المثقفون في الغرب إزاء هجوم “حماس” والحرب الإسرائيلية على غزة

أثار الهجوم الذي شنته حركة “حماس” على مستوطنات “غلاف غزة” وردة فعل إسرائيل عليه، التي تمثلت في قيامها بشن حرب تدميرية واسعة على قطاع غزة وسكانه، نقاشات حامية بين المثقفين في الغرب، تمحورت حول عدد من الأسئلة، من بينها: هل يمكن مقارنة ضحايا هجوم حركة “حماس” بضحايا “المحرقة” التي ذهب ضحيتها ملايين اليهود على أيدي النازيين؟ هل بدأ تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023؟ كيف نُفسر ظاهرة العنف التي رافقت هجوم حركة “حماس”؟ ما طبيعة الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة؟ كيف يمكن تفسير الدعم الغربي المطلق لإسرائيل في حربها؟ هل تنجح الحرب في “القضاء” على “حماس”، وكيف السبيل لتجاوز دوامة العنف؟

هل يمكن مقارنة ضحايا هجوم “حماس” بضحايا “المحرقة”؟

شبّه المؤرخ سيرج كلارسفلد، في مقابلة أجرتها معه قناة BFMTV  التلفزيونية الفرنسية ، في 22 تشرين الأول/أكتوبر 2023، الضحايا المدنيين الذين سقطوا خلال هجوم حركة “حماس” على مستوطنات “غلاف غزة”، بالضحايا اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وأضاف: “بصفتي مؤرخاً، أعود إلى الماضي اليهودي وأدرك أن جميع أجيال اليهود واجهوا بوغرومات، قُتلوا خلالها بصورة عشوائية، كما فعلت حماس، التي لا تريد سوى شيء واحد هو تدمير دولة إسرائيل، وطرد اليهود الذين يعيشون في إسرائيل أو تصفيتهم”[1]. ومن جهته، أشار المؤرخ رفائيل ميدوف، المختص بتاريخ “المحرقة”، إلى إنه “تجنب دوماً، حتى الان، إجراء مقارنات مع الإبادة الجماعية” التي تعرض لها اليهود، مقدّراً أن “السبب الذي يجعل التشبيهات بالمحرقة غير مناسبة عادة هو كونها تبالغ بصورة صارخة في سلوك طرف أو آخر”، لكنه رأى “أن هناك أوقاتاً تكون فيها أوجه التشابه بين الفظائع المعاصرة والمحرقة” كبيرة إلى درجة “تجعل المقارنات أمراً لا مفر منه”، ليخلص إلى أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن كان “محقاً”، عندما “قال إن مذبحة حماس كانت بمثابة صدى مفجع للمحرقة”، وذلك في إشارة على وجه التحديد “إلى تجريد اليهود من الإنسانية، الذي يتغلغل في جميع أنحاء المجتمع الفلسطيني”[2].

وفي توجّه معاكس كلياً لهذا النوع من المقاربات، اعتبر الفيلسوف الإيطالي إنزو ترافيرسو أن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة “باسم ذكرى المحرقة”، لا تفعل “سوى الإساءة إلى تلك الذاكرة وتشويه سمعتها”، بحيث ينتهي الأمر بالكثيرين “إلى الاعتقاد بأن المحرقة هي أسطورة تم اختراعها للدفاع عن مصالح إسرائيل والغرب”، وبحيث “تتحوّل ذكراها بصفتها “ديناً مدنياً” لحقوق الإنسان ومناهضة العنصرية والديمقراطية إلى لا شيء”، و”لا يعود للكلمات أي قيمة”؛ من الصحيح أن السابع من تشرين الأول/أكتوبر “كان مذبحة رهيبة، لكن وصفها بالبوغروم الأعظم في التاريخ بعد المحرقة يوحي بوجود استمرارية بين الاثنين، ويفضي إلى تفسير مبسط مفاده أن ما حدث في ذلك اليوم ليس تعبيراً عن كراهية ولّدتها عقود من العنف المنهجي والسلب الذي عانى منه الفلسطينيون”، ليخلص إلى أن الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة “تؤكد أن النزعة القومية الضيقة، والكارهة للأجانب والعنصرية، هي التي تتحكم بالحكومة الإسرائيلية اليوم”[3].

