منذ السابع من أكتوبر، وبخلاف عشرات الآلاف ممن ارتقوا أو أصيبوا، لم أحزن فعلياً على فقد شخص من قيادات جميع الفصائل بقدر ما حزنت على شخص الشهيد حسن نصر الله. لكن الألم عندي هو دوماً مُفعم بالأمل. وعلى سيرة أمل، كانت مشكلتي مع كلمات دنقل الخالدة عن أن الثأر ليس شخصياً بل هو ثأر جيل فجيل، وأنه غداً:
«سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،
يوقد النار شاملةً،
يطلب الثأرَ،
يستولد الحقَّ،
من أَضْلُع المستحيل…».
إنها بالفعل من قبيل الكلام الذي يتبعه الغاوون! تحديداً في تكريس الفكرة الأسطورية عن البطل، وكأنه يخرج من رحم المجهول فيغيّر كل شيء كمعجزة تَحار فيها العقول. إذ إنه لا شيء يأتي من لا شيء، ولا وجود من عدم إلا حال الحديث عن آلهة. أمّا البشر، فتتحقق بطولاتهم حين يقررون بشكل ذاتي وواعٍ التدخل في لحظة تاريخية ما تكون الظروف الموضوعية فيها قد تهيأت لإمكان تحقيق النتيجة المرجوة أو الدفع بأقصى اتجاه نحوها. هذه الظروف الموضوعية هي أيضاً من فعل بشر، وهو فعلٌ تراكمي —واعٍ من جهة، وآخر عفوي من جهة أخرى— وتكمن عبقرية البطل في أنه يتدخّل عملياً ليُصادق على فعل من هو قبله ويبني عليه أو يستثمر في أخطاء غيره. لكن بسبب أن قراره الذاتي في التدخل —في لحظة تواتي تحقق الشرط الموضوعي للتغيير— يبدو البطل في الوعي الجمعي متميزاً عن جميع من يسبقه في الماضي بالنظر إلى أنه هو الذي قطف الثمرة وحقق الوعد، فينتهي الأمر بأن يُهيمن البطل، دون سواه، على المخيال الشعبي.
ما بين التصديقِ على الماضي، بكل ضرورته وعفويته، والهيمنة عليه، تبرز شخصية البطل الأسطوري، وإذا كان ثمة فضل تستطيع نسبه إلى من ارتدى الدرع كاملة وأوقد النار شاملة، فهي أن قراره باستكمال الدرع وإتمام النار هو تعبير حر وواعٍ بسياق تاريخي هو ضروري في تراكمه وغير واع في ظاهره أو في جانب غير قليل منه. ورغم أن ثمرة لم تُقطف ووعداً لم يتحقق بعد، يبقى أن هذا الرجل هو وحده الذي يجدر في هذه اللحظات —التي تتخفف فيها حدة أكبر فاجعة أخلاقية معاصرة ويقترب معها لحظة وقف نزيف الدم إلى حين— هو الأجدر بأن نتذكره، بوصفه تجسيداً لفكرة البطل في هذه المعركة، بل في كل المرحلة منذ مطلع هذا القرن، إذ كان تجسيداً لمفهوم البطولة، ولا أحد غيره. إن حديثي هنا هو عن المفهوم.
لكن دعونا بداية نستطرد بعيداً عن قصة بطلنا لنستكشف الأمل في كلمات أمل وغيره من الشعراء، إذ يبقى أن من البيان لسحراً. إن الشعر في استطاعته التغلغل في نفوس الجماهير، ليس سوى تجسيد للروح المطلق في بدايته الأولى، وذلك بحسب آخر الحكماء. ربما يرجع إلى تلك الاستطاعة سبب هجوم أفلاطون على الشعر في كتاب الجمهورية لأن هذا الشكل الفني الذي يخاطب الجمهور ويداعب مشاعرهم يستطيع أن يحرف معه عقولهم عن الحقيقة التي يقبض عليها الفيلسوف! تلك الحقيقة التي ينطق بها كذلك الدين، وهو بدوره درجة أرقى من تجسيد هذه الروح، فلا غرو أن يُهاجم النص المقدس الشعر والشعراء هو أيضاً في معركة امتلاك الحقيقة.
