أحدث إعلان إدارة دونالد ترامب الجديدة تعليق الإنفاق على المساعدات الأميركية الخارجية البالغة قرابة 68 مليار دولار سنوياً صدمة عالمية. لم يقتصر هذا القرار على تعليق المساعدات العسكرية، التي تشكّل نسبة كبيرة من مجمل المبلغ، بل طال معه تعليق المساعدات التنموية وحملات حقوق الإنسان والمبادرات الداعمة للمؤسّسات الديمقراطية، حتى مع اتجاه السياسة الخارجية الأميركية إلى تقويض الأهداف المعلنة لمساعداتها. وأثار الأمر التنفيذي فور صدوره مخاوف في الصحافة السائدة إزاء تخلّي الولايات المتحدة عن التزاماتها تجاه أوكرانيا في حربها مع روسيا وإهمال الكثير من المهام الإنسانية في أنحاء العالم المتخلّف.
لكن ردّ الفعل العام على إعلان تعليق المساعدات الأميركية يعيد تعزيز ثنائية زائفة لطالما تمثّلت في الاعتقاد بأن التدخل الإنساني والتنموي الأميركي والغربي يعمل بمعزل عن المصالح الجيوسياسية والإمبريالية العدوانية لهذه الدول. في هذا السياق، لا يجب تأويل إعلان ترامب على أنّه هجوم على الجانب «الألطف» من السياسة الخارجية الأميركية، بل على أنه توحيد بين شكلها ومضمونها، لينكشف لنا الهدف الحقيقي للمساعدات الخارجية في خدمة مصالح الطبقة الحاكمة الأميركية، وقد باتت تعتمد الآن على العصا وحدها من دون الجزرة.
الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والأنجزة
لقد استحدثت القوى الغربية أشكالاً من التدخّل والسيطرة، أُطلق عليها أحياناً الإمبريالية غير الرسمية، إلى جانب أشكال الهيمنة التقليدية الصريحة، من قبيل التدخلات العسكرية والاستحواذ على الأراضي والتدخل السياسي المباشر. وعلى مدى العقود القليلة الماضية، ومع تطوير هذه الأدوات الأمكر حلّت جزئياً محل الأشكال الأقدم للهيمنة. شكّلت أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، بحكم قربها الجغرافي من الولايات المتّحدة، مختبراً مهماً لهذه الممارسات.
تجلّت هذه السياسات تاريخياً في الترويج للأيديولوجيا والثقافة الأميركية عبر البعثات التبشيرية المسيحية وأفلام هوليوود، وهو الوجه الألطف للإمبريالية الناعمة. فضلاً عن تطويع الحكومات بتمويل الأحزاب السياسية المعارضة أو المرشّحين الرئاسيين سرّاً، وفرض العقوبات الاقتصادية. كما شهدت المنطقة اعتماداً متزايداً على برامج المساعدات التنموية، وهو اتجاه يعود إلى ما يُسمّى مبادرات المساعدات مُتعدّدة الأطراف التي قادها البنك وصندوق النقد الدوليين في منتصف القرن العشرين. وقد استُخدمت هذه المؤسّسات لاحقاً لإجبار دول الجنوب العالمي على تبنّي سياسات نيوليبرالية، عزّزت من تبعيتها للولايات المتّحدة وأوروبا.
أسهم هذا الشكل من الإمبريالية في تمكين ما يُسمّى المجتمع المدني من منظّمات غير حكومية وهيئات مجتمع مدني في المناطق المهمّشة. شملت هذه المنظمات جهات تهتم بالفقر واللامساواة وحقوق الإنسان وفي الآونة الأخيرة الأزمة البيئية، وتزامنت تدخلاتها الإنسانية في الغالب مع الإصلاحات النيوليبرالية بل شرعنتها أيضاً.
كان للوكالات التنموية الغربية، وعلى رأسها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والبنك الدولي، دور محوري في انتشار المنظّمات غير الحكومية، بالإضافة إلى برامج المساعدات التنموية المتعدّدة في الآونة الأخيرة من الاتحاد الأوروبي الذي استخدم المنطقة مختبراً لمقاربته «القوة المدنية» في السياسة الخارجية منذ أواخر التسعينيات.
لكن، لم تقتصر هذه البرامج المموّلة من الخارجية الأميركية على عجزها الجوهري عن معالجة الأزمات الاجتماعية والبيئية الحادّة في المنطقة، بل كانت أدوات لتعزيز البنى نفسها التي أفرزت هذه الأزمات. وبعد قرابة قرن من التدخلات، لا تزال أوضاع الفقر واللا مساواة والاستغلال والقمع على حالها (القضايا المستهدفة من هذه البرامج)، حتى مع استحداث أسواق جديدة بفعل هذه التدخلات.