هل بدأ تاريخ الصراع في السابع من تشرين الأول/أكتوبر؟

خلافاً لكثيرين من المثقفين في الغرب الذين تعاملوا مع هجوم حركة “حماس” وكأن تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بدأ في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، فضح الأكاديمي الأميركي الفلسطيني، سري مقدسي، أستاذ اللغة الإنكليزية في جامعة كاليفورنيا، في مقال نشره في 31 تشرين الأول/أكتوبر الفائت بعنوان: “في غزة حرب إبادة جماعية بتواطؤ الغرب”[4]، آليات حرب الإبادة الاستعمارية التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين، وانتقد تغطية وسائل الإعلام الغربية لها، التي تبرر، بصورة ضمنية، إبادة غزة، أي “خنق وقتل وتشريد أكثر من مليوني إنسان”، وتنطوي “على نزعة عنصرية واضحة معادية للعرب”، معتبراً أن اهتمام وسائل الإعلام هذا المفاجئ مرده “أنه في يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 كان هناك مدنيون إسرائيليون بين ضحايا الهجوم الذي شنته حركة حماس، بينما يعود تاريخ  حصار غزة إلى أكثر من ستة عشر عاماً، وتعمل إسرائيل خارج نطاق القانون الدولي منذ خمسة وسبعين عاماً”. بدأ سري مقدسي مقاله بتوجيه انتقادات حادة للمواقف السائدة في الغرب، عموماً، إزاء معاناة الفلسطينيين، ملاحظاً أنه “في مواجهة السخط الذي عبر عنه الصحافيون والسياسيون والحكومات بشأن المذبحة التي ارتكبها الفلسطينيون ضد المدنيين الإسرائيليين، فإن الصمت شبه العام بشأن مصير المدنيين الفلسطينيين على أيدي إسرائيل يصم الآذان: إنه صمت مخزٍ”. ثم توقف عند كيفية تعامل وسائل الإعلام الغربية مع الفلسطينيين الذين تستضيفهم على منصاتها، وتركيز الأسئلة التي تطرحها عليهم على موضوع واحد، هو استهداف حركة “حماس” للمدنيين الإسرائيليين، وتغاضيها عن هجوم الحركة “على الأهداف العسكرية الإسرائيلية، وحزام التحصينات الإسرائيلي، وأبراج المراقبة وبوابات السجون المحيطة بغزة”، وكذلك لتعمد هذه الوسائل الالتفاف على أي محاولة يقوم بها الفلسطينيون، الذين يتحدثون إلى وسائل الإعلام الغربية، لوضع هذا الهجوم في السياق التاريخي الأوسع للاستعمار والمقاومة المناهضة للاستعمار، وضمن “إطار التطهير العرقي الذي أدّى أصلاً إلى ظهور قطاع غزة”، وقيامها بطرح أسئلة على الفلسطينيين الذين تحاورهم من نوع: “كيف يمكنكم تبرير هجوم حماس؟ لماذا تحاولون شرحه بدلاً من إدانته؟ لماذا لا يمكنكم  فقط إدانة الهجوم؟”. بعبارة أخرى، “ما لا يُسمح لنا أن نقوله هو إنه إذا أردنا أن يتوقف العنف، فيجب علينا إنهاء الظروف التي أدت إلى ظهوره، أي يجب علينا إنهاء النظام البشع للفصل العنصري والسلب والاحتلال الذي شوّه فلسطين وعذّبها منذ سنة 1948”. وبعد أن قام بتوجيه هذه الانتقادات، تساءل الأكاديمي الأميركي الفلسطيني نفسه: “كيف يمكن أن نتجاوز سبعة عقود من التشويه والتحريف المتعمد ؟”، ذلك إن الاحتلال والفصل العنصري “يطغيان على الحياة اليومية لكل فلسطيني، وهو ما يتسبب بنتائج مميتة بالمعنى الحرفي للكلمة، حتى في حالات عدم إطلاق النار؛ فمرضى السرطان في غزة محرومون من العلاجات المنقذة لحياتهم، والأطفال الذين ترفض القوات الإسرائيلية مرور أمهاتهم يولدون على جانبي الطرقات عند نقاط التفتيش العسكرية الإسرائيلية، إذ أنجبت 61 إمرأة فلسطينية أولادها، بين سنتَي 2000 و2004، في ذروة فرض نظام الحواجز ونقاط التفتيش في الضفة الغربية، وتوفي ستة وثلاثون من هؤلاء الأطفال نتيجة هذه الولادة، وهو خبر لا ينتشر أبداً  في العالم الغربي، ولم تكن هذه الخسائر الفلسطينية تستحق الأسف”. ومنذ سنة 2018، “حذرت الأمم المتحدة من أن غزة – التي دمرت بنيتها التحتية الأساسية (شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي) بسبب سنوات من عمليات التوغل والقصف الإسرائيليية، ستكون “غير صالحة للعيش” قريباً، بينما نشهد اليوم، في سنة 2023، أن القطاع بأكمله، بات “معزولاً عن العالم الخارجي، محروماً من الغذاء والماء والدواء والوقود والكهرباء، في حين يتعرض لقصف متواصل من البر والبحر والجو”.

