نهجه، وأن تكمل ما كان يقوله طيلة أربعين عامًا.  يجب أن يتحوّل الحزن المتجذّر على غياب القائد إلى غضبٍ دائمٍ على أعدائه. ينبغي أيضًا أن يتحوّل غياب القائد مع آلاف الشهداء الى تخطيطٍ واعٍ ومنظّم ومدروس، باتجاه تطوير الكفاءات العلمية والتقنية والقدرات البشرية واللوجستية، هذا أمر أساسي وبديهي يأتي على رأس الأولويات. إن غياب الرمز بطريقة الاغتيال المتوحّش، يشكّل دافعًا للثأر من القتلة والمجرمين، وحافزاً كبيرًا لمتابعة الطريق والتمسّك بالنهج الذي استشهد في سبيله الشهداء المخلصون.

كيف أقّلل من معاناة غياب القائد/ الرمز؟ هنا بعض التوصيات:

  1. على قدر الحزن يجب أن يكون العمل والوفاء للنهج. وعلى قدر الرمز الذي غاب ينبغي أن تكون المسؤولية. الوفاء للقائد يتطلّب من الأتباع جميعهم أن يكونوا على صورته وأن يتماهوا مع أقواله ووصاياه ونهجه وتعليماته.
  2. التغيير هدف أساسي بعد كلّ ما جرى وكشف عن أخطاء وثغرات. إذا كان القائد قد استشهد هل أتابع حياتي بقضاء معظم الوقت في المقاهي؟ ومن جلسة إلى أخرى؟ مع الثرثرة العالية بما لا يجب أن يُحكى عنه أو يُتداول به؟
  3. شعار المرحلة الحالية هو: من لم تغيّره حرب 2024 فلن يستطيع إكمال المسيرة. فالمطلوب تغيير النمط القديم القائم على الثرثرة والاستخفاف والتهاون وتضييع الوقت والاستسلام لإغراء التقنيات التي تسبّبت بالكوارث.
  4. لا مجال للتقاعس إذا كان في كل قرية عشرات الشهداء. استشهاد الرمز يشكّل حافزًا لا نظير له للاندفاع نحو التضحية والبذل وهذا ما ينبغي أن يشكّل عامل قوة وليس عامل تراجع.
  5. من واجب الجميع التذكير الدائم في كل زمان ومكان بالقائد الاستثنائي الذي استشهد في سبيل مبادئه التي لم يحد عنها ولم يغيّرها، وكيف كان ثابت الموقف طيلة أربعين عامًا. التذكير بأنه كان بإمكانه أن يتنازلَ ويحققَ مكاسب مادية خيالية لشخصِهِ ولعائلته ولمقرّبيه وأعوانِه وجمهوره. كان بإمكانه أن يقول جملة واحدة “نتخلّى عن فلسطين وغزة” لتفتح أمامه بوابات العالم المنافق ودبلوماسيّاته وثرواته، لكنه كان حسينيّا -كجدّه- في القول والفعل، طبّق بشهادته كل حرف كان يخطب فيه في ليالي عاشوراء.
  6. الانتباه لمحاولات الشيطنة والتشويه والإساءة التي ستستهدف صورة القائد وقيمه ومواقفه للتشكيك بشخصه وتاريخه. (نتذكر أنه بعد 20 عامًا على موت عبد الناصر، قامت فجأة في التسعينات حملات منظمة لرسم صورة جديدة له، وتقزيمه من بطل قومي إلى منفّذ أجندات خارجية وشخصية، ربما للتأثير في الجيل الجديد الذي لم يعرفه/نتذكر أيضًا حملات التشوية العالمية والإساءة لدور السيد الشهيد ومواقفه بعد هزيمة الكيان في 2000 و2006 وكيف انتهت).
  7. في حياة القائد لا خوف على إنجاز المهام وتحقيق الأهداف وتحفيز الجماعة، ولكن بعد غيابه تصبح مسؤولية الجميع وضع الرؤى وتبيان المواقف وشرح الأهداف والتأثير الإيجابي على الآخرين لأداء أدوارهم ورفع الروح المعنوية.
  8. احترامًا لذكرى القائد وحفاظًا على نهجه، يفترض بجمهوره التعالي عن صغائر الأمور التي لا تحقق أهدافّا.
  9. يخلق غياب القائد/الرمز في العادة، فراغات تخلق الضياع أو التشتّت، وهذا ما يتطلّب العمل لتلافيه وتجنّب حصوله.

كيف أكون على صورة قائدي؟ عشر ميمات لا يجب أن تغيب

  1. مضحّي: غياب الرمز المضحّي يستوجب من الأتباع والمخلصين والمتمسّكين بنهجه أن يقلّدوه في التضحية، أو يستضيئوا بخصاله. يجب على الأتباع أن يستسهلوا التضحية بأنفسهم وأرواحهم وأولادهم وراحتهم الشخصية ومتع الحياة، لأن العبرة من الوجود في هذه الحياة هو أن يبني الإنسان للآخرة، وأن يجهّز لها كما كان يقول ويكرر. ليست العبرة (كيف) أعيش أو أحيا؟ بمقدار ما هي (لماذا) أعيش وأحيا؟
  2. منجِز: أن يكون قائدي طيلة 33 عامًا شخصًا منجِزًا من طراز نادر، يحتّم عليّ أن اقتدي به وأن أسائل نفسي كل يوم وكل شهر “ماذا أنجزت؟” والإنجاز هنا ليس مصلحة فردية بل هو إنجاز لخدمة الآخر، إنجاز للارتقاء بالمجتمع، لقيادة الأمة عبر التبيين والشروحات، هو إنجاز للنصر، للعدّة والاستعداد، لمواجهة العدو، لتوعية الأمة…الخ. ماذا لو سأل كل واحدٍ منا نفسه: ماذا أنجزت؟ هل ستكون الإجابة مقنعة لنا ومريحة للضمائر المعذبة التي تبحث عن أي خيط للوفاء بالدين الكبير؟
  3. متحدِّث: بمعنى الإمساك الواثق بمفاصل الحديث والخطاب. تحضر هنا أقوال الشخصيات المميزة التي وصفت انطباعاتها بعد الجلوس معه والاستماع إلى حديثه وتسلسل أفكاره، مثل محمد حسنين هيكل وآخرون. ويحضر تاريخ طويل جدًا من الخطابات، التي ستشكّل القوت الفكري والعقائدي لأجيال قادمة.
  4. مستنهِض ومحفِّز: الاستنهاض جزء أساس من خطابه التعبوي الذي يشكّل بحدّ ذاته مجموعة من الحوافز التي تحرّك التفكير والهمم. وفي مثل الظروف الحالية أكثر ما يحتاجه المجتمع هو التحفيز والاستنهاض.
  5. متحمِّس: الحماس هنا هو للخير ضد الباطل، حماس للمضي بشوق إلى حيث يريد الله من عباده. كان القائد استثنائيا في حماسه الخطابي الداعي إلى الله، حماسيا في الحديث عن المقاومة وعن المجاهدين وعن الشهداء وعن الناس البسطاء والعاديين الذين ألهب حماسهم بكلمات بسيطة حين ناداهم “يا أشرف الناس وأكرم الناس وأطهر الناس” فصارت لازمة ترددها الأجيال.
  6. ممتلئ بالطاقة الإيجابية: لم يكن ممتلئًا فحسب بل فيّاضًا، ذكر أشخاص من القارات الخمس أنهم حين كانوا ينظرون إليه ويستمعون إلى كلامه، كانوا يستشعرون نوعًا غريبًا من الطاقة الإيجابية تسري وتنتقل إليهم. لم يكن مصطلح “الطاقة الإيجابية” منتشراً وشائعاً كما اليوم، حين كان الآلاف يتحدثون بغرابة عمّا يتركه فيهم أثر كلماته وحديثه وصورته. أذكر تماماً في فعاليات متعددة في المغرب والقاهرة إعلاميين وإعلاميات من الكبار قالوا بالحرف: يكفي أن ننظر إلى صورته حتى نستمد الطاقة الإيجابية”.
  7. متعاطِف في أدقّ التفاصيل: المقصود بالتعاطف هنا هو الذكاء الاجتماعي الذي يمنح صاحبه ملكة اختراق القلوب والعقول، وإظهار العاطفة في آن واحد. يتذكر الجميع حين كان يتلفظ بأسماء بعض الأشخاص أو الجماعات (خصوصا في فلسطين) أي آثار كانت تترتب على عاطفته، أو حين كان يتحدث عن الشهداء أو الجرحى، ولن ينسى مواقفه التي سال فيها دمعه تأثرا، وهذا دليل على الإنسانية المفرطة لديه، فلا الموقعية جرّدته من العاطفة ولا الاعتبارات الأخرى.
  8. متواصل: لم يوفّر فرصة ولا مناسبة ولا ذكرى إلا واستفاد منها لتمرير رسائله الهادفة لبناء الإنسان كما يريده الله تعالى. لم يكن القائد يدع أي مناسبة تمرّ من دون التواصل الذي يحسنه ويحرص عليه، هذا التواصل الذي بقي اليوم ذخيرة جيدة للأجيال القادمة والتاريخ القادم.
  9. متحمِل للأعباء: من الشائع أن يوزّع القائد الأعباء على المحيطين به أو مستشاريه، لأنه لا يستطيع الإحاطة بالصغيرة والكبيرة، لكنه كان متفرّدا حتى بحمل الهموم. كان الكل يلقي إليه بالمسؤوليات. يرمون أحمالهم له، يتركون له المشاكل والأزمات ويطلبون الحلّ. وكان يتابع الصغيرة والكبيرة بحرص شديد ومن دون تذمّر أو تعب. في هذه السمات الشخصية دعوة مفتوحة للجميع “كونوا على صورة قائدكم كي يمرّ الغياب خفيفا”.
  10. مصداق: ورد في اللغة، أن المصداق كثير الصِّدْق. لكن مصداقيته شغلت العدو قبل الصديق، وتسبّبت بأزمات للبعض وبإحراجات لخصومه، فهو يفي بما يعد، يصدق بما يقول ويفعل ما يعلن عنه. وكما تظهر البقعة البيضاء في الثوب بالأسود، يظهر صدقه بين الزعماء والقادة الذين يميّعون الحقائق باسم الدبلوماسية وباسم السياسة، هو القائد الصادق الأمين، بضعة من جدّه وعلى خطاه.

