تخيّل أن تمرّ في أكثر الأماكن المألوفة لديك، والذي لطالما بثّ في قلبك شعوراً بالراحة والطمأنينة، فيصبح فجأة مكاناً يبث في قلبك مشاعر الخوف والقلق. هذا المكان وكل حجر فيه أصبح الشاهد الأساسي والوحيد على جريمة اعتقال الاحتلال لك، لا لذنب اقترفته، بل فقط لتواجدك فيه. هذا المشهد ليس بغريب عن الإنسان الفلسطيني، أيّ فلسطيني، بغض النظر عن مكان تواجده: الداخل، القدس، الضفة الغربية، غزة المحاصرة، أو المخيمات. إنه مشهد مشترك ومتكرر في أرجاء الوطن المسلوب، وهذا ما حدث للفتاة القاصر (أ) التي لم تكن بلغت سن الـ 16 بعد. لقد تحوّل المكان في ذاكرتها، من أجمل وأكثر مشاهد القدس رهافة إلى أكثرها شراسة وعدوانية وللحظة واحدة في ذلك اليوم الذي وافق يوم الإضراب الشامل لدى أغلبية الفلسطينيين في فلسطين التاريخية. هناك تحولت ساحة باب العمود في القدس إلى ساحة اعتقال للفتاة (أ) على يد أكثر من 8 جنود مدججين بأكثر الأسلحة تطوراً ودقة. خلال الاعتقال تم الاعتداء على الفتاة (أ) بوحشية وضربها ضرباً مبرحاً على جميع أعضاء جسدها، بما فيها رأسها، فوقعت على الأرض حين لم تسعفها قدماها على الوقوف جرّاء الضرب الشديد الذي أتاها من جميع الجهات.
يحدد القانون الإسرائيلي شروط تعامل متعددة ومعينة مع المعتقلات القاصرات (دون سن الثامنة عشرة) مقارنة بالبالغات. على سبيل المثال، تتضمن هذه الشروط التحقيق خلال ساعات معينة من اليوم (تحديداً ما بين السابعة صباحاً والعاشرة مساء) بحضور ولي أمرها خلال التحقيق. لكن القانون الإسرائيلي لا يسري على مَن هو فلسطيني، فحين يتعلق الأمر به يصبح الاستثناء هو القاعدة، وهذا كفعل سياسة ممنهجة. لقد تواجدت بنفسي في محطة الشرطة التي نُقلت الفتاة (أ) إليها. كانت الفتاة “جدعة” كما نقول بالفلسطينية العامية- لا تحني ظهرها ولا تذرف أية دمعة من عينيها، يداها الصغيرتان مقيدتان بأصفاد حديدية بإحكام، بينما تحيط بها جنديتان مدرعتان، على يمينها ويسارها، ولا تسمحان لأي شخص بالحديث معها.
لم يُقدَّم علاج طبي لها بالرغم من أنها طلبت الحصول عليه، ولم يُسمَح لوالدها، الذي انتظرها على باب محطة الشرطة بحرقة وخوف، بالاطمئنان عليها أو حتى رؤيتها. حُرمت الفتاة رؤية والدها الذي كان يبعد عنها أمتاراً معدودة، وقد تم استنزافها وإرغامها على الانتظار حتى ساعات الليل المتأخرة للتحقيق معها، مع العلم بأنها نُقلت إلى محطة الشرطة في ساعات الظهيرة. أصرت الفتاة على رؤية والدها، أو حتى سماع صوته هاتفياً، لكنها حُرمَت ذلك بقسوة ومن دون أي مبرر قانوني. فتدخلتُ بصفتي محاميتها وطلبت من المحقق الموافقة على حضور والدها التحقيق (مع العلم بأن هذه هي القاعدة ولا حاجة إلى موافقة المحقق على ذلك)، لكن الجواب الذي داهمني بتكرار مريع كان: “هنا في القدس القانون مختلف”. من الناحية النظرية، القانون في القدس غير مختلف، فهنا يسري قانون الاحتلال ذاته، لكن الذي اختلف فعلياً هو أن المعتقل فلسطيني. فشرطة الاستعمار الصهيوني تتعامل مع الفلسطيني على أساس مختلف بذريعة “تهديد الأمن العام”. على سبيل المقارنة، صادف مكوثي في المحطة وجود معتقل آخر، متعاطٍ للمخدرات وثمل بشدة، كان يتجول بحرية في أروقة محطة الشرطة، مع أنه كان يشكل خطراً على مَن حوله وحتى على نفسه، لكن من حسن حظه أنه كان إسرائيلياً، وبالتالي لا يشكل أي خطر على الأمن العام، وفق معايير “الشرطة الإسرائيلية”، لذلك لم يتم تقييده بتاتاً بل عُهد إلى شرطية الجلوس بجانبه والحرص على سلامته وخدمة حاجاته العشوائية.