المختبرات الأولى للمجتمع المدني
على غرار النيوليبرالية نفسها، بدأ كثير من هذه السياسات بجدّية في تشيلي. كان الانقلاب العسكري المدعوم أميركياً ضدّ الحكومة الاشتراكية في العام 1973 تتويجاً لتدخّل خارجي أوسع بدأ قبل ذلك بسنوات. وأكّدت آلاف الوثائق التي رفعت عنها السرّية بين عامي 1999 و2000 ضلوع وكالة الاستخبارات المركزية في هذه العملية. كانت الحروب الاقتصادية والانقلابات العسكرية تتويجاً لجهد أكبر منذ أوائل الستينيات استهدف منع الاشتراكيين من الوصول إلى السلطة. واضطلع تمويل المجتمع المدني واختراقه، من قبيل النقابات والهيئات الدينية والمنظمات النسائية، بدور محوري في هذا الجهد.
مع تنصيب أوغوستو بينوشيه ديكتاتوراً، تحوَّلَت تشيلي إلى مختبر لسياسات النيوليبرالية، وكذلك إلى ميدانٍ رئيس لتأسيس وتطوير المنظّمات غير الحكومية المدعومة غربياً، لا سيما المعنية بحقوق الإنسان. بعبارة أخرى، دعمت الولايات المتحدة وأوروبا الديكتاتورية في تشيلي وسهّلتا قمعها الوحشي لسكان البلاد، ولكنها في الوقت نفسه أدّت دوراً في التخفيف الجزئي من ذلك القمع، إذ موّلتا منظّمات حقوقية تولّت أدواراً تراوحت بين فضح انتهاكات النظام الديكتاتوري وتقديم المساعدات الغذائية للعائلات الفقيرة.
لقد أبرزَ جيمس بيتراس، في أبحاثه المستفيضة عن هذا الموضوع، أنّ توسّع نشاط المنظّمات غير الحكومية المدعومة غربياً في أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي تزامن مع عملية كوندور، وهي حملة إرهاب استهدفت القادة والحركات اليسارية، وترافقَت مع تنصيب أنظمة مدعومة أميركياً منذ سبعينيات القرن العشرين. من خلال التخفيف السطحي من بعض التداعيات الأوضح لتلك الأنظمة وسياساتها النيوليبرالية التي اعتمدتها فوراً، أدّت هذه المنظمات دوراً مكمّلاً تمثّل في تحييد الحركات السياسية والاجتماعية الأكثر عضوية وجذرية، سواء باحتوائها أو بإضعافها واحتواء قادتها بفضل الموارد الهائلة المتاحة لها.
مع ازدياد حجم التمويل من المنظّمات متعدّدة الأطراف كالبنك الدولي منذ الثمانينيات، وخصوصاً من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والبرامج التنموية الأوروبية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، أعادت هذه المنظّمات إنتاج نفسها في أنحاء المنطقة، وأصبحت أداة بالغة الأهمية في السياسة الخارجية الغربية.
الديمقراطية وفق رؤية الوكالة الأميركية للتنمية الدولية
بحلول التسعينيات، ومع ضعف الحركات اليسارية في أعقاب عملية كوندور وتحوّل الأنظمة الديكتاتورية السابقة إلى ديمقراطيات انتخابية، تغيّر تركيز الغرب في أميركا اللاتينية من المنظّمات المعنية بانتهاكات حقوق الإنسان إلى منظّمات تروّج للديمقراطية والتنمية، مع التوجّه نحو دمج الأولى في إطار الثانية.
نشطت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في المنطقة منذ تأسيسها في مطلع الستينيات، لكنها أدّت دوراً أقوى في التسعينيات بصفتها الوجه «اللَّطيف» للتدخل الأميركي. أغدقت الوكالة مئات الملايين من الدولارات في هايتي لدعم مبادرات المنظّمات غير الحكومية وبرامج «ديمقراطية» تقودها الدولة، وموّلت مشروعات تنموية صغرى في ريف باراغواي لثني الفلاحين عن دعم الجماعات المتمرّدة، وواجهت المدّ الاشتراكي المتسارع في بوليفيا بحملة بملايين الدولارات لبناء الديمقراطية.