لكن الروح المطلق لا تتوقف حركته في التاريخ عند الدين، إذ هو ينمو من (1) فن إبداعي في حرية وعفوية تامة في مجتمعات ما قبل الدولة حيث تهيمن التصورات السحرية على العالم؛ إلى (2) دين يحمل رسالة إلى العقل (على بدائية هذا العقل)، لا إلى القلب، في مجتمع يراد ضبطه وتنظيمه فتنشأ معه الدولة (كما في حالة الإسلام)، أو يهيمن هو عليها (مثل حالة المسيحية)، أو حتى يتشكل الدين كرد فعل عليها (مثلما حدث مع اليهودية)؛ إلى (3) علم يُمثل المرحلة الأخيرة للروح المطلق في رحلتها عبر التاريخ. وحيث إن حركة التاريخ هي حركة الوعي بالحرية التي تتأسس بدورها على قاعدة من ضرورات تاريخية، فإن المسعى هو إلى التحرر من كل الأشكال التاريخية التي تبدو ميتافيزيقية متعالية كظواهر غير تاريخية رغم إنها إفراز ضرورات حركة التاريخ ليس أكثر. أبرز الأمثلة على ذلك هو الدولة، التي هي ضرورة تاريخية من جهة، والتجسيد الحي لكل القيود أمام حركة الروح من جهة أخرى. في حركة الوعي بالحرية هذه، لا تجد الروح المطلق إلا صاعداً على أكتاف ما قبله، إذ تستبطن كل مرحلة سابقتها فيغدو العلم ديناً لدى البعض في تحقيقه لما يبدو معجزات سحرية، ويستبطن الدين تصورات هي سحرية لدى من تجاوز حدود العقل البدائي، كما إن الدين لا يخلو في هيمنته على الجمهور من عبقرية فنية في معمار أو تمثال أو نص. وحده الفن لا يُبَشّر بدين، ولا يرفع سلطة العلم، لأنه تجسيد لمطلق حرية الروح في براءتها قبل تشكل المجتمعات في علاقتها مع الدولة التي هي ضرورة لضبط الصراع الطبقي في المجتمع: هذا هو الأمل الذي يتجسد في الفن. إنه عودة إلى عفوية التحرر وبداهة الحرية.
فأنت إذا عدت إلى قصة بطلنا، تجده قد اقتنص جانباً كبيراً من الفن في مخاطبة الجمهور وفي شؤون السياسة، والشيء الكثير من العلم في تطوير عدته العسكرية، مثلما استوحى في بوصلته الأخلاقية أفضل ما يمكن استخلاصه من تحت عباءة الدين. لكن المأساة، كل مأساته، كانت تكمن في أنه اصطدم بالدولة: سواء تلك في صورة الكيان المسخ الذي عاش يواجهه، أو تلك الدولة التي كان يعيش في كنفها، أو تلك التي جاورها وتحمل عبء الدفاع عنها، أو تلك التي كان يسترشد بهديها. هنا تكمن بطولته تحديداً، كما تكمن كل التراجيديا التي جسدتها حياته كما يمثلها فقده: لقد كان هو وبحق روح هذا العالم في لحظة ما، لكنها روح من هذا العالم لا روحاً إليه، العالم المُحاصر في كل ركن بجسد الدولة فلا تملك إلا أن تُطلَّ فيه الروح مثل شبح يهدد دولة ما، لكنه شبح في إهاب ظلٍ لدولة أخرى.
ومع ذلك، لماذا نصرالله هو الذي يستحق أن نذكره أكثر من غيره هذه اللحظات؟ لأنه كان يرى أكثر من غيره وأبعد منهم، ليس فقط في ما يخص الحدود الموضوعية للعمل الفدائي، ولكن أيضاً في ما يخص ضرورة الاستجابة بشكل حر وواعٍ لتحديات المرحلة وكل مرحلة، وآخرها كان استجابة لتحدٍ كُتب عليه ولم يكن كارهاً لتحمل تبعاته إذ رفضت الروح فيه حدود الظل المرسومة للشبح. في هذه الاستجابة انتصارٌ للمظلومين مبادرة من جانبه، وهي أعظم من مبادرة من افتقد الرؤية ابتداء. الفارق بين المبادرة والمغامرة أن الأولى تتأسس على رؤية وقراءة موضوعية لواقع المرحلة، بينما الثانية، أي المغامرة، تنطلق كفراً بالمرحلة وواقعها لتنكشف معها حدود تلك الرؤية. هذا هو بالضبط الذي يجعل مصير المغامرات التاريخي، إلا من رحم ربك، هو أن تصبح نهباً لمن يستطيع استثمار الأزمة فيعمد إلى تسويق رصاصات البندقية لحساب مشاريعه هو لا مشاريع من يقبض على الزناد. ذلك أن أي رؤيةٍ ذاتيةٍ ليست معلقة في الفراغ، فإذا كانت عاجزة بطبيعة قدرات أصحابها على ملئه، فتصبح الرؤى الذاتية عُرضة للابتلاع والتوظيف من القوى التي تملك القدرة على ملء الفراغ: عن الإمبراطورية الأميركية أتحدّث. ومثلما يكفر السجين بالقيود في حبسه الانفرادي، يستنكر السجان أيضاً واقع أن السجن برمته أضحى يصغر حجمه يوماً بعد يوم! عين السجّان هي على العالم خارج السجن تحت إدارته، بينما عين السجين على العالم كما يبدو له فقط من شباك زنزانته. التفرقة بين القراءة الذاتية والموضوعية لأي قضية هي تفرقة حاسمة، لا سيما إن كانت الإمبراطورية الأميركية هي أيضاً —في قراءتها الذاتية — قد انتهت إلى الكفر بما آل إليه الواقع الموضوعي للمرحلة التاريخية الراهنة، لتَسعى بكل ما تملك من أموال وعتاد وأدوات تحركها إلى محاولة الوقوف في وجه التاريخ!