مثال إضافي لسياسة الاحتلال الممنهجة التي تمارَس فيها المقولة أعلاه “الاستثناء هو القاعدة عندما يتعلق الأمر بالفلسطيني”، وهو اعتقال الشيخ كمال خطيب بتهمة التحريض. فالقانون الاستعماري يملي في حالات استثنائية وواضحة ضرورة تقديم طلب اعتقال حتى انتهاء الإجراءات القضائية، لكن عند الحديث عن فلسطيني يمارس حقه في التعبير عن الرأي فإن القاعدة هي الاستثناء. لقد قُدّم طلب اعتقال حتى انتهاء الإجراءات القضائية ضد الشيخ كمال خطيب، وفي ذلك عبارة سياسية واضحة، والهدف عقاب سياسي وليس عقاباً جنائياً. هذا مع العلم بأن المستوطن قاتل الشهيد موسى حسونة أُفرِج عنه بعد أيام معدودة، وذلك على الرغم من استيفاء الشروط الأساسية لتقديم طلب لاعتقاله حتى انتهاء الإجراءات القضائية ضده، لكن لحسن حظه هو إسرائيلي، ولذلك أُطلِق سراحه.
إذاً كيف أصبح الاستثناء قاعدة لدى تعامُل “السلطات الإسرائيلية” مع الفلسطيني؟ هنا مربط الفرس، فهذا الوضع ليس وليد الصدفة أو اللحظة الحالية أو الوضع “الأمني” الحالي، بل هو تخطيط تبلور على مر السنين، ووليد سياسات العنصرية التي انتهجتها دولة الاستعمار منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، وذلك عبر سن قوانين عنصرية بنَت أسس دولة الاستعمار الصهيوني، مثل قانون العودة الذي يتيح لأي يهودي، ومن دون وجود أي صلة له بهذه الأرض، أن “يعود” إليها ويصبح مواطناً إسرائيلياً (وهذا هدف ديموغرافي للحفاظ على أغلبية يهودية حاكمة)؛ قانون أملاك الغائبين الذي شرّع الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية في الداخل المحتل؛ قانون المواطنة وعدة قوانين أُخرى كان آخرها قانون أساس القومية الذي أعطى اليهود حقاً حصرياً في تقرير المصير في فلسطين التاريخية. إن هذا الكيان مبني على العنصرية من أساسه، ومن البديهي إذاً أن يقمع الاستعمار أي عمل فلسطيني مقاوم، كما ذُكر سابقاً، باستعمال السياسات العنصرية الممنهجة التي تجسّدت أيضاً في طريقة الاعتقالات الوحشية الأخيرة.
وفي سياق الاعتقالات، يجدر التنويه بأننا شهدنا خلال شهر أيار/مايو الماضي ما يقارب 2000 حالة اعتقال وحشي لفلسطينيي الداخل. تمت أغلبية الاعتقالات خلال “حملة الاعتقالات” -والمقصود منها عملية القانون والنظام التي أعلنتها شرطة الاحتلال في مرحلة متأخرة أكثر- التي شنّتها شرطة الاحتلال الاستعماري، بهدف بث الترهيب في قلب الفلسطيني الثائر الذي مارس أكثر حقوقه أساسية وهو حق التظاهر والتعبير عن الرأي. اتّسمت حملة الاعتقالات بطابع ممنهج وواضح: اقتحام بيوت الفلسطينيين في منتصف الليل. واختيار ساعة الاعتقال ليس وليد صدفة أيضاً، بل هو خطوة مدروسة بإحكام تهدف إلى إذلال المعتقل أمام عائلته، وجعله عبرة لمن يعتبر، وإظهاره كفريسة سهلة أمام أعين والديه.