انضمّت قوى غربية أخرى إلى هذا النهج الأميركي في المنطقة، بل ونافسته في بعض الدول. منذ مطلع الألفية، بدأ الاتحاد الأوروبي اختبار نهجه الجديد للمجتمع المدني في السياسة الخارجية ضمن كولومبيا الغارقة في الحرب، واقترح بديلاً عن «خطة كولومبيا» المدعومة أميركياً، وهي سياسة متشدّدة لمكافحة التمرّد تتكامل مع حرب واشنطن «على المخدرات».
لكن ما سُمّي «مختبرات السلام» الأوروبية، المموّلة بعشرات الملايين من اليوروهات بين 2002 و2010، نُفّذت فعلياً بالتوازي مع برامج مكافحة التمرّد، وأسهمت في إضعاف الحركات اليسارية الثورية وقاعدتها الاجتماعية من خلال وسائل عدة، منها تمويل مشروعات تنموية صغرى تربط الفلاحين في مناطق النزاع بصناعة الصادرات الزراعية. علاوة على ذلك، سلّطت «الحملة ضدّ تجارة السلاح» الضوء على أن دولاً أعضاء في الاتحاد الأوروبي من بينها بريطانيا (حين كانت لا تزال جزءاً منه) وإسبانيا دعمت الجهود العسكرية الأميركية لقمع السكان، بالتزامن مع تمويلها مشروع بناء السلام.
وبينما كثّفت الولايات المتّحدة نقل الأسلحة إلى كولومبيا، تفوّق عليها الاتحاد الأوروبي ليصبح المانح الرئيس للمساعدات التنموية في أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي في مطلع الألفية. رافق هذا الاستثمار التنموي ازدياد التبادل التجاري بين المنطقتين، حتى كاد يعادل اليوم التجارة بين أميركا اللاتينية والولايات المتحدة، وسهّلت ذلك سلسلة من اتفاقيات التجارة الحرّة بين الكتلتين، جميعها مشروطة ببنود ومعايير معيارية.
وعلى الرغم من الاصطفاف الصريح مع أنماط التدخل العنيفة والعسكرية، عملت مساعدات الاتحاد الأوروبي والوكالة الأميركية للتنمية الدولية وسائر الوكالات التنموية في المنطقة من دون تدقيق أو اعتراض يُذكر، ويعود ذلك في الغالب إلى الافتراض السائد بأن مشروعاتها تنطوي على نوايا حسنة وقوة من قوى الخير بطبيعتها.
يتجلّى ذلك اليوم في استمرار تخصيص الوكالة الأميركية ملايين الدولارات للمنطقة، آخرها تحت ذريعة مساعدة المهاجرين الفنزويليين. وفي القروض السنوية من البنك الدولي وتصل إلى عشرات المليارات لما يُطلق عليه برامج التنمية «المستدامة»، وفي مساهمة الاتحاد الأوروبي السنوية بمئة مليون يورو من المساعدات الإنسانية، وهي مساهمة تتضاءل أمام ما يقارب 300 مليار يورو من التبادل التجاري السنوي بينه وبين أميركا اللاتينية.
الإمبريالية لم تكن يوماً لطيفة
أصبحت الإمبريالية غير الرسمية، لا سيما في شكل المساعدات التنموية والعمل الإنساني، الأداة المفضّلة لاختراق الأسواق الجديدة وتهيئة الظروف المواتية للاستثمار في الجنوب العالمي. وفي هذا الإطار، كان مشروع المساعدات الغربية والمنظّمات غير الحكومية في أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي قصة نجاح في الغالب.
يبقى أن نرى إلى أي مدى سيُترجم تعليق إدارة ترامب لتقديم المساعدات إلى انقطاع دائم. وفي كل الأحوال، من المرجّح أن تواجه هذه التغييرات في السياسة الخارجية مقاومة شديدة من جهات رسمية ورأسمالية على حد سواء، إذ أثبتت القوة الناعمة أنّها أداة فعّالة في تعزيز المصالح الإمبريالية ومصالح الطبقات الحاكمة. أمّا بقيتنا، فهذه الأوقات العصيبة تتيح لنا فرصة لتركيز الاهتمام على هذه المصالح وكيفية تعزيزها عبر الإدارات والسياسات المتعاقبة. ويعني ذلك فضح وهم السياسة الخارجية «اللطفية» للولايات المتّحدة وأوروبا، والتصدي لازدرائهما الغالبية المضطهدة في العالم، سواء حين يكون ذلك الازدراء علنياً أو حين يتوارى خلف قناع الإحسان.
موقع صفر