وفقًا لخبراء علم النفس، يشير مصطلح “الاستمرارية” إلى القدرة على المتابعة، بالطريقة نفسها التي كان المرء معتادًا عليها في الحياة والعمل والعلاقات والنظرة إلى الأمور. ويشبّه البعض الاستمرارية بالأحوال الطبيعية التي تسير في دورةٍ لا تنتهي، مثل تدفّق المياه وجريانها أو استمرار نمو النباتات وتكاثرها. لكن الاستمرارية تشكّل تحديًا جديدًا ومنهِكًا، في حال اختلاف الظروف والمقوّمات وخروجها عن المألوف، وازدياد الحاجات والمتطلّبات.

فالاستمرارية في تعريفها العملي هي الالتزام بأداء أدوار معينة بوتيرة ثابتة ودائمة، وهي دليل عافية إذا ارتبطت بالقدرة على الإنجاز والفعل، مثل المعلّم الذي اعتاد على الذهاب إلى مؤسسة تعليمية وإعطاء الدروس، أو الطبيب الذي يعالج المرضى، أو الأم التي تتكفّل بمتابعة عشرات التفاصيل اليومية لأفراد عائلتها، بحيث يقضي الإنسان كل عمره تقريبًا في أداء الدور المطلوب منه، بحسب مهامه ومسؤولياته، حتى الأطفال والمراهقين ينبغي عليهم الاستمرارية في دراستهم والقيام بواجباتهم، فإذا توقّف التلميذ عن الدراسة سمّي “متسرّبًا”، وإن توقّف الشاب عن العمل سمّي “عاطلًا” عن العمل، ولأجل ذلك كلّه، تحمل الاستمرارية في معانيها مفاهيم، مثل القدرة والإنجاز والعمل والمتابعة والنجاح.

إذا أصيب المجتمع بعجزٍ ما، أو ضعفت قدرته على إكمال المسيرة أو الصمود، فإن عناصر الاستمرارية ستضعف، لأنها تعني القدرة على مواصلة الفعل بوجود “الدافع ومتعة الفعل”، وهذا ما يتطلّب من الإنسان العودة للبحث عن العناصر التي يمكن تعويضها، وهي غالباً أمور مادية ملموسة كالبيت والسيارة والمؤسسة مما يمكن تعويضُه، بالإضافة إلى الأمور المعنوية والمحسوسة غير الملموسة، مثل مشاعر الفرح وحيازة الدافعية والنشاط والحماسة، وهذه تستغرق وقتًا مختلفًا لمعاودة امتلاكها. من النماذج مثلًا: الشخص الذي خسر سيارته بإمكانه الذهاب في أي وقت للحصول على سيارة بديلة، لكن الشخص الذي يعاني من الكآبة الحادة، لن يكون قادرًا على التخلّص منها إلاً بعد جهد جهيد، يستغرق فترات مضنية من العلاج والمحاولات وخطط التعافي. هكذا تبدو صورة الاستمرارية، شبكة من التفاصيل والعناوين التي ينبغي توفّرها لتكون الاستمرارية واقعًا وعملًا وليست مجرد نيًة أو كلام. فالمزارع الذي يزرع أرضه بدافع العمل والفرحة به، إن لم يستمتع بالقدرة على الإنجاز وتحقيق العمل، فقدت الاستمرارية بعض عناصرها.

بعد العام 2024 باتت الاستمرارية ترتبط بأمور أخرى، إذا وُجدت أمكن الحفاظ على النهج والمتابعة بحمل المسؤوليات، فهي مرهونة بروافد اجتماعية ودينية وروحية ومادية، وفيها تحدّيات متعبة وغير سهلة، وتتطلّب إمكانيات بشرية وميزانيات مادية كي تكون على مستوى الجماعة وليس الفرد فقط.

إنّ أكبر معيقٍ للاستمرار هو انطفاء الشغف، فعندما يختفي الشغف، يتعثّر الاستمرار، فيشعر الإنسان بالملل والإحباط، وربما باليأس. والاستمرار الحقيقي هو القدرة على تجاوز هذه المشاعر والمتابعة رغم كل شيء. (المهندس الذي يعمل بلا شغف تصبح أعماله بلا روح، والأم التي تقوم بأدوارها مع بيتها وعائلاتها من دون الشغف، تصبح كالآلة الجامدة)، لذلك علينا البحث عن كيفية إيجاد الشغف فيما نقوم به، لنصل إلى الهدف. والمشكلة أن جزءًا كبيرًا من المجتمع فقد -طوعًا أو قسرًا- معاني الشغف في الحياة بعد توالي الفقد والخسائر البشرية والمعنوية، بحيث أصبحت الحياة بلا هدف وبلا معنى عند الكثيرين، وهذه هي النقطة التي يجب تغييرها.

ما العمل إذن؟ كيف أضبط عدم التراجع وعدم الوهن؟

تختلف الاستمرارية عن دوام العمل الوظيفي، إذ يمكن أن يتابع الأشخاص أعمالهم ضمن الدوام ولكن بروحيّة هامدة، أو أن يقوم البعض بمتابعة مهامه اليومية والعائلية والمهنية، بطريقة أوتوماتيكية خالية من الانفعالات، وهذه استمرارية غير مجدية، أو هي استمرارية جسدية شكلية فقط، فيما المطلوب استمرارية تمثّل “العودة” للسابق وبشكل أقوى. وكثر نشاطًا وحماسًا. فكيف تكتسب صفة الاستمرارية؟

تقول امرأة فقدت بيتها، وتعيش بشكل غير مستقر يسبب لها مشاعر سلبية: لا أستطيع الاستمرارية بسبب انسلاخي عن حياتي الماضية، قد أستطيع في يومٍ من الأيام أن أسترجع حياتي. وتقول امرأة فقدت زوجها وابنها: لم تعد الاستمرارية تعني لي كثيراً، بالنسبة لي الحياة انتهت، ولا أهتم كثيراً لما سيحصل لاحقًا.

إذن، نحن أمام أشخاص لا يملكون الدافع للاستمرار حالياً، لأنهم مازالوا في فترة الحداد على ما فقدوه، لكن هذا لا يعني أبداً أن هذه الحالة النفسية ستستمر. هناك جملة من الإرشادات السلوكية تنفع في هذا السياق، منها:

  1. النظر بعين الله تعالى أوّلا.

تفرض خصوصية المجتمع بعض التفاصيل المهمّة التي قد لا تكون موجودة في خصوصية المجتمعات الأخرى. فهذا المجتمع المُطالب بالاستمرارية، هو قبل كل شيء مجتمع متديّن، ترسم أطره حدود الحلال والحرام وما يجوز وما لا يجوز وما المستحبّ وغير المستحب.  لذلك تتطلّب الاستمرارية في منهجِهِ، التوكّل على الله أولًا، والتسليم المطلق لما يأتي الله به، والإيمان بالمقدرة الإلهية العظمى، التي ستمّد الإنسان بالعون والرحمة والمدد والتسديد.

  • تحديد الأهداف التي يسعى المرء لتحقيقها.

يجب أن تكون الأهداف موضّحة ومقسّمة ويمكن التحكم بها، كي يستطيع الفرد الانتقال من درجة إلى أخرى. (ستقول فئة من الناس لا أريد أهدافًا حالية ولا أريد أن أحقّق شيئًا، وهذه ردّة فعل انفعالية طبيعية يداويها الوقت فقط، لأن الإنسان يصعب أن يعيش بلا أهداف في الحياة، مع التذكّر الدائم بأن الله يريد من الإنسان أن يسعى وأن يعمل وألّا ييأس أو يقنط).

  • وضع خطة قابلة للتحقق.

كي تكون الخطة مبسّطة ويمكن السيطرة عليها، يُستحسن أن تملك القابلية للتحقق كي تُشعر صاحبها بالإنجاز، بدلاً من الشعور بالإحباط، في حال وضع خطة كبيرة لا يقدر عليها.

  • تحديد مكافأة ولو رمزية وبسيطة تشجع على الاستمرارية.

 تشكّل المكافآت حافزًا لإنجاز المهام، ومن الجيّد أن يمنح الإنسان نفسه مكافأة بعد إنجاز بعض المهام بشكل جيد. وقد يضحك البعض من هذا الطرح ويعتبرونه ترفًا، ولكن ما المشكلة من خوض التجربة؟  (شراء غرض معيّن/ القيام بزيارة ما/ الترفيه عن النفس بأمرٍ محبب، بحيث يختار كل شخص مكافأته بحسب ظروفه وحاجاته ولو أنه غير معتاد على الأمر من قبل).

  • تقبّل الإخفاق.

من المتوقع أن تمرّ أيام تحمل انقطاعًا عن المتابعة، أو عن الهدف الذي يريد الإنسان تحقيقه. لأن الإنسان غير القادر على الاستمرارية في فترة ما من حياته، هو إنسان لديه معاناة وهموم وهواجس متعددة ومشروعة، لذلك عليه أن يتقبّل فترات الجمود التي تعرض أحيانًا، والمطلوب في هذه اللحظة أن يعود من جديد ليكمل ما بدأه.

  • تحقيق الدعم الدائم

لا يستطيع المرء أن يدخل إلى بلدة مدمرة بالكامل، ليس فيها مقومات الحياة ويطلب من أهلها أن يتابعوا حياتهم كأنّ شيئًا لم يحصل، فهذا مخالف للمنطق، لأن الاستمرارية هنا تحتاج الى قوة دافعة ومساعِدة.  الدعم والمساعدة والمؤازرة والعون، مصطلحات سيكون لها الأولوية في هذه المرحلة البنّاءة. لا يوجد شخص واحد من دون دور.  والمشكلة الضاغطة أن البناء ليس جديدًا، بل هي “استعادة للبناء السابق” وهذا ما قد يشكّل ضغوطات نفسية، لأن الإنسان سيجد نفسه في كل لحظة يقارن الحاضر المؤلم بالماضي المريح، أو يقارن الحاضر البشع جدًا بالماضي الجميل جدًا، فيقع في مشاعر الحسرة والألم ومحاسبة الذات ونكأ الجراح وهذا أمرٌ طبيعي ما لم يخرج عن السيطرة. لذلك تتطلّب بعض المواقف الانتباه لها ومعالجتها أو الاستعداد لها كي لا تؤثر سلبًا. وهنا تظهر أهمية الدعم والمساعدة والعون.