كيف نفسر ظاهرة العنف التي رافقت هجوم “حماس”؟

لقد خلص سري مقدسي، في مقاله المذكور أعلاه، إلى أن “العنف المروّع” الذي مارسه الفلسطينيون هو من نتاج “الهيمنة والخنق والسيطرة”، وأن تأكيد هذه الحقيقة “لا يعني تبرير العنف، بل يعني فهمه”، ذلك إن الشعوب التي خضعت للسيطرة الاستعمارية ارتكبت “أعمال عنف فظيفة، كانت نتيجة عقود أو قرون من العنف والقمع الاستعماريين، واندرجت في بنية العنف التي شرحها فرانتز فانون قبل عقود في كتابه “المعذبون في الأرض””.وبالرجوع إلى فرانتز فانون نفسه، حاول المثقف الأميركي آدم شاتز، المختص بصاحب كتاب “المعذبون في الأرض”، أن يشرح ظاهرة العنف هذه في مقال نشر أصلاً في مجلة “لندن ريفيو أوف بوكس”، في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وأعادت المجلة الإلكترونية الفرنسية “أوريان 21” نشره في 31 من الشهر نفسه.توقف آدم شاتز، في البدء، عند أسباب عملية  “طوفان الأقصى”، فرأى أن هذه الأسباب واضحة، وهي تتتمثّل في: إعادة التأكيد على أولوية النضال الفلسطيني في وقت بدا فيه أنه لم يعد مدرجاً على جدول أعمال المجتمع الدولي؛ تحقيق إطلاق سراح السجناء السياسيين الفلسطينيين؛ إحباط التقارب الإسرائيلي السعودي؛ استنهاض السلطة الفلسطينية العاجزة؛ الاحتجاج على موجة عنف المستوطنين في الضفة الغربية، وكذلك على التوغلات الاستفزازية التي يقوم بها اليهود المتدينون والمسؤولون الإسرائيليون داخل المسجد الأقصى في القدس؛ وفي المقام الأول من الأهمية، جعل الإسرائيليين يفهمون أنهم ليسوا محصنين ضد الهزيمة، وأن هناك ثمناً يتعين عليهم دفعه في مقابل الحفاظ على الوضع الراهن في غزة[5].وبعد أن أشار إلى أن هجوم “حماس” حقق “نجاحاً باهراً”، إذ إنه “لأول مرة منذ سنة 1948، احتل المقاتلون الفلسطينيون البلدات الحدودية وأرهبوا سكانها” ولم تظهر إسرائيل قط بصفتها “ملاذاً لا يجوز انتهاكه للشعب اليهودي”، وأن “الغطرسة والازدراء العنصري، وهما ما غذته سنوات الاحتلال والفصل العنصري، كانا في أصل الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي في 7 تشرين الأول/أكتوبر”، لاحظ أن المرحلة الأولى من عملية “طوفان الأقصى”، كانت “عبارة عن حرب عصابات كلاسيكية ومشروعة ضد قوة محتلة: إذ عبر المقاتلون الحدود والسياج الذي يحيط بغزة وهاجموا المواقع العسكرية”، لكن المرحلة الثانية من الهجوم “كانت مختلفة تماماً، إذ انضم إلى مقاتلي حماس سكان من غزة، كان العديد منهم يغادرون مدينتهم لأول مرة في حياتهم”، وقاموا بتنفيذ عمليات استهدفوا فيها مدنيين. وبوصوله إلى هذه النقطة، تساءل الكاتب الأميركي عن كيفية تفسير ما حصل، وذلك قبل أن يجيب بأن الغضب الذي عبّر عنه الفلسطينيون  كان “له جذور أعمق بكثير من السياسات التي تنتهجها حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية”، وأن الانتقام “كان أحد دوافع قادة حماس، ذلك إن محمد ضيف، زعيم الجناح العسكري للحركة، فقد زوجته وطفليه خلال غارة جوية في سنة 2014”. ثم رأى بأن أفكار فرانتز فانون قد تساعد في فهم ما جرى، إذ قدّر هذا الأخير، الذي دافع عن اللجوء إلى الكفاح المسلح ضد الاستعمار، أن “المستعمَر هو شخص مضطهد يحلم باستمرار بأن يصبح مضطهِداً”، وأن الشعب “الذي يجري إخباره دوماً بأنه لا يفهم سوى لغة القوة، يقرر التعبير عن نفسه من خلال القوة”. لكن فانون –كما تابع شاتز- اعتقد بأن “أبطال النضال ضد الاستعمار يجب أن يتغلبوا على إغراء الانتقام البدائي وأن يطوّروا ما أسماه مارتن لوثر كينغ، نقلاً عن اللاهوتي رينهولد نيبور، “الانضباط الروحي ضد الاستياء””، الأمر الذي جعله “لا يمنح مساحة للمسلمين الذين يكافحون من أجل تحرير أنفسهم من الحكم الاستعماري فحسب، بل وأيضاً لأعضاء الأقلية الأوروبية واليهود الجزائريين” الذين يدعمون النضال من أجل التحرير.