إلا أن هذا المصير ليس حتمياً، فالمغامرات —شأنها شأن أي حدث— وإن تجاوزت في أثرها حسابات من يقوم بها، تبقى حدثاً يجب البناءُ عليه واستثماره بشتى الوسائل من المخلصين لأهداف القضية التي تنطلق من أجلها: بخلاف ذلك فهي خيانة، لا لمن يقرر المغامرة، ولكن للموقف من القضية ذاتها. لكنها تبقى حقيقةً أن من يعمل من داخل دولة ضد دولة وفي حدود دعم من دولة لهو في موقف أعقد بكثير، وبكثير جداً، ممن يعمل بهدف الوصول إلى عتبة الدولة. المبادرة في الحالة الأولى هي تضحية وفداء من يمتلك الرؤية، ومن قبلها النفوذ السياسي، ومن يعرف حجم السلاح، ومن يحمل قلباً يتسع للعالم، بينما التضحية في الحالة الثانية هي فداءُ من لا يمتلك شيئاً سوى قلب ينبض ويدٍ تقبض على السلاح في خيمة لاجئ حيث لا ملجأ فراراً من العدم إلا إليه. بطولة صاحبنا تكمن في أنه أعطى للوجود معنى بعد أن ظهر فجأة من العدم فكاد أن يبتلعه العدم في سرعة ظهوره؛ في أنه رفض أن تصمت الحياة أمام مشهد الموت بعدما تحققت معجزة مناشدة الموتى للحياة؛ في أنه لم يسعَ بذاتية الأنا إلى البطولة، بل إنها هي التي سعت إليه.
وكما إن شيئاً ما لا يخرج من محض لا شيء، فلا شيء أيضاً يذهب سدى: لقد كانت ملحمةً تلك التي سطّرتَها يا نصرالله بعدما كانت حروفها الأولى مُقَطعةً لا يعلم تأويلها إلا من خَبِرَ العدم، فكنت أنت من كتب ما يمكن لنا أن نفهمه، كما سبق وكتبت ما لا يمكن لوجودنا أن يتحمّله. لكنا حُمّلنا أوزاراً من وعي ترَّدى به القوم فكان في فدائك ما يُخمد نار فتنته. لقد بَصُرت بما لم يبصروا به، فكنت كمن ينسف هذا الوعي الشقي، كمن يقذف حطبه في عرض البحر، رغم أن في جُعبة عباءتك ما كان يزَكيّ ناره. الأمل يكمن في أن الكلمات التي سطَّرتها، كما هو شعر أمل، كانت قد خُطَّت بلسان عربي مبين، لا يحمل أعجمية تركية أو فارسية. وإلى أن تعود الروحُ لتنبض بالعلم في عروق دولة عربية مركزية، إلى أن يعود الفن حراً ليزغرد جنباً إلى جنب مع طلقات البندقية، ستبقى بطلاً لذكرى هذي المرحلة من عمر أمتنا: لقد كنت الفارس الوحيد في معركة انطلقت من فتحات الخيام ومن بين الشروخ، وكان جميع من هم سواك خارجها حتماً مسوخ.