(مثال على ذلك: اجتمع أبناء أحد الأحياء المتضررة وقرروا العمل لاستعادة الحياة واستمراريتها، لم ينتظروا وصول المساعدات الخارجية، عملوا بالليل والنهار، بذلوا جهودًا جسدية قاسية، اشتغلوا بالتنظيف والترميم وإعادة مدّ الماء والكهرباء ليصبح بالإمكان فتح متاجرهم أو أجزاء من بيوتهم، وخلال أسبوع واحد من العمل الجماعي أنجزوا ما كان يمكن أن يحتاج لشهور إذا اتّكلوا على غيرهم. شعروا بمتعة الإنجاز بعد استعادة أجزاء من حياتهم السابقة وحقّقوا شيئًا من الاستمرارية).

  • التنازل مطلوب أحيانًا

 لتحقيق الاستمرارية يجب التنازل في مواقف معينة. ليس المقصود أبدًا التنازل الذي يمثّل انسحاقاً أو ذلًا. المقصود بالتنازل هنا، هو تخفيف سقف التوقّعات في سبيل الوصول إلى الهدف. وهناك أيضًا بعض التنازلات التي يقوم بها المرء من واقعِه الأخلاقي ومن تكوينه العقائدي، فإن كانت الدنيا كلها لا تساوي شسع نعل، وفانية، ودار بلاء وامتحان، فلماذا يتخاصم بعض الأهل والأقارب والمعارف والجيران بسبب مترٍ من الأرض، أو حصة من الميراث، أو أفضلية مرور، أو أسباب دنيوية أخرى. إنه التنازل لوجه الله وفي سبيله.

  • أهمية الإرادة والنوايا والمشاركة

 لا تتحقّق الاستمرارية بغياب الإرادة والنوايا والسعي والمشاركة. يجلس بعض الناس في بيوتهم وهم ينتظرون عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه، لتستمر الحياة في دورتها. ثمة واقع مختلف هنا، إذ أنَ الجميع مطالَب والجميع مسؤول والجميع يستطيع أن يقدّم شيئًا. (أحد الأشخاص في مدينة غير حدودية قال لصديقه: لا أتحمّل رؤية الوضع. أكاد أبكي كلما تأملت الشوارع. لذلك لن أعود إلى هنا، سأنتظر عودة الوضع وتحسّن الأحوال لأستطيع العودة. ردّ عليه صديقه: بل عليك أن تأتي كل يوم وتبحث عما يمكن أن تفعله، لأن الأوضاع لن تعود من تلقاء نفسها، وجودك هنا وذهابك للمحلات وشراؤك من الباعة وجلوسك مع الناس هو الذي يحسّن الأحوال. فسكت صاحب الشكوى قليلا وتمتم: معك حق).

  • الاستمرارية جهود فردية وجماعية.

الاستمرارية خيار شخصي مرتبط بالظروف والجماعة، فإذا تحقّقت في البدء على مستوى شخصي من الممكن أن تتسع لتصبح جهودًا جماعية، والعكس صحيح بحسب نظرية التأثّر والتأثير، وكل شخص يقدّر مدى جهوده ومشاركته ومسؤولياته. ولا ينبغي تضييع الوقت بل استثماره جيدًا، لأن الحاجات كثيرة جداً. وعلى مستوى الجماعة ينصح بتخصيص المجموعات مثلًا: رجل يملك زمام المبادرة يؤسس لمجموعة في الحي للمشاركة في مهمات الدعم والمساعدة ساعتين يوميًا/ امرأة تتفق مع مجموعة على تخصيص زيارات لعائلات تعاني من أوضاع معينة/ مجموعة صبايا مراهقات ينظمن نشاطًا أسبوعيًا للأطفال/ مجموعة ناشطين وناشطات على النت يتولون مسؤولية البحث عن بيوت ومساكن وتأمينها بأسعار مقبولة).

تعني “المقبولية لدى الآخر” النجاح في تكوين أثرٍ إيجابي ومُرضٍ من خلال المواقف والآراء والسلوكيات، إذ أن نقيض المقبولية هو الرفض، الذي يسبّب القلق والمشاكل والتوتّر الدائم، والإنسان كائن يحتاج إلى المقبولية التي تسدّ حاجات نفسية ومعنوية على المستوى الفردي والاجتماعي، أمّا على المستوى السياسي والاقتصادي والتنظيمي، فالمقبولية تجنّب الكثير من الصدام. والإنسان، يحتاج إلى المقبولية لأنها تزيد من الاعتراف به والتعاطف معه، فهي تعزّز الثقة والتفاهم وتوفّر مناخات مريحة وآمنة للجميع. وتتقاطع المقبولية مع القيم الإنسانية التي تمنح المشاعر الإيجابية، كالكرامة وتقدير الذات وبناء العلاقات مع الآخر.

تبدأ حيازة المقبولية من دوائر مصغرة ثم تتّسع بالتدريج، فالطفل منذ سنواته الأولى يعلّمه أهله كيف يكون مقبولًا في محيطه، أن يحافظ على نظافته وألاّ يقرب الأوساخ، وألاّ يضرب الآخرين، وألاّ يصرخ، وأن يكون ودودًا ومهذّبًا كي يكسب رضا الآخرين وتقديرهم. وفي سنوات المدرسة يتعلّم الأطفال ويتربّون على بناء القيم التي تشكّل لاحقّا شخصية محترمة وواثقة من نفسها، مع التشديد على بناء العلاقات الجيدة في المرحلة الدراسية، من مرحلة الروضة والابتدائي مروراً بالمرحلة الثانوية وصولًا إلى الجامعة، يتعب الأهل ليكون الولد/البنت، مقبولًا من الآخرين، لا أعداء له، محبوب، محترم، ويحظى بالحب والتقدير والثقة من قبل الآخرين. لذلك نلاحظ أن المقبولية سلسلة تراكمية من المبادئ التي تتسع تجارب الحياة وخبراتها وبيئاتها المتنوعة.

هناك آراء في الحياة تقول: لا يهمّ ما تفعله، فهناك أشخاص سيحبونك، وهناك أشخاص لن يحبونك. كن نفسك فقط. وستجد من يحبك كما أنت، ولن نحظى بالقبول الاجتماعي إلا في محيطنا. ولئن كان هذا القول صائبًا في إحدى زواياه إلّا أن الإنسان عليه أن يعمل ليكون مقبولًا من الآخرين وليس مرفوضًا. وقد جاءت الرسالات السماوية لتحث على الحياء والأدب والمداراة وسائر التعاليم الاجتماعية التي تنظم التعايش والتراحم والتقارب.

تقوم المقبولية على الأداء الشخصي (الفردي ثم الجماعي) الذي يتكوّن من الانفعالات والنوايا والسلوك الشفهي (كلام ومواقف وآراء) والفعلي (ممارسة وعمل وأفعال).

تبدأ المقبولية كدورٍ تربوي، من مرحلة الطفولة كما أشرنا، حيث نلاحظ تجلياتها في الفارق بين طفلٍ تلقّى تعليمات تربوية أن يتسامح ويترفّع عن بعض الأمور ولا يهتمّ بها كثيرًا، وبين طفلٍ آخرٍ عصبيٍ وغاضبٍ ينفعل بسرعة ويلجأ للتعنيف اللفظي أو الجسدي (كالكلام الجارح والضرب).

عانى مجتمع المقاومة من مشكلة عدم المقبولية من الآخر، وأكثر من ذلك، عدم المقبولية الممزوجة بالكراهية والحقد والاحتقار. لفهم هذا الموقف ينبغي تفكيكه. ونتيجة للتفكيك تظهر أسباب متعددة للسلوك السلبي الذي أبداه الآخر، فهو أصيب بالنفور الشديد نتيجة لخطابٍ طبيعي بالنسبة لي لكنه تهديديّ بالنسبة له، ما جعله يشعر بالخوف والدونية، فلجأ إلى المواجهة. 

ما الذي سبّب نفور الآخر؟  هو الخطاب المشتمل على مصطلحاتٍ ومبادئ وأفكار (…) يراها غير واقعية بمنظوره وأراها واقعية جدا بمنظوري، وهنا تقع الفجوة بين الطرفين وتزداد اتساعا من دون محاولاتٍ جادّة للتجسير، قد يكون هناك محاولات لكنها بقيت شعاراتية فارغة أكثر من كونها أفعالًا ملموسة. كانت بعض الأصوات تخدش الآخر أو تهاجم مباشرة فتسبّب أزمة. مع الإشارة الواعية إلى أن الآخر سيّء جداً بطبعه وتاريخه، وثمة آراء تنادي بضرورة التعامل معه بخشونة وبقساوة ولا احترام.

يشبه السعي نحو المقبولية في هذا المنعطف الزمني التاريخي – في الدائرة الاجتماعية والسياسية الأوسع- المشي بين الألغام، ويتطلب حذرًا وذكاءً وصبرًا وسرعة بديهة، لأن حيازة المقبولية بعد أزمة ضعفٍ، تشوبها الحساسية نظرًا للظروف المحيطة بها من المتربّصين والشامتين والمشكّكين.