ما طبيعة الحرب التي تشنها إسرائيل  على قطاع غزة؟

عن هذا السؤال، أجاب الكاتب والصحافي البريطاني جوناثان كوك، في مقال بعنوان: “الحرب بين إسرائيل وفلسطين: أيدي الغرب ملطخة، مثل أيدي إسرائيل، بدماء غزة”[6]، رأى فيه أن إسرائيل حوّلت، على مدى الأعوام الستة عشر الماضية، قطاع غزة الساحلي إلى “أكبر سجن مفتوح في العالم وإلى غرفة تعذيب مروعة، يتم فيها إجراء التجارب على الفلسطينيين”، وأنها صعّدت، في حربها الجارية على القطاع، “معاملتها الوحشية” لسكانه، وذلك بعد أن قررت حكومتها  تعميق الحصار على غزة، معتبراً  أن ترك المدنيين “يتضورون جوعاً، من دون كهرباء، وحرمانهم من المياه النظيفة، ومنع المستشفيات من علاج المرضى والجرحى، ومن علاج أولئك الذين قصفتهم إسرائيل، يشكل سياسة إبادة جماعية”. وأضاف كوك أن سياسة الإبادة الجماعية هذه يتم تبريرها بتجريد الفلسطينيين من الإنسانية، إذ وصف وزير الحرب يوآف غالانت “السكان الفلسطينيين المحتجزين في القطاع – من الرجال والنساء والأطفال – بـالحيوانات البشرية”، وكان نائب وزير الحرب ماتان فيلناي قد ادّعى، قبل خمسة عشر عاماً، أن إسرائيل “مستعدة لتنفيذ “محرقة” في غزة”، وأنه “إذا أراد الفلسطينيون تجنب هذا المصير، فعليهم التزام الصمت أثناء اعتقالهم”. وبعد ست سنوات على ذلك التصريح، أعلنت أييليت شاكيد، التي سرعان ما تم تعيينها في وزارة إسرائيلية مهمة، أن جميع الفلسطينيين في غزة هم “أعداء”، ودعت إلى “قتل أمهات المقاتلين الفلسطينيين الذين يقاومون الاحتلال حتى لا يتمكنوا من إنجاب المزيد من الثعابين الصغيرة – الأطفال الفلسطينيين”. وخلال الانتخابات التشريعية في سنة 2019، قام بيني غانتس، زعيم المعارضة آنذاك ووزير الدفاع المستقبلي، بحملة  انتخابية من خلال فيديو أظهر فيه “إنجازاته” عندما كان قائداً للجيش الإسرائيلي، ونجح “في إعادة  بعض أجزاء غزة إلى العصر الحجري”. وخلص الكاتب البريطاني إلى أن سكان غزة “يسلكون الطريق البطيء والصامت نحو المحو”، وأن “أولئك الذين يمولون ويجعلون ذلك ممكنا هم الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، ودماء غزة ملطخة بأيديهم”.

