يحاول العديد من المحللين والمراقبين فهم مرتكزات ومقومات وبالتالي منحى صعود الصين تحت قيادة الرئيس الحالي شي جين بينغ، وخاصة بعد أن أرسى نموذجًا في الحكم مختلفًا عن أسلافه من الرؤساء السابقين في مختلف المجالات الإدارية والاقتصادية والحزبية والسياسية وغيرها*.
ولأجل فهم هذا النموذج، كان لا بد من تسليط الضوء على رؤية “شي” وصياغتها، وتفسير المفاهيم الأيديولوجية التي اعتمدها في إطار نسق منتظم لنهج شامل يجعل الصين قوة جديدة أكثر حزمًا وتأكيدًا على حضورها.
لكن لا بد بداية من عرض تاريخي يوضح لنا الخلفية التي انطلق منها “شي” لتشكيل رؤاه ومساره في الحياة العملية والحكم. وفي واقع الحال، نجد أنه شكّل رصيدًا هامًا من خلال نجاحه في محطات عدّة، لعل من بينها نجاحه الكبير في تحقيق معدلات نمو كبيرة في مقاطعة جي جيانغ Zhejiang عندما تولى رئاسة الحزب فيها عام 2002، حيث شهدت المقاطعة تحت قيادته نموًا اقتصاديًا مذهلًا، فقد زادت الصادرات بنسبة 33 %سنويًا في السنوات الأربع التي قضاها في منصبه.
أما المحطة الأخرى اللامعة في حياته، قدرته على إخماد فضيحة فساد كبرى في شنغهاي عام 2007، بتفويض من الرئيس الصيني آنذاك هو جين تاو Jintao HU (حكم الصين من عام 2003 إلى 2013) وزملائه في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب، الذين اعتمدوا عليه لما عرفوه عنه من استقامة وانضباط. وبالفعل، فإن الحسم والدهاء لدى “شي” كان كفيلًا بحل المسألة، فرفض “الفيلا” التي أعطيت له وتبّرع بها للمحاربين القدامى، الأمر الذي أثار إعجاب أقرانه. كذلك، أتيحت له فرصة أخرى لإظهار مهاراته السياسية في عهد جيانغ زيمين Jiāng Zémín (1993 –2003)، بعد أن طالت فضيحة الفساد شركاء زيمين، فعمل على إظهار صلابته لكن من دون استفزاز زيمين.
هذا بالإضافة إلى أنه شغل منصب رئيس المدرسة المركزية للحزب (2007-2012)، وهي أهمّ مكان لتدريب المسؤولين والأبحاث الإيديولوجية/السياسية في الحزب “الشيوعي الصيني”.
انطلق “شي” من قاعدة أساسية في الحكم تتمحور بأن الأيديولوجيا هي التي تقود السياسات وليس العكس، وبذلك اختلف عن الرؤساء السابقين دِنغ شياو بينغ وجيانغ زَمين وهو جينتاو، الذين قادوا سياسات تؤدي إلى تفعيل دور السوق في الاقتصاد المحلي الصيني.
وبالتالي، لقد أولى “شي” أهمية لإعادة الاعتبار للأدبيات الماركسية-اللينينية في كل مفاصل الحياة الصينية، وبث الروح الوطنية الماركسية في الحزب الشيوعي الصيني من خلال سياسات اعتمدت مفاهيم وتطبيقات اليسار اللينيني في السياسة، واليسار الماركسي في الاقتصاد، واليمين القومي في السياسة الخارجية. كما أدرك تمامًا أن ديناميات المجتمع الصيني قائمة على الخصوصية والفرادة في الإطار المتصل بالعلائقية والانقياد ضمن أطر الحزب الشيوعي الصيني، وهذا ما استدعى من “شي” إيمانًا وإدراكًا عمليًا أن يثبّت ويركّز سيطرته على كل المجالات.