إنّ خطاب المقبولية بعد 2024 ينبغي أن يؤسَّس من جديد على:

  1. الحرص على عدم تقديم أي فرصة للآخر-ولو صغيرة- لينفذ منها الى السخرية أو ردّ الفعل.
  2. التخلّي عن العقلية الصِدامية. (خطاب الصدام الشائع أنا أقوى منك/ أنا أتفوق عليك/ أنت أقل قيمة/ينبغي أن تخرج من التداول).
  3. غضّ الطرف عن أمور كثيرة، كاستراتيجية ٍللتدبّر والتعقّل والحكمة.
  4. عدم إبراز كل نقاط قوتي. فيها فائدتان: كتمان ما لديّ وطمأنة الآخر.
  5. استبعاد الأشخاص العصبيّين الذين ينفعلون بسرعة ولا يستطيعون التحكّم بانفعالاتهم (جملة واحدة تخلق أزمة واسعة وتشطب تاريخًا طويلاً من المقبولية نتيجة انتهازية الطرف الآخر وتركيزه عليها).
  6. طمأنة الآخر وعدم إخافته والحرص على مشاعره (أكثر ما جسّد المقبولية في تاريخنا المعاصر خطاب الانتصار لسماحة السيد في العام 2000 الذي أراح وطنًا وشعبًا ومجتمعًا).
  7. التواضع والنقد الذاتي والبحث عن نقاط التشابه وليس عن نقاط الاختلاف.
  8. تَقَبُّل العيوب والأخطاء والرأي الصادرة عن الآخر برحابة صدر.
  9. تجنّب إطلاق الأحكام على الآخرين والحرص على مشاعر الآخر. (في السابق لم يكن هناك حرص على مشاعر الآخر بقدر ما كان يوجد استفزاز، وهذا مسار عمره 18 عاما).
  10. الثناء على مواقف الآخر وإظهار التقدير في المناسبات كنوع من المجاملات والذكاء العاطفي. (للتذكير: خطاب السيد يوم نادى بتطبيق شعار بشير الجميل 10452كلم/ كان له أثرًا صاعقًا لا يوصف).
  11. الحرص على الصورة الإيجابية لدى الآخر (لا أترك له أي ممسك ليراني فوقيًا استعلائيًا مغرورًا).
  12. تجنب التشاؤم والروح السلبية.
  13. ضبط وسائل التواصل الاجتماعي خصوصًا خلال الأزمات وتحمّل الاختلاف.
  14. تعريف الآخر بخصوصية المجتمع المقاوم من خلال التعامل الحسن ومكارم الأخلاق بسبب طغيان صورة نمطية مغايرة.
  15. تطبيق وصية الإمام الصادق (ع) كونوا زينًا لنا ولا تكونوا شينًا علينا.
  16. إذاعة السرديات الخاصة بقصص المجاهدين/ات وتضحياتهم/ن وصبرهم/ن، وتعميمها، كيلا لا تبقى ضمن المجتمع الخاص. عبر استثمار إعلامي واسع (دراما/مسرح/كتابة/وسائط اتصال…)
  17. أنتج العام 2024 آلاف القصص والمحكيات عن بطولات وتضحيات قلّ نظيرها في العالم كله. المطلوب من الجميع العمل على إظهارها بلغات ٍوترجمات وتداولات وعمليات نشر ولو مدفوعة.

في تعريف المفهوم والنظرية

يمكن تعريف الدور الاجتماعي بأنه عبارة عن نمطٍ منظّم من المعايير، يختص بسلوك الفرد الذي يقوم بوظيفة معينة في الجماعة. “الدور الاجتماعي هو أي مجموعة من السلوكيات التي لها وظيفة متفق عليها اجتماعيًا ومجموعة مقبولة من المعايير” (بيدل، 1979؛ بيدل وتوماس، 1966؛ براون، 1965). تعمل الأدوار الاجتماعية كجسرٍ بين الفرد والمجتمع وكل مجتمع لديه مجموعة من الأدوار.

أسّس نظرية الدور رالف لينتون في علم الاجتماع، وجورج هربرت ميد في علم النفس الاجتماعي، ثم تطوّر مفهوم الدور الاجتماعي إلى معنى الوظيفة الاجتماعية أو المهنة الاجتماعية وارتبط بمفهوم المركز والوضعية والمكانة التي يحصل عليها الفرد، وبنسقٍ أو نظامٍ اجتماعي خاص. يرتبط الدور الاجتماعي بسلوك الفرد داخل المجتمع، لأنّ طبيعة الأدوار الاجتماعية تستمد أهميتها ومصادرها وتحديداتها من نظام القيم والمعايير والديانة السائدة في المجتمع، كما تتأثر بالأيديولوجيات والثقافة والبيئة التي تميز وتكيّف أسلوب حياة هذه الجماعة. وما يحدد هذه الأدوار هو السنّ والجنس والتخصص والمهنة والممارسة اليومية والطبقة الاجتماعية وفقاً للاحتياجات البيولوجية، النفسية، العائلية والاجتماعية. (نوربار، 1983 :596) (بتصرف).

يستند هذا التعريف الخاص بالدور الاجتماعي إلى النظريات الغربية التي نشأت في القرن العشرين، بالتقاطع مع عصر مابعد الحرب العالمية، وما بعد الحداثة، وما بعد الديمقراطية والثورات الصناعية، من دون الأخذ بالنظرية الإسلامية والقرآنية التي توكل أدورًا متعددة للإنسان كالطاعة والعبادة وإقامة الصلاة، والصوم، وطاعة الوالدين، والتقرب إلى الله وقيام الليل، وقراءة القرآن، والتسبيح، وكثرة الذكر، والدعاء…الخ. وهنا تسهل المقارنة بين “الدور” البيولوجي والنفسي والجسدي الذي تكلّمت عنه النظريات الغربية، مقابل الدور الروحي والفكري الذي حضّ عليه الإسلام كدينٍ للفطرة، يهدف للراحة المعنوية والطمأنينة النفسية قبل تلبية الحاجات البيولوجية.

تشتمل نظرية الدور الاجتماعي (الغربية) على قضايا رئيسية ثلاثة: التوقّعات والتماثل والتأييد الاجتماعي.

  • التوقعات: تشكل أحد الأعمدة التي ترتكز عليها النظرية لأن السلوك يتقرر نوعه تبعاً لتوقعات الفرد عن دوره المرتقب.
  • التماثل: هو تطابق خصائص الفرد مع الدور الاجتماعي المرتقب. كأن يتوقع المجتمع من الذكر أن يكون قوياً وشجاعًا، غير آبه بالمخاطر، مع ما يترتب على ذلك.
  • التأييد الاجتماعي: يتطلّب الدور الاجتماعي الذي يؤديه الفرد تأييد الآخرين، وذلك عبر نمذجة الأدوار التي يؤديها الآخرون، إذ ينبغي أن يكون دور الفرد على غرار أدوار الآخرين (محمود شمال حسن، 2001 :76.) على سبيل المثال: عندما تصبح المرأة أمًّا، يُتوقع أن تحيط أبناءها بالحب والعطف والحنان والعناية لأن الآخرين الذي يشاركونها التنظيم الاجتماعي يفعلون الفعل نفسه مع أبنائهم. وحتى لا تتعرّض إلى النقد أو التوبيخ، تحرص على تأدية دورها طبقاً لأدوار الآخرين.
  • وهنا أيضًا، لا بد من الإشارة إلى النظرة الإسلامية التي ترى أن هذه الأدوار مرتبطة بالفطرة الإنسانية وبما أودعه الله في الإنسان من أدوار لدى مختلف الأفراد. فـ {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} بحسب الآية الكريمة، كما أنّ النبوة مختصة بالرجال من دون النساء، والرسالة والإمامة والجهاد، ووجوب الجماعة والجمعة وغيرها…

تشير نظرية الدور الاجتماعي إلى أن معظم المجتمعات صنفت الرجال تاريخيًا كمسؤولين عن المهام الشاقة والقتالية والصناعات الثقيلة، ما أدّى بهم إلى التطبّع بالصفات والسلوكيات المتعلقة بهذا الدور الاجتماعي. على النقيض من ذلك، صنّفت الإناث اجتماعياً للمهام الداعمة والإنسانية، كتربية الأطفال والتعليم والتمريض، والتي تؤثر أيضًا على خصائصهم وسلوكياتهم. (Eagly, Wood, and Diekman 2000) بتصرّف. وهذا التصنيف تظهره النظريات الغربية كفعل اجتماعيٍ، بينما هو في حقيقته ناتج عن الفطرة الإلهية والخَلق، حيث صفات الإنسان وطباعه أصيلة وغير مصطنعة.

في التسييل الوظيفي والتطبيق

  • بات الدور الاجتماعي بعد العام 2024 أكثر صعوبة في بعض المجتمعات التي واجهت تحدّيات صعبة.

 ترتبط هذه التحدّيات بكثرة الحاجات والمسؤوليات المستجدّة. فالوضع الاجتماعي قبل صيف 2024 يختلف عن الدور الاجتماعي بعده، وبحجم المتغيرّات تغيّر الدور الاجتماعي. مثال على ذلك: الشرائح الكثيرة من المجتمع -من النساء والرجال- التي كانت تقضي جزءًا كبيرًا من وقتها في “اللا شيء” أو “اللامعنى”، من خلال الجلوس في المقهى، أو تمضية الوقت الطويل مع الأصدقاء، أو قضاء ساعات يومية مع الأركيلة، من المفترض (بل من الواجب والضرورة) أن تتغيّر أدوارها لتتناسب مع المسؤوليات المستجدة والمفروضة. (ثمة تفاصيل لا تُذكر هنا، عن مسؤوليات مستجدة، وأشخاص وعديد بشري، من المفترض أن يشاركوا أو يلتحقوا بأعمال جديدة تزخر بـ “المعنى” و”الشيء” بعد الانزياح المفترض للامعنى واللاشيء.

  • نموذج آخر عن الدور المستجد: لم يعد المطلوب من المهندس مثلًا، أن يقدّم دورًا مهنيًا بحتًا يتعلّق برسم الخرائط أو وضع التصميمات، بل استجدّ عليه دورٌ اجتماعي توجيهي فيما ينبغي أن يكون عليه العمران المقبل في مناطق معيّنة مثلاً.
  • بات مطلوبًا من الطبيب أكثر من إجراء علاج أو جراحة، بل دورٌ إضافي تعزيزي، يشبه التدخّل فيما ليس من صلب عمله، لكنه قد يؤثر إيجابًا في أشخاص كثيرين حوله.
  • بعد 2024 لم يعد الدور الاجتماعي خيارًا، بل رسالةً لدورٍ جهادي فعّال ومؤثر، فالدور الاجتماعي موجود وفعّال على مرّ السنوات، ولكن نتيجة لازدياد الحالات والحاجات، بات اليوم بحاجة لحتل دورا أكبر. نسوق مثالًا عن أكثر من ألف أرملة، سيكون عليهن تحمّل أدوار اجتماعية مضاعفة، تفوق قدراتهن أحيانًا، كامرأة فقدت زوجها وابنها وصهرها، هل ستستطيع تعويض غياب ثلاثة رجال من البيت الواحد؟ هنا التطبيق العملي لتغيّر الدور المجتمعي، فالأرملة الشابة ستتلقى العون الاجتماعي والحياتي من أهلها وإخوتها والمحيطين بها، وستقوم بتضحيات مضاعفة، هناك أيضًا نماذج لعائلة فقدت شهيدين أو ثلاثة، فبقي الأب والأم بحاجة لمن يرعى ويتابع شؤونهما الصحية والمعيشية، من سيتابع الاهتمام بهما؟ ربما سيجد بعض الجيران أنهم أمام مسؤولية مستجدة تتطلب منهم ما لم يفكروا به من قبل، سيختلف الوضع في بعض الأحياء أو في بعض البلدات التي تواجه حاجات مستجدة، وهذا يتطلّب وضع خطط خاصة للمواجهة. (على سبيل الأمثلة هناك عدد بالآلاف……لجرحى مستجدين. آلاف الأرقام لأيتام أطفال، تتطلب رعاية هؤلاء وهؤلاء خططًا غير سهلة وجهودًا جبارة لوضع كل الحاجات على سكة المعالجات).