كيف يمكن تفسير الدعم الغربي المطلق لإسرائيل في حربها؟

رأى جوزيف مسعد، أستاذ التاريخ السياسي والفكري العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك، في مقال نشره في 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، أن حرب إسرائيل على غزة كشفت “كراهية الغرب للفلسطينيين”، معتبراً أن “الازدراء العنصري الأوروبي والأميركي للفلسطينيين”، العائد إلى القرن التاسع عشر، كان “مشبعاً بالمواقف الاستعمارية البيضاء التقليدية تجاه الشعوب غير البيضاء قبل الحرب العالمية الثانية، وأنه بعد تلك الحرب، وفي أعقاب الإبادة الجماعية الأوروبية لليهود الأوروبيين، أراد “هؤلاء المسيحيون الأوروبيون وحلفاؤهم اليهود الصهاينة” أن يدفع الفلسطينيون “ثمن جرائم أوروبا المسيحية من خلال إجبارهم على التنازل عن وطنهم للغزاة الصهاينة”. وبعد طرد غالبية السكان الفلسطينيين من وطنهم على يد الصهاينة في سنة 1948، اعتُبر الفلسطينيون “مرة أخرى فائضين عن الحاجة، ولم يعد يُنظر إليهم على أنهم أكثر من مشكلة لاجئين عرب”، وتمّ “نسيانهم وألقي بهم في مزبلة التاريخ”. ولم تتغيّر هذه النظرة، كما يتابع الأكاديمي نفسه، سوى “في ضوء العمليات الفدائية المناهضة للاستعمار التي نفذها الفلسطينيون بين سنتَي 1968 و1981″، بحيث “أصبح الفلسطينيون الذين فشلوا في الظهور على الرادار الأخلاقي للغرب طوال عقدين من الزمن، يُدانون ويُصنفون على أنهم إرهابيون متوحشون”. من الصحيح أن الغزو الإسرائيلي للبنان في سنة 1982، ومذبحة صبرا وشاتيلا في أيلول/سبتمبر 1982، والانتفاضة الفلسطينية الأولى، أن هذا كله أحدث “بعض التغيير في وضع الفلسطينيين في الغرب”، إلا أنه ظل يُنظر إلى المقاومة الفلسطينية، “سلمية كانت أو عنيفة، والتي كانت ولا تزال بمثابة عمل من أعمال الدفاع عن النفس ضد المستوطنين الأجانب الغزاة”، بصفتها “جزءاً من حملة معادية للسامية”. ويخلص جوزيف مسعد إلى أن الزلزال الأخير الذي سببته عملية المقاومة الفلسطينية “طوفان الأقصى” دفع الغربيين على اختلاف مشاربهم السياسية “إلى العودة “إلى موقفهم الافتراضي، وهو الإدانة الصريحة لمقاومة الفلسطينيين الأصليين ودعم مستعمريهم الأوروبيين، الذين يتم تقديمهم كضحايا”، ولم تتعدَ “مظاهر التعاطف الغربي” مع الفلسطينيين أكثر من الدعوة “إلى تخفيف القمع الذي يُطلب من الفلسطينيين أن يتحملوه بنبل كضحايا للعنف الاستعماري الإسرائيلي المستمر، دون تهديد إسرائيل بأي شكل من أشكال العنف الانتقامي”، بينما يتم اعتبار العنف الذي تمارسه إسرائيل، “مهما كان مؤسفا في بعض الأحيان، عملاً من أعمال الدفاع عن النفس”[7].

ويتفق أسامة مقدسي، الأكاديمي الأميركي الفلسطيني وأستاذ التاريخ في جامعة بيركلي في كاليفورنيا، مع هذا التحليل، إذ قدّر، في مقال نشره في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 بعنوان: “بين إسرائيل والغرب إنكار الإبادة الجماعية”[8]، أن الصهيونية هي مظهر من مظاهر العنصرية “المتجذرة في تاريخ الاستعمار الأوروبي”، ورأى أن فكرة “إنشاء دولة قومية يهودية حصرية في فلسطين التي بُنيت منذ البداية على محو تاريخ الفلسطينيين الأصليين وإنسانيتهم”، قد تعززت في الغرب “في أعقاب المحرقة الألمانية لليهود الأوروبيين”، بسبب “الشعور بالذنب”، بحيث أصبح “التماهي مع اليهود واليهودية بعد المحرقة، متشابكاً تماماً مع محبة الصهيونية”، ونتج عن ذلك “عدم مساءلة إسرائيل كدولة يهودية، مهما كان المصير الذي تحتفظ به تلك الدولة للفلسطينيين المسلمين والمسيحيين الناجين من النكبة”، واعتبار إسرائيل، على عكس العرب، “امتداداً للغرب المثالي”. ويخلص أسامة مقدسي إلى أن محبة الصهيونية في الغرب وصلت اليوم “إلى حد تأييد فكرة الإبادة الجماعية في غزة باسم الدفاع عن هذه الدولة اليهودية”، وإلى أن هذه الحلقة الأخيرة من تاريخ الحركة الصهيونية تكشف “بصورة أكثر وضوحاً من أي وقت مضى عن المعايير المزدوجة التي تكمن وراءها: يتم احترام تاريخ وحياة اليهود الإسرائيليين، في حين يتم التقليل من قيمة  تاريخ وحياة الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين بصورة أساسية”، الذين يواجهون “عبئاً إضافياً، إذ إنهم يتعرضون للاضطهاد من قبل نموذج الضحية في الوعي الغربي الأوروبي الحديث، وإن كونهم “ضحايا الضحايا”، كما قال إدوارد سعيد، يجعل نضالهم ضد الاستعمار عبثياً تقريباً”..