وتأكيدًا لما سبق ذكره، لم يعتمد “شي” سياسة التحدث باسم القيادة الجماعية، كما ظن كثيرون، إنما اعتمد سياسات أقل ما يُستشف منها أنه يريد تنصيب نفسه كزعيم عظيم للحزب الشيوعي، بل يمكن القول أكثر من ذلك “إمبراطور العصر الحديث”. والحدث الأبرز في هذا السياق، طلبه من المشرّعين الصينيين في عام 2018، تعديل الدستور للتّخلص من تحديد عدد الفترات الرئاسية باثنتين.
إضافة إلى ذلك، فمع نهاية العام الثاني من فترته الرئاسية الأولى كان قد جمع بين يديه كافّة السلطات، من بينها رئيس مجلس الأمن القومي الذي أُنشئ حديثًا، والقائد الأعلى للجيش، وهو لقب لم يحصل عليه ماو شخصيًا*. كما عمّد نفسه “مرشدًا أساسيًا للصين”، وهو مصطلح يرمز إلى أهمّيته المركزية بالنسبة للدولة. كذلك أجرى تغييرات في ديناميّات عمل المكتب السياسي للحزب الشيوعي بحيث أصبح على جميع أعضاء المكتب بمن فيهم أعضاء اللجنة الدائمة أن يقدّموا تقارير دورية لرئيس الحزب بشكل مباشر لتقييم أدائهم.
وذهب “شي” بعيدًا في إبراز صورته كإمبراطور للصين، ويتضح ذلك من خلال الحملة الترويجية التي تقودها وسائل الإعلام، والتغييرات في المناهج التعليمية المتمثلة بدمج “فكر شي” (Thought Xi) في مناهج المدارس الإبتدائية والمتوسطة. كما قاد حملة دعائية كبيرة من خلال وسائل الإعلام المختلفة التي صوّرته على أنه “رجل خارق” يحمل ميزات لا يتصف بها غيره. وقد جسّدت وزارة الدفاع هذا الأمر، عبر إصدارها لوحات زيتية تصوّره في مشاهد بطولية، كما طُلب من آلاف طلاب الفنون المتقدّمين إلى جامعة بكين للتكنولوجيا رسم صورة الرئيس “شي”.
ومن الإشارات الأساسية التي تدلّ على إحكامه السيطرة والسلطة أنه استوحى من ماو تسي تونغ فكرة الكتاب الأحمر بترجمة لروحيتها، حيث أنتج الناشرون ثماني مجلّدات من خطابات وكتابات لـ “شي” تحت عنوان “ملاحظات شي جين بينغ”.
أما العلامة الأبرز، والتي كانت إشارة فارقة في الدلالة على نمطه السلطوي وإظهار محورية موقعه، قيامه عند تولّيه قيادة الحزب الشيوعي الصيني، وبالتحديد حين ترأس الجلسة الثالثة للجنة المركزية 18 للحزب، بخطوة غير مسبوقة بإصدار المذكرة التفسيرية للوثيقة الرئيسية للحزب، لأن المتعارف أن وثائق الحزب في عهد أسلافه لا تحتاج إلى شرح بنص موازٍ لها. لكن “شي” اعتبر أن هذه الخطوة ضرورية، وربما فرصة تاريخية لاثبات رؤاه عبر نصٍ مكتوب يترجم خطط عملية تناول فيها 11 مجالًا رئيسيًا (السوق، شركات الدولة، فرض الضرائب على الأغنياء، التوسّع الحضري، الديمقراطية ذات الخصائص الصينية، الإصلاح القضائي، مكافحة الفساد، الحرب السيبرانية، التحدّيات العالمية، ازدهار الصين، القوة في الصين الحديثة).
في موازاة ذلك، سعى شي جين بينغ إلى ربط السلطة العسكرية به، وقاد حملة تطهير في قيادتها العليا، ليشكل بنية قيادة عسكرية تفرض على القّوات المسلّحة سيطرة فعلية للحزب. وعليه، انتقى بعناية ضباطًا مخلصين يثق بهم، تحقيقًا لرؤيته بأنه “لإحياء عظمة الأمّة الصينية يجب أن نضمن وجود تناغم وانسجام بين بلد مزدهر وجيش قوي”.