الدور الاجتماعي مقرون بالدور التربوي

  • أصبح الدور الاجتماعي لصيقًا ومقرونًا بدورٍ تربوي غير سهل، فالجيل الجديد بكامله يجب أن يكون على مستوى التحدّيات والظروف التي ستواجهه في المستقبل. إن جيل اليوم تربّى على مدى أربعين وثلاثين عامًا حتى وصل إلى حيث وصل، لذلك تحضر العناصر التربوية في الأدوار المستقبلية للأسرة وللمدرسة وللمجتمع وللبيئة وللمعارف وللأصدقاء. الأولاد الذين يقضون وقتًا طويلاً جدًا في ألعاب البلاي ستيشن والألعاب الإلكترونية أو تطبيقات الهواتف، هل سيُتركون للوضعيات نفسها في ظل هيمنة الذكاء الاصطناعي الذي يسخّر كل شيء للاختراق والعبث بالخصوصيات والتأثير في سلم القيم والسلوك؟ لذلك يجتمع الدور الاجتماعي مع دورٍ تربوي صعب، إذ ينبغي حرف المسار عند الأطفال والمراهقين نحو الاستثمار العلمي والاستفادة من العلوم المتاحة والتقنيات المتجددة بدل اللهو والعبث الذين رأينا نتائجهما.
  • هو دور اجتماعي يشمل الرجال والنساء والمراهقين والشباب والطلاب والجميع بلا استثناء، ويشمل المهام التي يقومون بها والاختصاصات التي ينبغي التوجّه نحوها. (…….)
  • إن الأستاذ في المدرسة، والعامل في المؤسسة الصناعية، والطالب في الكلّية، والمعالج في العيادة، وعامل الأدوات الصحية والنجّار والحدّاد والدهّان، وصاحب المطعم والفرن والمتجر، كل واحدٍ مطالب بالقيام بدورٍ اجتماعي جديد يتلاءم مع الأمانة الثقيلة التي تركها كل الشهداء الذين استشهدوا في العام 2024 والطريقة التي استشهدوا بها أيضًا، وهي طريقة ترسم نهجًا للحياة الحقيقية. إذا كانت شهادة خمسة آلاف من العظماء في حياتهم ومماتهم لن تحرّك المجتمع وتلزمه بأدوار جديدة فالمجتمع يكون في أزمة ثقافية وأخلاقية واجتماعية.   
  • تفرض الأدوار الاجتماعية المستجدة، تخفيف التعلّق بالمظاهر الاستهلاكية والأمور الدنيوية والالتهاء بالكماليات.
  • إن التغيّرات التي عاشها المجتمع في 2024 تستوجب من الجميع إعادة النظر في المُثُل والقيم التي يحيا الكثيرون بها، ولكي تتغيّر نظرة المجتمع إلى بعض الأمور لا بد من التوجيه التربوي الذي سيرسم مسارات جديدة وخيارات متعددة عند المراهقين والشباب والشابات والآباء والأمهات. فالدور الاجتماعي (المستجد) يفرض فرضًا، تغيير السلوك المتهاون، وتغيير النمط المستخف، والسعي لتعلّم أهداف جديدة تتماشى المسؤوليات القادمة التي تجعل من “وقت الفراغ” على سبيل المثال وقتًا غير موجود أبدا، فهل ترى ينجح المجتمع في هذا التحدّي؟

الغيب حقيقة لا يدرك طبيعتها العقل ولا يتعامل معها الإنسان بالحواس، فلا سبيل إلى معاينتها ورؤيتها، لكنها تُدرك كحقيقة، كالملائكة والجنّ والشياطين والجنة والنار. والإحاطة بالغيب من خصائص الله وحده دون البشر.

يبدأ الإيمان بالغيب من التربية الدينية وتعليم العقيدة للأطفال والمراهقين والكبار، ويدخل فيه علم الساعة وترتيبات القضاء والقدر وسواها من الحقائق. وعندما يركّز الدين على الإيمان بالغيب والجانب الروحي الذي يرعى الإنسان، فإنه لا يلغي مبدأً خضوع الحياة لقوانين الطبيعة والكون، لذلك يدعو القرآن الكريم إلى التماس الأسباب الطبيعية المؤدّية إلى النتائج، كالسعي لتحصيل الرزق، والتداوي لرفع الأمراض، وفيما يخصّ النصر مثلا، يؤكد القرآن على أنّه من عند الله، لكنه يأمر الإنسان بتحضير أسبابه الطبيعية ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾.

والإيمان بالغيب يريح الإنسان من الاشتغال بالأسئلة التي تتجاوز قدراته، يَسهّل عليه حياته ويختصر الكثير من الجهد العقلي المتعب، الذي قد يصل في بعض الحالات إلى الضياع كما حصل مع بعض الفلاسفة الذين حاولوا بعقولهم تجاوز الغيب، والإيمان به يمنح الإنسان شعورًا بالطمأنينة ويلهمه الصبر ويحفظه من اليأس. وهذه أمور يفتقدها من لا يؤمن بالله وبالغيب.

من الإشكاليات التي عصفت ببعض المجتمعات اليوم: محاولة عقلنة الغيب، كالتشكيك بموضوع الإمام المهدي المنتظر الذي يصعب على العقل تقبّل وجوده حيًا يرزق منذ ألف عام، أو أن العقل لا يقبل قتال الملائكة مع المؤمنين/ فيولد لدى البعض تشكيك يتنافى مع الكلام الإلهي، الذي طلب من العباد الإيمان بالغيب من دون دراسته وتحليله، لإن محاولة تكييف الغيب وعقلنته ليصبح كالمشاهَد، قد تخرج بالمؤمن من الإيمان الحقيقي بالغيب، إلى تعارض مبادئ الإيمان العقلي المجرّد بمبادئ الإيمان بالغيب، وحينها قد يقع في الشك.

كيف أقوّي إيماني بالغيب؟

لأنّ الإنسان المسلم مُطالب بالإيمان بالغيب ليكون من المتقين، بحسب الآيات {ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدًى للمتقين} ومن هم هؤلاء المتقون؟ الشرط الأول والأساس: {الذين يؤمنون بالغيب} ثم بعد ذلك {يقيمون الصلاة}. فالإيمان بالغيب شرط يسبق أداء الصلاة ويُقدّم عليها، وهو الأمر الذي كان غامضًا لدى الكثيرين، على اعتبار الأولوية الدائمة للصلاة على كل الأفعال، لكن هذه الآية تجعل فعل الصلاة مسبوقًا بفعلٍ ثانٍ له الأولوية والصدارة وهو: الإيمان بالغيب. وهذا ما يفرض على الجميع أن يسأل كل واحدٍ نفسه: ما درجة إيماني بالغيب؟ وإلى أيّ مدىً أرتبط بهذا الغيب وأسلّم له؟

لذلك يأتي السؤال: كيف أقوّي إيماني بالغيب؟ وتكون الإجابة بالالتفات إلى النقاط التالية والحرص عليها:

  • عبر تدبّر القرآن الكريم والعناية بقراءته والإكثار من ذلك، لأن القرآن يعرض للإنسان كلام الله تعالى عن قصص الدنيا والآخرة والجنة والنار، وعن أخبار الرسل والأمم، فمن تدبّر القرآن قوِيَ إيمانُه واستقام دينه. مع الإشارة إلى أن العلاقة بالقرآن ما تزال ملتبسة عند البعض وما تزال قاصرة في فهمهِ وإدراكِهِ عند بعض آخر.
  • من المهمّ أن يعمل الإنسان على توسعة قراءاته ومعارفه، إذ لا يمكن مناقشة أمور الغيب مع عامة الناس من محدودي المعرفة.
  • ينصح أيضًا بقراءة سيرة الأنبياء والصالحين والرسول والأئمة لتذكير العقل والروح بالهدف من رسالتهم وبعثهم، لأن ذلك يحيي الفطرة الإنسانية من جديد، بأن المهمّة الأولى للإنسان في الدنيا هي العبودية لله، والطاعة، والتقرّب من الله سبحانه بالعمل والصبر والتضحية وتحمّل البلاء لأن الدنيا دار ابتلاءات وامتحانات للإنسان وليست دارًا للرفاهية وتحصيل المكاسب الدنيوية.
  • بالاتكال المطلق على الله، والتسليم بالغيب الذي يجهله الإنسان لكنه يؤمن به. {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
  • من خطوات تقوية العلاقة بالغيب أيضًا، أن يتأمل الإنسان معاني الإيمان المطلق بالوعد الإلهي الصادق، سواء للصابرين أو للمجاهدين أو للمتألمين، وأنّ الله لا يخلف وعده لعباده.
  • لا يفترض أن يقود الإيمان بالغيب للتخلّي عن التفكير والسعي للعمل وإشغال العقل كما يعتقد البعض، إذ لا إيمان من دون عمل ولا عمل من دون إيمان
  • بالعناية بالشروحات التي توضّح أطر العلاقة بالغيب، ليكون الناس على دراية بصفات الله تعالى ومقدرته وحكمته، كيف تبدأ؟ وكيف ننمّيها؟ والى أين ينبغي أن تصل؟ وما حدودها؟ إذ لا ينبغي أن يتجاوز المرء حدودًا معيّنة في موضوع العلاقة بالغيب.

عندما يدرّب الإنسان نفسه على الإيمان المطلق بالغيب -الذي نجهله ونجهل أسراره وحكمته- تصبح الحياة سهلة وخفيفة جدًا، ويتجرّد الإنسان من همومه وهواجسه وقلقه، لأن الإيمان بالغيب يعني عمليًا أن تحسنَ الظن بالله القادر والقدير. المطلوب من الإنسان أن يفكر بالله مدبّر الكون وخالقه الحكيم، وبما أنه تعالى الممسك برحمته زمام هذا الكون فلماذا اُتعب نفسي بالحسابات والهموم والمخاوف التي تزيد الهواجس وتسبّب الإحباط؟

المسألة الغيبية الأساس التي يجب أن يفكّر فيها المرء فيها، هي الدار الآخرة، التي وجد الإنسان في الدنيا كي يسعى نحوها.