هنا تحديداً يكمن الأمل على العكس من كلمات أمل: لقد دعا دنقل إلى المبادرة بغرس السيف في جبهة الصحراء إلى أن يجيب العدم بيوم موعود. ما حدث هو أن هذا الرجل قام بِغرس سيفه في جبهة الموت الجاثم بعدما طرح العدم فجأة سؤال الوجود. وسواء استجبت لسؤال العدم أو لسؤال الوجود، فيجب أن يكون جوابك حاضراً، ونظرك باصراً، وعزمك هادراً. للأسف، فإن حسابات الدولة جعلت من جواب بطلنا الوجودي كمن يأتي قاصراً، وأنصاف الأجوبة شأنها شأن أنصاف الآلهة تحمل نصف الخير للعالمين بينما يرقد الشر في نصفه الثاني.
في حديثي هنا عن الرجل الذي أتقن فن الوجود، لا بد من التذكير بأنه كما للوعي الأسطوري حدود بمواجهة العلم، فإن لأطراف عباءة الدين حدودها التي ترسُمها الدولة، وحدود تلك الأخيرة ليست مرسومة جغرافياً فقط، بل هي تتحدد ابتداء وفقاً لمصالح طبقات تحكمها. لقد آن للوعي العربي أن يتجاوز فكرة البطل وينظر بشكل علمي وناقد إلى التاريخ وإلى حاضر العالم، فصاحب نصر حطين هو أيضاً صاحب صلح الرملة المهين، ومصالح الطبقة التي استقدمت خليفة «الناتو» في إسطنبول كشفت عورته وهو ينبح في وجه العدو في شراكة تجارية لا تخوّله أن يصول. اليوم، يجري إعداد المسرح، وبشكل فني، على قدم وساق على الشاشات الأميركية الهوى لتهيئة أبطال جدد بهوىً عثماني بوصلتهم الخضراء ليست بوصلة بطل قصتنا، وفوهات بنادقهم مصوبة تحت راية الدين إلى كل من هو عدو لمصالح الإمبراطورية في تكرارٍ سخيف لقصة ملَّ التاريخ من تكرارها، ويبدو أنه مُقدر لها ألا تتوقف حتى تنقل الصورة محاولات «أبطال» المجاهدين تحرير مسلمي الإيغور في الصين! وحدك أنت كنت تحقيقاً لفكرة البطل، وفي هذا التحقق تمام لشرط تجاوز هذه الأسطورة.
هنا، يجب أن أتوقف لأذكر شيئاً مما سبق ونشرته على صفحات وسائط التواصل فور توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب لبنان، وذلك للتذكير بأن هذه السطور ليست من قبيل حديث الروح، بل أن كلمة السر تكمن في «الدولة»، والأهم هو حقيقة أننا لا نواجه فقط دولة، بل إن المواجهة هي مع الإمبراطورية، وأن هذه الحقيقة، كغيرها من الحقائق، تبقى دوماً موضوعية:
«فإن دولة مصطنعة تأسست بميليشيات عقائدية وعلى أساطير دينية يمكن تقويض أمنها وكشف عوارها وفضح ممارساتها وإسقاط هيبتها عن طريق قوى عقائدية مجابهة تغزل على منوال خرج من ذات الرحم الأسطوري: لكنها «دولة» نشأت بدعم إمبراطوري، ولا تزول إلا بتقويض أركان الإمبراطورية الراعية لها، والتي تخسر أول ما تخسر سرديّتها المهيمنة: الطريق طويل حتى تتحرر البشرية من قبضة الإمبريالية، وهو طريق قد بدأ وعياً لا وحياً، وسرديته المقابلة لا تعرف إمبراطوريات مهيمنة، وهو إن انطلق من خارج الأرض «الموعودة»، فحتماً لن يصل إلى نهايته إلا بالمرور على ترابها. يبقى أن الوعد هو وعد التاريخ، تاريخ العالم، كل العالم في قصته التي تتكشف أمامنا، لا العالم العربي ولا قصصنا نحن أو أقاصيص عدونا من قبلنا».
أختم بقولي إن ما يدعو للعُجب لا يتمثل في أن من يغتال أنصاف الآلهة لدينا «ليس رباً … بل مَحضُ لص»، لكنه يكمن، في أن البطل بوعينا لا زال يظهر على هيئة شيخ أو في رتبة قس! هذه باختصار قصة الوعي الشقي الذي هو أعجب القَصص… وأيما كنت أنت يا أبا هادي، فإلى روحك السلام… سلام عليك يوم ظهرت علينا، ويوم احتجبت عن عيوننا، ويوم تُبعث هذي الأمة حيّةً من جديد.
عربي ابن آدم – الاخبار