هذه السياسات على أهميتها، أوجدت معارضة من ثلاثة اتّجاهات: اليسار المؤيد لسياسات ماو والذي اعتقد أن سياسات “شي” لا تندرج كما يجب في إطار الماوية، والوسط الذي يريد منه الاهتمام أكثر بالجانب الاقتصادي معتبرًا أنّ سياساته ليست كافية لتحقيق ذلك، واليمين الذي خرج من المعادلة نتيجة اسكاته من خلال منع أبسط أشكال النقاش السياسي في دوائر القرار.
ولا غرو إن قلنا أن رؤية “شي” تجمع بين الأيديولوجيا العقائدية والبراغماتية التكنوقراطية، فقد اعتمد في ممارسته للحكم العمل ضمن مساري المادية التاريخية والمادية الجدلية. فهو آمن برؤية تاريخية ترتكز على حتمية التقدم من خلال الصراع الطبقي المستمر، كما آمن أيضًا برؤية للسياسة تُركِّز على طبيعة التغيُّر حين تصطدم قوى عديدة ببعضها حتى تظهر تسوية من ثنايا صراعها. وهنا تجدر الإشارة إلى أن مضامين فكر شي جين بينغ حول “الإشتراكية ذات الخصائص الصينية لعصر جديد” أضيفت إلى دستور الحزب الشيوعي الصيني في مؤتمره التاسع عشر عام 2017*، بوصفها دليلًا موجّهًا جديدًا للعمل، ويؤكد إلزامية التأييد لجميع سياسات “شي”. ويُسجّل للقائد الصيني أنّه احتكم إلى خبرات أسلافه من الرؤساء السابقين في مسيرته العملية، مستفيدًا من تجاربهم ومتعظًا من سيرتهم في الحكم، وهو الأمر الذي جعله ينحو منحى التحذير من مخاطر التدهور الإيديولوجي، ودور الغرب في إذكاء الانقسامات الأيديولوجية داخل الصين. وعليه، عمد على تحصين المتاريس الإيديولوجية بتأسيس دفاعات في كل الدوائر أفقيًا وعاموديًا، لأنه أدرك تمامًا أن الغرب يعمل على تفكيك النظام السياسي الصيني تدريجيًا، بدءًا من اختراق الدفاعات الإيديولوجية، وزعزعة ثقة الشعب بالنظام، مرورًا بزرع مفاهيم من وحي الصناعة الليبرالية للتأثير في النمط الفكري والإيديولوجي. وهذا ما فطن إليه “شي” بشكل مبكر، وأدرج سياسات استباقية فور تسلمه الحكم لمواجهته، فكان أن اعتمد سيطرة الحزب على جيش التحرير الشعبي، والشرطة الشعبية المُسلحة، وجهاز الرقابة والأمن السيبراني المركزي الصيني. وبعد ذلك، قاد حملة توعوية تثقيفية منذ عام 2019 داخل الحزب الشيوعي الصيني تتمحور حول التأكيد على كل المحازبين والمنتسبين عدم نسيان أهداف الحزب الأصلية، والتفكير بها على الدوام.
وفي هذا السياق أيضًا، نجد أن مدار حراكه تمحور في إطار تثبيت إحياء الفكر الصيني الكلاسيكي، حيث أمر المسؤولين في جميع أنحاء البلاد بالمشاركة في محاضرات عن رؤى كونفوشيوس وفلاسفة صينيين آخرين لتشجيع وتعزيز الثقة بالنفس على المستوى الوطني، باعتقاده أن الحزب الشيوعي الصيني هو الامتداد الطبيعي لهذه الثقافة الصينية التقليدية.
وبات “شي”، وفق هذه الرؤى، خادمًا أساسيًّا للقومية الصينية، همّه الأول والأخير إدراج مفهوم “الإحياء العظيم للشعب الصيني” في قلب مخططاته حتى يغدو المجتمع الصيني أو الأمة الصينية (المصطلح الذي اختاره “شي”) تحدوه شبكة من المناعة الذاتية لكل ما هو أجنبي.