وأن الحياة مؤقتة وعابرة، وكل ما فيها ابتلاء وتمحيص، لأنها تمثّل الطريق نحو الآخرة. وبقدر ما يحسن الإنسان التزوّد على الطريق يرتاح لاحقًا عند الوصول إلى العالم الأخروي، والعكس صحيح.

ليس بعيدًا عن موضوع الغيب وضرورة الإيمان به، يأتي موضوع اليأس كعنوانٍ لحالةٍ نفسية فردية أو جماعية، يذهب به علم النفس إلى عوالم متعددة، محذّرا الإنسان من الوقوع في أفخاخه، كي لا يصبح فريسة الإحباط أو الكآبة، ويصبح بحاجة إلى تدخّلات علاجية. ولكن، ولو عدنا إلى الأدبيات الإسلامية والعقائدية لوجدنا أن اليأس عُدّ من الكبائر ومن الصّفات النّفسيّة القبيحة، بل ومن الأمراض الباطنيّة والقلبيّة المهلكة. فهو ظاهرة تؤدي إلى الشلل العقلي والعملي وعدم جدوى الحياة، وبالتالي يوصل إلى التّقاعس عن السعي والعمل. وقد نصّ القرآن الكريم على لسان النبي يعقوب عليه السلام وصيّته إلى أبنائه حين قال لهم: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾، فما دام الإنسان يؤمن بالله وبرحمته فلا يجوز له أن ييأس.

وما حصل من انقلابات أمنية وسياسية واجتماعية في لبنان وفلسطين على مدى سنة وثلاثة أشهر، أصاب البعض باليأس والإحباط، خصوصًا إذا ما جلس الإنسان ليتأمّلَ أو يُحصي الخسائر من المنظور الدنيوي، أو من المنظور البشري القاصر عن فهم الغيب الإلهي. يتذكّر أبناء المجتمع يوم مجزرة البيجر ومشاهدها المروّعة، والتفجيرات التي طالت كل الأمكنة والضحايا والأبرياء الذين خسروا أجزاء من أجسادهم. يتذكر الناس أيضا تسلسل الأحداث التي تصاعدت بشكل دراماتيكي كبير لم تتحمّله بعض العقول، اغتيالات القادة ثم تهجير الناس ثم القصف العنيف الذي أوقع مئات الضحايا ثم اغتيال السيد ثم إخراج الناس من بيوتهم وأرزاقهم للتشرد في العراء، ثم استمرار الحرب واستشهاد آلاف الشباب من خيرة البشر. يجلس الكثيرون وهم يستعيدون هذا التسلسل المأساوي ليوميات الحرب التي “لم تُبقِ ولم تذر” فلا يكون أمامهم سوى اليأس (خصوصًا إذا ما أضفنا ما حصل في سوريا وعلى الحدود الجنوبية بعد وقف النار) فيجاهر البعض بإطلاق عبارات تعبيرية مثل: لم يتبقَ شيء فلماذا أعيش/ لم أعد أريد هذه الدنيا/ ليتني أموت الآن وأستريح/ لا طعم للحياة بعد اليوم…الخ.  وينسى الإنسان هنا أن بعض الكلام يصبح تدخّلا أو اعتراضًا على المشيئة الإلهية، وكل هذه المشاعر تسري أو تنتقل بسبب عدم الاعتقاد الكامل بالرحمة الإلهية غير المرئية، فيقع الإنسان في جحيم اليأس ويبدأ بإصدار قراراته: لا أريد بناء البيت/ لا أريد العودة للعمل/ لا أريد الأكل/ لا أريد المشاركة بشيء/ لا أريد رؤية أحد/ لا أريد الذهاب إلى أي مكان…. الخ.

بالاتكاء على بعض الوقائع الحياتية الحاصلة منذ بدايات الحرب، لوحظ تزايد الاهتمام بالمواضيع الروحانية ذات البعد الغيبي أو المعنوي، زاد إقبال البعض من الناس على الأحاديث الدينية أو المرويات التي ترتبط بشكل مباشر بالأحداث الحاصلة، كمحاولة للتخفيف من المصاب، وكأن هذا “الاستنجاد” يخفّف بالفعل من ثقل المرحلة وكثرة الهواجس ويقي من اليأس. لذلك كله، ينبغي إعادة العمل على استنهاض الهمم المتراخية أو النفوس المتعبة، من خلال الإشارة إلى الدور المطلوب من الفرد والجماعة في منعطف تاريخي وسياسي مماثل. (راجع النقطة المعنونة ب “الدور الاجتماعي”).

كيف أُبعد اليأس عن حياتي وتفكيري؟

  • بالتفكّر بالنعم الكثيرة التي لا تعدّ ولا تحصى.
  • بالاستغفار الدائم لطلب الرحمة الإلهية.
  • بالنظر إلى أحوال الناس الأكثر بؤسًا وأكثر ابتلاءًا.
  • بالرضا التام والقناعة بما حصل والتسليم لمشيئة الله وأقداره.
  • بوضع أهداف أو خطط للقيام بأعمال معينة أو تنفيذ مشاريع تلائم إمكاناتي.
  • بإقناع نفسي أن اليأس يقودني نحو المرض وطلب العلاج لذلك من الأفضل أن أحاول تجاوزه قبل استفحاله.
  • بممارسة الأمور أو الأفعال التي أحبها وأجد فيها راحة نفسية
  • بمجالسة بعض الناس من ذوي الطاقة الإيجابية
  • بسماع القرآن أو تلاوته وتدبّره.
  1. جدوى الفعل السياسي والمقاوم

السياسة فنّ الخداع والتضليل وتوزيع الكلام والمواقف. بالنسبة للبعض هي زرع اليأس عند الناس حتى يملّوا أو يتعبوا من المطالبة بحقوقهم. ولو لم يكن للرأي العام أهمية، لما أنفقت قوى الهيمنة والاستكبار في منطقتنا الثروات على أجهزة الإعلام، للتأثير في المجتمع على جميع المستويات الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية.

الفعل السياسي سلوك أو ممارسة فردية أو جماعية، يترك أثارًا في توزيع السلطة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والأمني والثقافي وغير ذلك.  ويشمل الفعل السياسي الأدوار والمواقف والاتجاهات التي تؤثر على النظام السياسي.

تنبع دوافع العمل السياسي لدى مجتمع المقاومة من باب تحمّل المسؤولية الشرعية أولًا، ومن باب الحرص على خدمة الناس ثانيًا، ومن باب عدم ترك مقاليد الأمور بيد الآخرين الذين قد يتقاعسون أو يغفلون عن الأولويات ثالثًا. 

يجب ألّا ننسى دور الفرد في العمل السياسي، مع تطوّر الحياة التي وفّرت منابر متعددة لكل إنسان، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي تحوّلت إلى ساحة حرب نفسية وسياسية ومعلوماتية. هذا الواقع المسهّل للعمل، يفرض على الجميع المشاركة في العملية السياسية وخلق المناخات الشعبية وصناعة الرأي العام، والمثال على ذلك الأدوار المتعددة التي قام بها المؤمنون بخيار المقاومة ومواجهة الكيان الإسرائيلي، سواء في لبنان أو في فلسطين، من مسلمين ومسيحيين، حيث استطاعت الصور والفيديوهات والنصوص وبعض الكتابات، إظهار وقائع كان يراد طمسها وتغييبها. ومن ناحية ثانية كي لا تبقى المعركة الإعلامية محتكَرة على الأعداء الذين يبثّون الأضاليل والأكاذيب ويصنعون رأيًا عامًا ضد المقاومة وضد التحرر وضد الاستشهاد ومع المشروع الصهيوني. (لولا المساهمات الفردية على مواقع التواصل لما شاهد العالم حركات التحرر الشعبية في جنوب لبنان التي قادها شباب ونساء وأطفال صنعوا بتحدّيهم وشهادتهم تاريخًا جديدا).

  أهمية الفعل السياسي

تظهر أهمية الفعل السياسي من خلال:

  1. تعزيز المشاركة في الحياة السياسية وقراراتها، بحيث تمكّن هذه المشاركة من التأثير على القرارات الوطنية.
  2. تعزيز الانتماء وحسّ المسؤولية لدى المكوّنات الاجتماعية. التي ستجد نفسها مدفوعة للعمل للدوافع التي ذكرت أعلاه.
  3. إمكانية إحداث التغيير من خلال توظيف الجهد السياسي للمطالبة بالمشاريع التنموية والخدماتية للجميع.
  4. تفعيل المساءلة من موقع القوة، لأنّ المساءلة التي تصدر عن وزير في الحكومة مثلًا، تختلف كثيرًا عن المساءلة الصادرة من مواطن مستضعف.
  5. ضمان تمثيل المواطنين المهمّشين بدل محاولات إلغائهم أو إقصائهم.
  6. إثبات الوجود وقوّة التمثيل أمام الخصوم الذين يتمنّون عزل الآخرين.
  7. فك العزلة بين السلطة والمجتمع عبر فسح المجال للفاعلين السياسيين لنقل نبض بيئاتهم.

إشكالية: هل هناك جدوى من العمل السياسي والمقاوم بعد 2014؟

كي تكون الممارسة السياسية فعّالة لابد أن تقترن بالإنتاج والإنجاز: إنتاج خدماتي، صحّي، ثقافي، إنجاز قوانين ومشاريع للتنمية، وتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين، وخدمة الإنسان وقضاياه العادلة أوّلاً وأخيراً.

ماذا لو تخيّلنا مقاطعة سياسية أو عزوفًا عن المشاركة بعد 2024؟ سيكون هذا يوم المنى بالنسبة للخصوم، إذ يوجد اليوم حصار يسعى إلى تحجيم الفعل السياسي للمقاومة ويوجد فريق يعمل لاحتكار القرارات ومحاولات الإبعاد والإلغاء.