هل تنجح الحرب في “القضاء” على “حماس”، وكيف السبيل لتجاوز دوامة العنف؟

عن هذا السؤال أجاب الكاتب الأميركي المذكور أعلاه آدم شاتز الذي، بعد أن وصف الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة بحرب “الإبادة الجماعية”، قدّر أن القضاء على “حماس”، الذي وضعه بنيامين نتنياهو في مقدمة أهداف حربه على غزة، هو “ببساطة مستحيل”، ذلك إن هذه الحركة هي “جزء من المشهد السياسي الفلسطيني وهي تتغذى من اليأس الناتج عن الاحتلال”، ثم طرح شاتز السؤال التالي: “هل يعتقد بنيامين نتنياهو أنه قادر على إجبار الفلسطينيين على تسليم أسلحتهم أو التخلي عن طموحهم إلى إقامة دولة عن طريق قصفهم وإخضاعهم؟”، وذلك قبل أن يجيب بأنه “سبق أن تمت تجربة ذلك، وأكثر من مرة، وكانت النتيجة الثابتة ظهور جيل جديد من الناشطين الفلسطينيين الأكثر تمرداً”، مستخلصاُ أن الحقيقة التي لا مفر منها “هي أن إسرائيل لا تستطيع خنق المقاومة الفلسطينية بالعنف كما لا يستطيع الفلسطينيون هزيمتها في حرب التحرير على الطريقة الجزائرية: فاليهود الإسرائيليون والعرب الفلسطينيون عالقون في علاقة لا تنفصم”، و”الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذ شعبي إسرائيل وفلسطين ويمنع حدوث نكبة جديدة – التي أصبحت احتمالاً حقيقياً، في حين أن المحرقة الجديدة ليست سوى هلوسة ذات أصل مؤلم – هو الحل السياسي الذي يمنح الشعبين حقوقاً متساوية في المواطنة والحقوق، ويسمح لهما بالعيش في سلام وحرية، سواء في دولة ديمقراطية واحدة، أو في دولتين، أو في اتحاد فيدرالي”[9].

[1] https://www.bfmtv.com/international/moyen-orient/israel/ca-nous-replonge-dans-la-shoah-l-historien-serge-klarsfeld-sur-le-conflit-entre-israel-et-le-hamas_AV-202310220124.html

[2] https://fr.timesofisrael.com/les-specialistes-de-la-shoah-sexpriment-sur-les-comparaisons-entre-le-hamas-et-les-nazis

[3] https://www.mediapart.fr/journal/international/051123/enzo-traverso-la-guerre-gaza-brouille-la-memoire-de-l-holocauste

[4] https://www.contretemps.eu/gaza-guerre-genocidaire/

[5] https://orientxxi.info/lu-vu-entendu/gaza-pathologies-de-la-vengeance,6829

[6] https://www.middleeasteye.net/fr/opinion-fr/guerre-israel-palestine-occident-armement-etats-unis-gaza-complicite

[7] https://www.middleeasteye.net/fr/opinion-fr/guerre-israel-palestine-haine-occident-juifs-colonisation-guerre-shoah-intifada

[8] https://www.contretemps.eu/israel-occident-deni-palestine/

[9] https://orientxxi.info/lu-vu-entendu/gaza-pathologies-de-la-vengeance,6829

ماهر الشريف – مركز الدراسات الفلسطينية

اساسياسرائيلطوفان الاقصىغزةفلسطين