لذلك، ما تقدّم يشي بأن “شي” يحمل في طيات تفكيره همًّا أساسيًّا هو مواجهة السطوة الغربية بصمت ومن الداخل، فكان أن تسلّح بإطار نظري يجمع نموذج الحكم الكونفوشيوسي للأسرة والولاء مع المبدأ اللينيني للحكم المركزي للحزب الواحد، وتعميمه عبر منشورات وكتب ومناهج وغيرها، لكي تصل إلى كل فرد في الأمة الصينية.
وهنا، حريّ بنا الاستدلال بحادثة تدل على مدى استحواذ الهاجس الغربي على تفكير “شي”، فإنه بعد تعيينه أمينًا عامًا للحزب الشيوعي عام 2012 مباشرة، تقصّد أن يجول مع اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب، المُعيَّنة حديثًا آنذاك، في جولة لتفقّد معرض “الطريق إلى الإحياء” بمتحف الصين الوطني، وهو معرض لتوثيق الهجمة والاستعمار الغربي والياباني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، والرد الصيني في تلك الفترة التي سُمّيت بـ “قرن المهانة الوطنية” (The Century of National Humiliation).
على المستوى الإقتصادي، نجد سياسات متقلبة في الممارسة، وما ذلك إلاّ من أجل مواكبة التغيرات والتطورات، على الرغم من إدراكنا، بحسب التتبع، أن “شي” لم يولِ اهتمامًا في البداية بشكل ملحوظ لمتابعة الوضع الاقتصادي، باعتبار أن الأولوية لضبط السياسات الحزبية ورسم مسارها، وهو ما سيفضي بالنتيجة إلى تصحيح الأوضاع، وبالتالي ضبط الأمور في مسارها الصحيح. وبعدها يأتي الاهتمام بالشأن الاقتصادي.
وعليه، شهد عصر “شي” تفاوتًا في مسار السياسات الاقتصادية، من إصلاحات السوق بين عامي 2013 و2015 إلى تبنّي زيادة تدخُّل الدولة والحزب ودعم الشركات. وربما كان “شي” يعقتد أن التنوع في السياسات الاقتصادية هو ما يخدم تصحيح “التنمية غير المتناسبة وغير المتوازنة” التي اعتمدها دينغ قبله.
وعمد “شي” على الإمساك بمفاصل القوى الإقتصادية المحرّكة للسوق، فكانت لجان الحزب تختار الإدارات العُليا للشركات وتتخذ القرارات المصيرية لمجالس الإدارات، بالإضافة إلى الاستحواذ على أسهم في الشركات الخاصة، واعتماد سياسات تشجع على الاستثمار في الشركات المملوكة للدولة.
بالنسبة للخارج، كان “شي” واعيًا جدًا لانتهاج سياسة مدركة تهدف لتعزيز حضور الصين في الخارج، بخلاف السياسة التي انتهجها دينغ المعتمدة على الحذر التقليدي وتجنُّب المخاطر.
ولقراءة الوعي السياسي الإدراكي لـ “شي” بشكل أكثر عمقًا، نجد من المفيد التوقف عند صياغته لحبكة مفهوم “القوة الوطنية الشاملة”، حيث أثار إشكاليات حول عدد من المؤشرات المتعلقة بهذا المفهوم، وأبرزها ما يتصل بالتحولات في “موازين القوى الدولية”، في إشارة منه إلى دور الصين البارز في قيادة العالم.
ونفهم من الممارسات السياسية لـ “شي” على مدى سنوات حكمه، أنه يهدف في أن تصبح الصين القوة العالمية والآسيوية الأولى بحلول عام 2049 (بالتزامن مع حلول الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية). وحتى هذا التاريخ، يعمل في الداخل على مأسسة وعي شعبي بريادة الحزب الشيوعي الصيني، وتقديم “اقتصاد متقدم من المستوى المتوسط” (Medium-level Developed Economy)، وتحديث الدفاع الوطني والقوات المسلحة.