يتمّ تقييم الجدوى من العمل السياسي بحسب النتائج والمنجزات. ومن الطبيعي أن تكون نتائج العمل السياسي والمشاركة في القرارات، إيجابية أكثر منها سلبية، خصوصًا في ظل التعرّض للاستهداف، بحيث يشكل العمل السياسي نوعًا من المظلة والحماية، فاستهداف جزء مكوّن من الدولة يختلف عن استهداف هذا الجزء وهو خارج المشاركة، وهذه الضمانة وحدها تكفي وتغطي على السلبيات التي قد تنشأ عن العمل السياسي.

كي تكون الممارسة السياسية فعّالة، من المفترض أن تأخذ بعين الاعتبار النقاط التالية:

  1. ينبغي أن يكون المتصدّي للعمل السياسي من ذوي المعرفة السياسية، أو التجربة النقابية والاجتماعية، لأن السائد أن بعض العاملين في المجال السياسي، يأتون بسبب الدوافع العائلية الوراثية أو البحث عن المكاسب وتحقيق المطامع غير النزيهة.
  2. العمل على رصد المشاكل السياسية والاجتماعية والمعيشية وامتلاك المقدرة على حلّها وإداراتها.
  3. مواكبة الوسائل الحديثة والمتطوّرة التي تساعد في ممارسة السياسة والأدوار الوظيفية المتفرعة عنها. (صناعة الرأي العام/نظريات التأثير/ الدعاية السياسية/ وغيرها).
  4. تجنب الأزمات والصراعات قدر الإمكان. (مقارنة بمن يمارس الفعل السياسي لخلق الأزمات والمواجهات).
  5. فهم الرأي العام من خلال فهم حاجاته وميوله واتجاهاته لأن الرأي العام أساس الحياة السياسية.
  6. الانتباه والحذر في السلوك السياسي وفي العلاقة بين الخطاب والسياسة، كالحرص مثلًا على النقد الذاتي للخطاب السياسي، واختيار المفردات والكلمات بعناية، لأن الممارسة اللغوية مرآة للعمل السياسي وصورة عنها.

يجب الالتفات بالتأكيد إلى أن جدوى العمل السياسي في أي مجتمع، تختلف تبعاً لاختلاف النظام السياسي بين بلدٍ وآخر، حيث تكون على طبيعة النسق السياسي الموجود في كل بيئة، ويتخذ العمل السياسي صورته وفقاً للنمط السائد الذي يشمل الأدوار أو المهام التي يؤديها الأفراد داخله، كالانتماء إلى الأحزاب، وممارسة ما تكفله الدساتير والقوانين، والمشاركة في الانتخابات والاقتراع والتصويت، ولكن، حين يواجه مجتمع المقاومة قوى منظمة ومتفرغة تريد إعاقة دوره، ينبغي أن يكون على مستوى المواجهة لعدم إعطاء الخصم ما يريده.

بالمحصّلة، الفعل السياسي ينبغي أن يبقى حاضرًا، كي يتابع كل شخص مسؤولياته في موقعه وبحسب اختصاصه. ففي المناهج التربوية والتعليمية، تشدد مواد التربية المدنية التي تُعطى للتلامذة منذ المرحلة الأساسية، على أهمية الفعل السياسي ونتائجه وضرورة الحفاظ عليه. الأكثر من ذلك: أن التحدّيات الداخلية والخارجية التي واجهها المجتمع المقاوم بعد 2024، باتت تتطلّب أفعالًا سياسية مضاعفة، بمستوى المرحلة وتحدياتها، وبمستوى السيناريوهات التي حُبكت ضدها. وهذا ما يجب أن ينتبه له الجميع، خصوصًا الذين يرون العكس، من أن العمل السياسي في هذا المنعطف غير مجدٍ ولا مثمر، أو الذين يعتبرون أن التفكير السياسي كان قاصرًا ولم يكن على قدر المسؤولية وبالتالي يوجّهون له الاتهامات وأنه يجب الانفكاك منه.

أما فيما يتعلّق بموضوع الجدوى من الفعل المقاوم، فهو أمر محسوم لا يحتاج الى الكثير من الكلام أو الى الشروحات، لأنه حتى البيئات غير الإسلامية، كالبيئة الشيوعية والبيئة الماركسية وكل ما هو معادٍ للإمبريالية ينادي بالمقاومة كحقٍ مشروع لأي شخص، بل هو واجب، ولكن الخلاف هو على طريقة الأداء بحسب الظروف والمكان والتوقيت، لكن جوهر العمل المقاوم لا خلاف عليه.

  1. نمو ما بعد الصدمة

يطرح مفهوم “نمو ما بعد الصدمة” العمليات النفسية المفيدة، والتغيّر الإيجابي للأشخاص الذين عاشوا خبرات صادمة، واستطاعوا الوصول إلى تحقيق مستوى جديد من المشاعر والوعي الذاتي. وهذه العمليات تبدأ من محاولات التكيّف مع ظروف الحياة الصعبة والقاهرة التي يمكن أن تنتج مستويات عالية من الضيق النفسي (Alexander & Oesterreich, 2013, 831). ويعني “نمو ما بعد الصدمة” أن الصدمات لها جوانب إيجابية على الرغم من الضغوط والمعاناة التي تنجم عنها. فبعض الصدمات تمنح الفرد قوةً تؤدّي به إلى إحداث تغيرات إيجابية في شخصيته وفي حياته، وترفع من قدرته على الصمود أمام المتاعب التي تواجهه.

تتمثّل الفوائد الإيجابية الناتجة عن الحالات السلبية أو الظروف الصادمة أو الأزمات، ب “التغير الإيجابي طويل المدى (مستدام) في الالتزامات وأهداف الحياة الأساسية”. (كريستوفر دافيس، وسوزان هوكسيما، 2017، 1031).

فالنمو ما بعد الصدمة والتغير الإيجابي ينشآن بالتزامن مع الكرب والمشقة، ويتضمّن النمو تطوير الأفراد على مستوى التكيّف والوظائف النفسية والوعي بالحياة، وهو يُعاش كنتيجة للأزمات بهدف الارتقاء إلى مستوى أداء أعلى، بحيث تمثل هذه الظروف تحدياتٍ كبيرة للموارد التكيّفية للفرد. ويتضمن نمو ما بعد الصدمة تحوّلات نفسية «مغيرة للحياة» في التفكير وفهم العالم، ويساعد في عملية التغيير الشخصية التي تكون ذات مغزى عميق. إنّ مصطلح “نمو ما بعد الصدمة” يشير إلى “تغيّر إيجابي في الشخصية” بعد أحداث حياتية مؤلمة. يمكن أن تؤدي تجربة حدث صادم دوراً تحولياً في الشخصية لدى البعض، وتسهّل النمو النفسي، على سبيل المثال، تبيّن أن الأفراد الذين عانوا من الصدمات أظهروا تفاؤلًا أكبر وأثراً إيجابياً أوسع.

يمكن مقاربة موضوع “نمو ما بعد الصدمة” من حيث إخضاعه للقياس مع ما جرى على المجتمع المقاوم خلال العقود الزمنية الماضية. فقد تعرّض هذا المجتمع لأكثر من حرب ولأكثر من استهداف، مباشر وغير مباشر، واستخدم العدو في هذا الحروب وسائل وأدوات وإمكانيات مادية ونفسية وتقنية هائلة، من السيارات المفخخة إلى الاستيلاء على الأموال في البنوك، إلى تكبيل التحويلات المالية، إلى التهديدات الأمنية وصولًا إلى التصفيات المباشرة خلال عامي 2023 و2024. ولكن ماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أن المجتمع صمد ولم ينكسر وأصرّ على الصمود والمقاومة. ماذا يعني هذا الأمر؟ يعني أن قرار الصمود والبقاء والاستمرارية سيبدع في استعداده للمواجهة من جديد، وسيرتفع مستوى استعداده أيضًا. هنا يمكن الاستفادة من تجربة الحروب السابقة التي مارست فيها إسرائيل إجرامها واعتداءاتها طيلة الثمانينات والتسعينات ومروراً بال 2006 حتى اليوم، إذ كانت كل محطات المواجهة السابقة سببَا لتطوير المجتمع وللعمل على تطوير حاجاته واحتياطاته. يدلّ ذلك على أن المجتمع خضع بالفطرة لمبدأ نمو ما بعد الصدمة، ليس فقط في الميدان القتالي والعسكري، بل على المستوى الاجتماعي الذي اقتنع وأيقن أن الخيار الوحيد للعيش بكرامة هو المقاومة. لذلك سينمو مستوى تبنّي خيار المقاومة والصمود والثبات.

ثمة ملاحظة موضوعية هنا، تشير إلى أن تجربة الحياة المؤلمة بحدّ ذاتها لا تؤدّي إلى نمو ما بعد الصدمة. فليس كل من يعاني من حدث ٍمؤلمٍ سيطوّر بشكل مباشر نمو ما بعد الصدمة. ولكن استجابة الفرد العاطفية للحدث الصادم هي المهمّة لأنها الأساس في تحديد النتيجة طويلة الأمد لتلك الصدمة.

إنّ ردود الفعل على أزمات معينة-كما هو معروف- تختلف من شخص لآخر، ومن مجتمع لآخر، وقد أظهرت بعض الدراسات أن النمو بعد الصدمة تجربة شائعة في أعقاب الأحداث المؤلم، إذ تطغى الاحتمالات الممكنة للفرد الذي مر بتجربة صادمة، ليكون عرضةً للعجز أو المرض، أو التعافي والعودة للحياة الطبيعية، أو النمو والازدهار والتعافي المصحوب بتغيّرات إيجابية في الشخصية.