وفي أثناء مكوثه في الحيّز العام، واجه الشباب الفلسطيني ظاهرة “وحدة المستعربين”، وهي وحدة خاصة للاعتقالات، يتنكر شرطي الاحتلال في زيّ مواطن مدني لتفادي الأنظار، وينقضّ على المتظاهر الأقرب منه ليختطفه كالمتسلل. ناهيك بأساليب القمع الأُخرى التي تم استخدامها، ومنها وسائل بعثرة المتظاهرين، كاستخدام المياه العادمة، وقنابل الصوت والغاز، ومسيّل الدموع وغيرها، أو شنّ هجوم مكثف من شرطيين على صهوة خيول مدربة. فاستعمال الحيوانات كوسيلة قمع من المستعمر، وبالذات الخيول التي تُعد جزءاً مهماً من ثقافتنا العربية والفلسطينية لما تحمله من دلالات، بات مشهداً مألوفاً لدى الفلسطيني خلال التظاهرات و”حملة الاعتقالات” الأخيرة.
ليس هذا فحسب، بل جرى تجنيد وسائل الاستخبارات لشنّ حملة ترهيب أُخرى، إذ أُرسلت رسائل نصية إلى الهواتف النقالة التابعة لعدّة مصلين أو متظاهرين تواجدوا في الحيّز العام لإعلامهم بأنه تم تشخيصهم خلال التظاهرات وسيتم استدعاؤهم للتحقيق (في أحسن الحالات) أو اعتقالهم، وكل ذلك في انتهاك واضح لحق الخصوصية.
بالعودة إلى موضوع الاعتقالات، فإن أغلبها انتهى بلا تقديم لائحة اتهام، إذ قُدِّمت 280 لائحة اتهام تقريباً، وهذا يثبت أن ليس للاعتقالات أساس قانوني أصلاً، إنما الهدف منها هو الترهيب والحفاظ على الوضع القائم (status quo).
وبالنسبة إلى محاولات الاحتلال إذلال الفلسطيني، فإنها تذهب سدى، إذ أصبح رمز الاعتقال ابتسامة عريضة على وجه الأطفال المعتقلين نظير البالغين. وتجلى إبداع الفلسطينيين في تحويل ساحات العنف والاعتقال إلى ساحات فرح وانتصار! فقد تحولت ساحة باب العمود نفسها إلى ساحة انتصار وتجمّع كالمعهود، لا بل أكثر.
الفترة الأخيرة كانت عبارة عن حرب استنزاف لقوة الفلسطيني، وكمحامية عملت سابقاً في قاعات محاكم الاعتقالات العسكرية لفلسطينيي الضفة الغربية، أستطيع القول إن سياسة الاعتقالات الأخيرة مشابهة بصورة كبيرة، وإن كانت أقل حدّة، من تلك التي يمارسها الاحتلال على فلسطينيي الضفة الغربية. إن السياسات هي نفسها لأن الاحتلال يعي تماماً أن الفلسطيني هو فلسطيني، بغض النظر عن مكان تواجده: الضفة، الداخل، غزة، أو الشتات. فمجرد وجودنا يشكل “تهديداً أمنياً” للكيان الاستعماري.
لقد انتشر المتظاهرون في أرجاء فلسطين، من حيفا والناصرة وكفر كنا والجديدة وعكا والمكر وطمرة وأم الفحم وجلجولية، إلى يافا واللد والقدس والنقب. أعادت هذه المشاهد إلى ذاكرتي مقطعاً من أغنية للشيخ إمام “وعرفنا مين سبب جراحنا، وعرفنا روحنا والتقينا”. إذ التقينا جميعاً في الشوارع، في الحيّز العام، لكي نقول إننا كلنا شعب فلسطيني واحد وقد راع الاحتلال أننا للمرة الأولى، موحدين بقوة اجتماعنا، قد أدركنا أنه سبب جراحنا وخرجنا إلى الشوارع ضده لأنه ليس لنا إلّا أنفسنا. هذا ما حدث مع الفلسطينيين أجمعين، فقد أيقننا أن الاستعمار والاحتلال سبب مشاكلنا، بغض النظر عن اختلافها، والتقينا في الشارع كي نؤكد أن سياسات الاحتلال المُحكَمة والمطبّقة على الفلسطينيين أجمع، وفلسطينيي الداخل في الأساس، لم ولن تنجح.
آية الحج عودة – مؤسسة الدراسات الفلسطينية