هذا التطور التدريجي في مسار البلاد، يوضح أن سياسة “شي” تعتمد على تراكم الإنجازات في سياق توكيد قوة الصين على المستوى الوطني، فقد مدح مرارًا ارتقاء بلاده على مستوى القوة الوطنية، مروّجًا لقوتها الوطنية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية والشاملة من وحي تقرير المؤتمر العام للحزب الشيوعي الصيني عام 2017.
لم يكتفِ “شي” بذلك، فنجد أنّه عكف على سلسلة من الخطوات التي من شأنها فهم المدرك التوسعي في إطار السياسة الخارجية للبلاد، وبشكل مغاير لسياسة دينغ، لكن على نحو تدريجي مترابط ومتوازن. فقد عمل في البداية، على تطبيق نظرية سلفه دينغ شياو بينغ في القضايا الخارجية بعدم السعي إلى الهيمنة وعدم التورّط في سياسات القوة، على قاعدة “راقب بهدوء، وأمّن مركزك، وتعامل مع الأمور بهدوء، واخفِ قدراتك، وتحمّل واصبر، وابتعد عن الأضواء، ولا تدّعي القيادة مطلقًا”. هذه السياسة لم تدم طويلًا، فسرعان ما انتقل “شي” إلى “النهج الإستباقي” للسياسة الخارجية مما مثّل خروجًا مهمًا عن استراتيجية دينغ المتمثلة في “البقاء بعيدًا عن الأنظار”.
ما تقدّم يقودنا إلى تفسير نهج “شي” في السياسة الخارجية وفق سياقات استراتيجية صعود الصين الجديدة، وخاصة بعد أقدم على خطوات مع دول الحدود، تشير إلى النوايا التوسعية بخلاف النهج المتبع سابقًا “الصعود السلمي”. فقد قام بعدّة عمليات استصلاح بحري للأراضي في بحر الصين الجنوبي، وادعى السيادة عليها. كما شنّ ضربات صاروخية حول الساحل التايواني، في أسلوب يحاكي الحصار البحري والجوي على الجزيرة، ودشّن بنى تحتية (طرق ومطارات جديدة) ومن بينها ذات الاستخدامات العسكرية قرب الحدود الهندية.
حاول “شي” بحنكته وذكائه، إرسال إشارات إلى كل ما يعنيهم الأمر في العالم، أن الصين اليوم ليست كما الصين سابقًا. وجهد من أجل ذلك، إلى استغلال الفرص لإيصال هذه الإشارات مستخدمًا مصطلحات معينة للدلالة على نواياه وفكره. ففي المؤتمر الذي أقيم بمناسبة الذكرى الخمسين لاستعادة مقعد جمهورية الصين الشعبية في الأمم المتحدة، أعلن أنّ الصين “طبّقت بجدّية عالمية حقوق الإنسان في السياق الصيني”. وقد تعمّد استخدام مصطلح “السياق الصيني”، في إشارة منه إلى انتقاده لقيم “الحرية”، “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” المستخدمة من قبل الغرب لغايات الهيمنة، مركزًا على الدعوة إلى إصلاحات سياسية للحدّ من توسّع الفكر الليبرالي.
وبالنظر بشكل أوسع إلى رؤيته للتشكيل الدولي، نجد أنه اختار بعناية نظرة جديدة ومحكّمة لـ “الحوكمة العالمية”، لجهة مراده بأن اتجاهها ومسارها يجب أن يؤدّي إلى توسيع نفوذ الصين السياسي الدولي، وتساعدها على إبراز قوتها الناعمة، وتعزّز أيضًا تنميتها الإقتصادية المحليّة.
وفي هذا السياق، دعا “شي” إلى “إصلاح نظام الحوكمة العالمي بمفاهيم الإنصاف والعدالة”، في إشارة منه إلى مزيد من السيطرة المشتركة على الحوكمة العالمية. وما استخدامه لمصطلح “الإنصاف والعدالة” في خطاباته إلاّ للدعوة إلى عالم متعدّد الأقطاب، يكون للصين دور فيه بوضع القواعد الدولية. وقد اعتبر مراقبون وباحثون أن بينغ يخطط لنموذج “التنمية الوطني الصيني” باعتباره البديل الناجع عن “إجماع واشنطن” الذي يحُثّ على تبني الحكم الديمقراطي والأسواق الحُرَّة. هذا النموذج يهدف إلى إظهار دور للصين بشكل فعال في إطار استراتيجية الحوكمة العالمية عبر العمل على قضايا رئيسية: الصحة العالمية، وحوكمة الإنترنت، وتغيّر المناخ، وتمويل التنمية.