ما احتمالات النمو بعد الصدمة في مجتمع تعرّض لحرب اقتلاع وتهجير وهدم وإبادة؟

  • يصبح تأثير الأزمات أقل سلبيًة لأن الفرد والمجتمع خبرها وعانى منها من قبل. (الخروج من الديار والتهجير مثلا)
  • يسقط عنصر المفاجآت والتوقّعات الإيجابية بسبب الخبرة السابقة. (لم يحصل من قبل أن بقي الشهداء تحت الركام لعدة أشهر، أو استهدفت كوادر الإسعاف، هذا يقود إلى التفكير بالأوضاع البديلة)
  • يصبح الإنسان أكثر مناعة لأنه يتعرّض لاعتداءات مسبوقة ومجرّبة.
  • تزداد الخبرة وتتعمّق في معالجة مواضيع حياتية معينة كالمأوى أو المأكل البديل مثلا.
  • يمتلك الإنسان استعدادات تؤمّن الجهوزية اللازمة للتعامل مع الأزمات الطارئة. (معرفة الأماكن والبيئات الصالحة لتأمين الدعم بدل ضياع القوت في التفكير).
  1. نظام الولاية ومصداقيته

في تعريف النظرية

الولاية بمعنى السلطة، عنها قال تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾(المائدة:55-56) بهذا المعنى, فإنّ الولاية هي لله سبحانه وتعالى، لكنها تتجسّد بولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، من خلال قول الله تعالى أيضًا ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾(الأحزاب:6)، بمعنى أنه أولى بهم في الصلاحيات التي يملكها الإنسان كالمسائل الاجتماعية والحكومية والقضاء وغيرها، وهي ولاية أكّدها الرسول (ص) في حديث الغدير حيث قال وقد أخذ بيد عليٍ(ع): “ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ من كنت مولاه، فهذا عليٌ مولاه“.

بعد غيبة الإمام صاحب الزمان (عج) صارت ولاية الفقيه امتداداً لولاية المعصوم، إذ كان عليه التصدّي للمسائل الاجتماعية والسياسية في المجتمع والأمة، وجرى تعريف الولاية بأنها “حاكمية المجتهد الجامع للشرائط في عصر الغيبة”، وهدفت على المستوى الإسلامي إلى المسؤولية والتكليف، بحيث تشبه ولاية الأب على أبنائه القصّر لحفظهم ورعاية شؤونهم، أو ولاية الحاكم على أموال الغائب والقاص. إنّ غايةَ ولاية الفقيه حفظُ الحقوق والمصالح العامة وصيانة المجتمع من الفساد، وليس للولي الحقّ في التصرّف بحسب أهوائه ومصالحه أو رغباته الخاصة، فهي بخلاف الاستبداد والدكتاتورية. وقد تحدّت الإمام الخميني (قده) في كتابه “كشف الأسرار” عن الولاية المطلقة للفقيه، قبل أن يخصّص لها كتابه الشهير “ولاية الفقيه”. ويذكر بعض الباحثين أن ” ولاية الفقيه المطلقة، والقضايا ذات الصلة بها، دُرست في كتاب البيع بشكل مسهب، ووردت عبارة ولاية الفقيه، عند الحديث عن بعض صلاحيات الفقهاء، بصريح العبارة”.[3]

“كشف الأسرار” أول كتاب طرح فيه الإمام الخميني ولاية الفقيه المطلقة، وقد كتبه بعد عامين من سقوط الشاه ونفيه إلى جزيرة موريس في العام 1320، ومن سمات هذا الكتاب “دعوة الإمام للعودة إلى الهوية الإسلامية، التي طواها النسيان لأسباب مختلفة منها استبداد الحكام وغفلة العلماء. في هذه الفترة كانت هناك حاجة إلى ثورة فكرية وسياسية بقيادة العلماء، إذ سار الإمام بتقديمه فكرة الحكومة الإسلامية وشرح وظائف مؤسساتها بزعامة ولاية الفقيه المطلقة، في هذا المجال ورسم ملامح مستقبل العلماء والمسلمين. إذ قال: لا فرق جوهري بين الثورة الدستورية والاستبداد والديمقراطية، إلا في تزيين الألفاظ وخداع واضعي القوانين… الحكومة الوحيدة التي يراها العقل حقة، ويؤيدها بترحاب هي حكومة الله… أولو الأمر يجب أن يكون ذلك الشخص الذي لا يعارض في كل الأحكام أوامر الله والنبي، ولا يعمل خلافها، وحكومته تكون نفس الحكومة الإلهية للنبي”.[4]

في المصداقية والتطبيق

في العام 2024 كثرت التساؤلات حول نظام الولاية ومصداقيتها، وهي تساؤلات أثيرت بدوافع مختلفة، كالتشكيك أو الفضول أو الجهل أو التوهين، لكن المعنى الفعلي/التطبيقي للولاية، ظهر (خلال لعام 2024) من خلال صور متعددة، منها على سبيل المثال:

  • آلاف الشباب والرجال من رفعوا شعار “نذهب حيثما يكون التكليف” والتكليف هنا يعني ما تقتضيه الولاية.
  • آلاف الشباب الذين مشوا بكل اطمئنان نحو اتّباع التكليف الذي تمليه الولاية.
  • آلاف الجرحى الذين وهبوا آلامهم ومعاناتهم لله لأن تكليفهم قضب بما فعلوه.
  • آلاف الشهداء الذين قاوموا العدو وجهًا لوجه ببسالة نادرة وشجاعة قلّ نظيرها، ولو لم يصوّرهم العدو لما عرف التاريخ الروحية النادرة التي امتلكوها وهم يستبسلون للدفاع عن الحق وعن الأرض.
  • آلاف الآباء والأمهات ممن احترموا (عن قناعة تامة) نهج أبنائهم الذين اشتروا الآخرة بالحياة الدنيا وذهبوا حيثما نصّت الولاية.

لقد انتقلت مصداقية الولاية والولاء من الشهداء إلى ذويهم، ومن الأهل إلى أبنائهم، بمعنى إيمان الجميع بأن الولاية لا تختلف عن التسليم لله والإيمان بمشيئته، وهو الإيمان مع الثقة، بما يقوله الوليّ الفقيه الذي يتدارس وضع الأمة ويمسك مقاليدها ويتحمّل مسؤولياتها.

ظهر المصداق الثاني في موضوع الولاية من خلال من يؤمن بها ومن لا يؤمن بها. فمن يؤمن بالولاية ويعمل تحت سقفها شكّلت له نوعًا من الضابطة التي تمسك ميزان الأمور لأن هناك حاكمًا بمثابة القائد، يرى ويقيس ويعطي رأيًا ويتحمّل المسؤولية الشرعية والفقهية والأخلاقية. أمّا من لا ولاية لديه، فقد كان بلا مرجعية تحدد البوصلة، وبلا قائد يعود إليه ويعمل وفق تقديراته. والمنعطف الاستثنائي السياسي والتاريخي والمصيري الذي مرّت به الأمة في العام 2024 كان أكثر ما يحتاجه “الولاية لله ولرسوله وأولي الأمر”.

يوجد اليوم نماذج على الأرض لأشخاص التزموا التكليف والولاية فصنعوا حكايات عجيبة عن التضحية والصبر والصمود والتفاني، وإلّا فما الذي كان يدفع بشابٍ في العشرينات من عمره ليتخطّى الحواجز والعوائق ويصل إلى الصفوف الأمامية ليقاتل ويقاوم بإخلاصٍ قلّ نظيره؟ ثم يستشهد هناك، لولا إيمانه بالخط الولائي الذي يحدد خطواته وأفعاله. بهذا المعنى أثبت نظام الولاية أنه عامل إيجابي مساعد في أي استحقاق، لأنه يعني الالتزام والجدّية والعمل لإعلاء كلمة الله تحت راية إمامٍ عدل.


[1] – يمكن في هذا السياق الإشارة إلى نماذج مختلفة بحسب السياقات التاريخية والزمكانية. مثلا: الإمام الحسين عليه السلام كان قائدًا لثورة إصلاحية إسلامية، في العام 61 للهجرة، في بقعة جغرافية بدأت في الحجاز وانتهت في العراق. ومارتن لوثر كينغ، قائد ورمز أميركي من أصل أفريقي اغتيل في العام 1968 بعدما قاد حركة الحقوق المدنية والعمل من أجل المساواة في الحقوق، وغاندي قائد هندي قاد ثورة ضد الاحتلال البريطاني حتى اغتيل في العام 1948.

[2]مراحل الحداد الخمس هي: 1- مرحلة الرفض والإنكار Denial التي تظهر كرد فعل دفاعي طبيعي مؤقت يجسد حالة الرفض والإنكار للفقد، إذ تطغى مشاعر الصدمة عند معرفة الحدث لأول مرة. تمنح مرحلة الإنكار النفس وقتًا كافيًا لاستيعاب ومعالجة الفقد لتقليل من حدة الفقد والألم. 2- مرحلة الغضب Anger حيث يعد الغضب أول المشاعر الظاهرة عند الاستيعاب ومواجهة حقيقة الفقد، ويخفي الغضب الكثير من المشاعر والألم ويكون موجهًا للأشخاص أو الحياة أو الأشياء أو المواقف، ويصاحبه الاستياء والتساؤلات حول الحدث والفقد. 3- مرحلة المساومة Bargaining وهي خط الدفاع ضد مشاعر الفقد. تتسم بالندم والأمل والذنب والمحاولة لاسترداد المفقود بفعل أي شيء وتقديم أي تضحية لعودة الحياة على ما كانت عليه قبل الفقد. تتصاحب مع هذه المفاوضات الداخلية تساؤلات وفرضيات. وتعد المشاعر والعواطف خلال مرحلة المساومة طريقة طبيعية لمواجهة الفقد وتعافي منه.4- مرحلة الاكتئاب – Depression يبدأ الفرد خلالها بفهم حتمية الموت/ الفقد ولهذا يصبح أكثر صمتاً ويرفض مقابلة الزوار ويمضي الوقت في البكاء. تسمح هذا المرحلة للفرد بعزل نفسه عن الأشياء/الأشخاص المحبوبة له. لا ينصح بمحاولة إبهاج الفرد الذي يمر بهذه الحالة لأنها حالة يجب أن يمر بها ويتعامل معها. لا يعد الاكتئاب هُنا حالة صحية عقلية بل استجابة طبيعية مؤقتة للفقد. 5- مرحلة القبول – Acceptance هي آخر مراحل الفقد التي تتمثل بالتقبل الكامل للفقد والتعامل معه كواقع وحقيقة لا مفر منها ولا يمكن تغيرها، ولكن تبقى مشاعر الحزن والألم من غير مقاومة ومكافحة تغير الواقع. والتقبل لا يعني النسيان ولا يعني أن الفقد لم يعد محزنًا أو مؤلمًا؛ ولكن يعني القدرة على التعامل مع الخسارة والتكيف مع الحياة بدون وجود من نحب.

[3] – راجع: تاريخ ظهور نظرية ولاية الفقيه على يد الإمام الخميني، مركز وثائق الثورة الإسلامية. https://irdc.ir/ar/news/101/%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%B8%

[4] – م.ن.

مركز الاتحاد للابحاث والتطوير