وفي الإطار التطبيقي، نجد أن “شي” اعتمد سياسات عملية، كما في سياساته المختلفة، فقد قدَّمت الصين إمدادات جاهزة من تقنيات الرقابة ودورات التدريب الشُرَطية والتعاون الاستخباراتي لدول مثل الإكوادور وأوزبكستان وزمبابوي، بهدف السعي إلى تقديم نموذج مغاير للديمقراطية الليبرالية الغربي الكلاسيكي.
كذلك، من الدلالات المباشرة التي تفيد بأن “شي” يعمل على حبك شروط الحوكمة العالمية بقوة أكبر لصالح الصين، إذ يتضح من خلال خطة مبادرة الحزام والطريق* وربطها بالبنك الآسيوي للاستثمار والعمل على بناء شبكة اقتصادية تربط الصين بالعالم عبر استثمار مليارات الدولارات في البنى التحتية على طول طريق الحرير الذي يربطها بالقارة الأوروبية، أنه يعمل على اتباع منهج يقتضي بممارسة سلطة أكبر داخل الشبكة الدولية الاقتصادية، وصولًا إلى إنشاء مؤسّسات دولية جديدة تهيمن عليها الصين.
كذلك، هناك مبادرات أخرى أسستها الصين أو شاركت فيها بغية تعزيز التضامن الدولي والإسهام في تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، مثل “مبادرة التنمية العالمية”، و”مبادرة السلام العالمية”، و”مبادرة الحضارة العالمية”، وغيرها، مع تقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية للدول المحتاجة في مختلف أنحاء العالم.
والأبرز في هذا الإطار، أن “شي” حاول استخدام سياسة الضغط الاقتصادي والتجاري في العلاقات مع الدول، وهذا ما أدى إلى التأثير على مواقف بعض الدول النامية في عدد من القضايا الدولية التي تعرضت للضغط الصيني. فقد أعلنت بكين في يوليو/تموز 2021 عقوبات اقتصادية للمرة الأولى ضد أشخاص ومؤسسات في الغرب انتقدت الصين.
إضافة إلى ما ورد، نجد سياسة “دبلوماسبة الذئب المحارب” حاضرة بقوة في عهد “شي”، حيث اعتمدت هذه السياسة من قبل الدبلوماسيين الصينيين في العالم بمهاجمتهم بصورة علنية ومتكررة حكومات الدول المضيفة، وهذا ما لم يكن ملحوظًا البتة خلال العقود المنصرمة.
وبالعودة إلى الحديث عن “النهج الإستباقي” في سياسة “شي” بالشأن الخارجي، لوحظ بقوة التحوّل في تصريحاته المتعلّقة بواشنطن من الحديث عن إيجابية التعاون إلى التحذير من تبعات المواجهة، وخاصة في ظل تزايد التركيز الأميركي على المنافسة مع بكين، لاسيّما في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وظهر هذا التحوّل حين حذّر نظيره الأميركي جو بايدن بمكالمة هاتفية في 10 شباط/فبراير 2021 من أن “المواجهة لن تؤدّي إلا إلى طريق مسدود”. وفي العام التالي، دعا “شي” خلال لقائه بايدن على هامش قمّة مجموعة العشرين في بالي إلى تصحيح العلاقات الصينية– الأميركية، خاصة بعد أن شهدت العلاقة بين البلدين أحداثًا أدت لتوتيرها بدءًا من زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة نانسي بيلوسي إلى تايوان واستغلال حادثة دخول المنطاد الصيني إلى الأجواء الأميركية وليس انتهاء بتوسيع صلاحيات استخدام القواعد العسكرية الأميركية في الفيليبين وتزويد أستراليا بغوّاصات نووية. كل هذه الأحداث، واجهها “شي” بخطاب تصعيدي اتّهم فيه الإدارة الأميركية بالقيام بحملة “احتواء وقمع للصين جلبت تحدّيات خطيرة غير مسبوقة”.
إن رؤية المواجهة الشمولية مع الولايات المتحدة الأمريكية، ينظر إليها “شي” من زاوية العدوانية الإستراتيجية في سياق الحرب الإيديولوجية، وهذا مثاله، رؤيته العدوانية للمؤسسات الغربية الجديدة التي تأسست لموازنة الصين، مثل الرُباعية “Quad” (وهو اتفاق تعاون إستراتيجي بين أستراليا والهند والولايات المتحدة واليابان)، وأوكوس “AUKUS” (وهو اتفاق دفاع مشترك بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة). وعليه، يقود “شي” مجابهة على هذا الصعيد، فهل ينجح في تأسيس منظومات وتحالفات نديّة لما أسسته الولايات المتحدة الأمريكية على المدى القريب؟
خلاصة تقييمية
هناك من يفترض بأن التناقضات الداخلية لرؤية “شي” الماركسية-اللينينية ستؤدي إلى سقوطها وفشلها على المدى القريب. ربما يكون محقًا، لو كان الحاكم رجل غير “شي”، لكن الأخير رجل ذكي مخضرم ومحنك، ويملك من القدرات التي تمكنه من السيطرة على المؤثرات الداخلية والخارجية مهما كان حجمها.
ان المتخوفين من مصير “شي”، يستدلون بأن المعارضة الخفيّة له تتسع يومًا بعد يوم نتيجة السياسات المعتمدة والانزعاج من “الجهاز القمعي” الذي بناه، حيث أثارت حملة مكافحة الفساد الفزغ في صفوف نخبة رجال الأعمال داخل الصين، وكذلك الفردانية والتسلط في القرارات، ما يوحي بنظام استبدادي تصل ارتداداته الاعتباطية إلى النظام القضائي الخاضع لسيطرة الحزب، ما أدى إلى توتر العلاقة بين رجال أعمال وخاصة في قطاع قطاع التكنولوجيا مع النظام الحاكم.
ولكن في المقلب الآخر، نجد أن “شي” جهد لبناء وعي إدراكي في النفوس والعقول يقوّي العلاقة بالحزب الشيوعي الصيني لدى مختلف فئات الشعب، وعمل على تقوية الجيش بمنظومة غير تقليدية، وبنى آلية متراصة من تقنيات الرقابة التي تُمكِّنه من السيطرة على أي احتجاج.
لكن بالرغم من أهمية ما ورد، نجد أن هناك تحوفًا مبررًا من سياسات “شي” الماركسية على المستوى الاقتصادي. ان توسيع سيطرة الحزب على القطاع الخاص، والدور المتنامي للشركات المملوكة للدولة والسياسة الصناعية، وإعادة توزيع الثروات في إطار البحث عن “رخاء مشترك”، هذه السياسات من الممكن أن تؤدي إلى تراجع ثقة رجال الأعمال، وبالتالي تقلُّص الاستثمار في رأس المال الثابت الخاص، وفي النتيجة انكماش النمو الاقتصادي مع مرور الوقت.
وليس مدافعة القول، إن سياسة “شي” المعتمدة على المستوى الوطني والقومي والدولي هي مزيج من فهم خاص لطبيعة المرحلة، وإدراك قوي أن قوميته الشيوعية المتمثلة بخطة بعيدة المدى تندرج في تحولاتها على مرتكزات هجينة من أساس ثابت إيديولوجي غير قابل للتغيّر بالدرجة الأولى، ومتغيرات عدّة لها علاقة بقراءة العالم المتغيّر وأنساقه المختلفة، ولكل نسق وتغيّر خطة يأتي أوان تطبيقها في زمانها ومكانها المناسبين. هذا الشكل من التفكير والإدراك، يجعل من الصعب التكهن لما يمكن أن تؤول إليه الأمور، لكن يجعلنا نقف أمام حقيقة لا ريب فيها هي أن “شي” صانع سياسي من الطراز الأول، يفهم سياساته، ولو أنها بيّنة للعيان المحلي والعالمي، إلاّ أنها خاضعة لمنظور التحليل الجدلي، وهذا ليس بالضرورة أن يكون مفهومًا لمن هم خارج الصين.
* شي جين بينغ رئيس جمهورية الصين الشعبية منذ آذار/مارس 2013، وتمَّ تصديق تجديد ولايته لمرّة ثالثة في آذار/مارس 2023 لمدّة خمس سنوات نهائية. تمكَّن من إحداث تغييرات وطنية في وقت قياسي، واستطاع أن يدخل بلاده عصرًا ذهبيًا جديدًا، ويَعدُ بأن تصبح الصين الرقم واحد عالميًا في الإقتصاد والتكنولوجيا. يصرّ على أن عالم القُطب الواحد انتهى وأنّ على الجميع احترام مكانة بلاده العالمية. بدأ بتنفيذ أهمّ مشروع في القرن الحالي وهو مبادرة الحزام والطريق. وخرق الكثير من الخطوط الحمر الأمريكية وعمل على مدّ جسور التواصل مع الدول الإفريقية وتقوية العلاقات مع دول الشرق الأوسط وأوروبا وأعاد النظر في العلاقات مع جيرانه وسعى إلى تقوية تحالفاته، ويسعى إلى إضعاف النفوذ الأميركي في شرق آسيا. للمزيد عن سيرة بينغ، راجع: سلسلة البحث الراجع الصادرة عن المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق بعنوان “الرئيس الصيني شي جين بينغ (سيرة موجزة)، العدد 58، نيسان/أبريل 2023.
* يشار إلى أن شي جين بينغ هو أول زعيم في حقبة ما بعد ماو تسي تونغ يحصل على ثلاثة ألقاب عليا في غضون بضعة أشهر فقط: الأمين العام للحزب ورئيس اللجنة العسكرية المركزية في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2012 (المؤتمر الثامن عشر)، ورئيس الجمهورية في 14 آذار/مارس 2013، ما يجعله الزعيم المطلق للصين وللحزب.
* في مؤتمر الحزب التاسع عشر (2017) الذي كرس رسميا “فكر شي جين بينغ حول الإشتراكية ذات الخصائص الصينية لعصر جديد” يمكن أن نقرأ بوضوح المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها فكر بينغ. يتلخّص برنامج شي للحكم بهذه العبارة الموجزة “يجب على الحزب الشيوعي الصيني التمسّك بقيادته المطلقة على جيش التحرير الشعبي والقوّات المسلّحة الشعبية الأخرى، تطبيق فكر شي جين بينغ بشأن تعزيز الجيش من خلال تعزيز ولائه السياسي وتقويته من خلال الإصلاح والتكنولوجيا وإدارته وفق القانون، بناء القوّات الشعبية التي تطيع أوامر الحزب، والتي تملك الإمكانات لتقاتل وتنتصر وتحافظ على أداء ممتاز، ضمان أن ينجز جيش التحرير الشعبي مهامّه في العصر الجديد، تعزيز الشعور القوي بالإنتماء للأمّة الصينية، دعم العدالة مع السعي لتحقيق المصالح المشتركة، العمل على بناء مجتمع له مصير مشترك، تحقيق النموّ المشترك من خلال المناقشة والتعاون، متابعة مبادرة الحزام والطريق”.
* فور تسلّمه زمام السلطة، سعى بينغ إلى إبراز صعود الصين السريع على المسرح العالمي تحت قيادته، بما في ذلك إطلاق “مبادرة الحزام والطريق” عام 2013، وهي خطة واسعة تقوم على تمويل البنية التحتية في البلدان الأخرى وتعزيز العلاقات معها.
د. محمد حسين سبيتي – مجلة قضايا آسيوية