تتجه أنظار العالم هذه الأيام إلى محافظة رفح في جنوب قطاع غزة، وخصوصاً بعدما صرّح رئيس وزراء حكومة الحرب الإسرائيلية، يوم الأربعاء في 7 شباط/فبراير الجاري، أنه أمر جيش الاحتلال بالتحضير لهجوم على هذه المحافظة، وتقديم خطة “لإجلاء المدنيين” منها و”تدمير” حركة حماس، مقدّراً أنه “من المستحيل بلوغ أهداف الحرب من دون تصفية حماس، وترك أربع كتائب لها في رفح”، وهو ما يتطلب “ترحيل المدنيين من مناطق المعارك”[1].
وما أن صدر تصريح بنيامين نتنياهو المذكور حتى توالت المواقف الإقليمية والدولية المحذرة من مخاطر وقوع كارثة إنسانية في محافظة رفح في حال قيام جيش الاحتلال بشن هجوم واسع النطاق عليها، ولا سيما بعد أن تحوّلت المحافظة، الواقعة على الحدود المغلقة مع مصر، إلى “مخيم مؤقت ضخم”، وإلى المدخل الرئيسي للمساعدات الإنسانية، التي لا تزال غير كافية. فخلال الأشهر الأربعة الفائتة، نزح إليها أكثر من مليون فلسطيني وفلسطينية، أي ما يقرب من نصف إجمالي سكان قطاع غزة، وخمسة أضعاف عدد سكانها قبل بدء الحرب الإسرائيلية على القطاع في تشرين الأول/أكتوبر الماضي[2].
ترحيل النازحين إلى أين؟
في التاسع من هذا الشهر، قال بنيامين نتنياهو: إن “المدنيين المحتشدين في مدينة رفح، جنوب قطاع غزة، سيتمكنون من إخلاء المكان قبل أن يبدأ الجيش الإسرائيلي عملياته هناك”، بحسب ما أوردت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”. لكن ديوانه “لم يقدم أي تفاصيل حول الموعد الذي يمكن أن تتم فيه عمليات الإجلاء، ولا اليوم الذي يمكن للجيش الإسرائيلي دخول المدينة فيه، ولا المكان الذي يمكن أن يستقر فيه هؤلاء [النازحون]، حسبما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز”، التي أضافت أن “حوالي 1.4 مليون فلسطيني لجأوا إلى رفح بعد أن اجتاح الجيش الإسرائيلي غزة وأمر السكان بإخلاء الأجزاء الشمالية والوسطى من القطاع”، بحيث “انتقل العديد من الأشخاص عدة مرات خلال الأشهر الأربعة الماضية”، وهم يقولون إنه “لم يعد هناك مكان يذهبون إليه في غزة، وإن العثور على ما يكفي من الغذاء والماء والدواء أصبح صراعاً يومياً”. وبينما حذرت وزارة الخارجية الأميركية من أن “تنفيذ مثل هذه العملية الآن (في رفح) من دون تخطيط ومن دون تفكير، في منطقة تضم مليون نسمة، سيكون كارثة”، أشارت صحيفة “التايمز” البريطانية إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي “لا يهتم كثيراً بالمخاوف الأميركية”، ذلك إنه بين خيار “مواجهة الدعوات لضبط النفس من الولايات المتحدة”، وخيار “المطالبة بمزيد من العدوان من وزراء اليمين المتطرف الذين يهددون بإسقاط حكومته الائتلافية”، اختار الخيار الثاني “من خلال اتخاذ قرار بمهاجمة رفح”. وتوجهت صحيفة “لوريان لو جور” البيروتية للتحدث إلى اللاجئين في رفح، الذين “نصبوا عشرات الآلاف من الخيام والمساكن المؤقتة المصنوعة من الصفائح المعدنية والأعمدة المعدنية وأغصان الأشجار”، ومن بينهم أم أحمد البرعي، النازحة من مخيم الشاطئ في شمال القطاع، والتي تبلغ من العمر 59 عاماً، وتعيش مع بناتها الأربع وثلاثة من أحفادها”، والتي تقول: “هربنا أولاً إلى خان يونس، ثم وصلنا إلى خربة العدس (شمال شرق رفح)؛ بالأمس، لجأنا بالقرب من المستشفى القطري مع أختي وعائلتها”، بعد سماع تصريحات بنيامين نتنياهو، وتضيف: “إذا هوجمت رفح فستكون هناك مجازر، ولا أعرف إذا كنا سنتمكن من الفرار إلى مصر أم أن المجازر ستطالنا”. وقد عبّر منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، مارتن غريفيث، يوم الجمعة في التاسع من الشهر الجاري، عن قلقه من احتمال قيام الجيش الإسرائيلي بغزو محافظة رفح وترحيل سكانها، وتساءل عن المكان الذي “من المفترض أن يذهب إليه” النازحون هذه المرة، في حين أن الكثيرين منهم “يتوقعون حمام دم جديداً في غزة”، وأضاف: “لقد دمرت منازلهم، وتم تلغيم شوارعهم، وقصفت أحياؤهم، لقد ظلوا على الطرقات لعدة أشهر، متحدين القنابل والمرض والجوع؛ أين من المفترض أن يكونوا آمنين؟”[3].
الترحيل الثالث إلى المواصي؟
بحسب الصحافي الإسرائيلي المناهض للاحتلال جدعون ليفي، فإن الجيش الإسرائيلي يقترح ترحيل النازحين في رفح إلى منطقة المواصي، الواقعة على الشريط الساحلي، جنوبي غرب قطاع غزة، وتمتد بطول 12 كيلومتراً وعرض كيلومتر واحد، وتقدّر مساحتها بنحو 3 % من مساحة قطاع غزة، وتغلب عليها كثبان رملية تتخللها منخفضات زراعية خصبة. ففي مقال بعنوان: “أتوسل إليكم: لا تدخلوا رفح”، نشره في صحيفة “هآرتس” في 11 شباط/فبراير الجاري، نبّه جدعون ليفي إلى أن “الغزو الإسرائيلي لرفح سيكون هجوماً على أكبر مخيم للنازحين في العالم، وسيدفع الجيش الإسرائيلي إلى ارتكاب جريمة إبادة خطِرة سبق أن قام بها”، إذ “لا يمكن نقل مليون شخص ينقصهم كل شيء ومعظمهم نازحون، للمرة الثانية والثالثة، من مكان “آمن” إلى مكان آخر يتحوّل دائماً إلى حقل للقتل، ولا يمكن نقلهم كقطعان تُساق إلى المسلخ، فحتى القطعان لا تُنقل بهذه الوحشية، ناهيك بأنه لا يوجد حتى الآن مكان ينتقل إليه هؤلاء الناس، ولا يوجد في غزة المدمَرة مكان يمكن الهرب أو اللجوء إليه؛ إذاً، فإذا جرى إجلاء نازحي رفح إلى المواصي، كما يقترح الجيش الإسرائيلي في خطته الإنسانية، فستتحوّل المواصي إلى كارثة إنسانية لم نر مثلها في غزة من قبل”. وينقل الصحافي عن الصحافية الإسرائيلية المناهضة للاحتلال عميرة هاس أنه “إذا جرى إجلاء نحو مليون شخص إلى المواصي، فإن الكثافة السكانية ستصل هناك إلى 62,000 شخص في كل متر مربع؛ وكما هو معروف، فإنه لا يوجد شيء في المواصي؛ لا بنى تحتية، ولا مياه، ولا كهرباء، ولا منازل، فقط رمال ورمال، ودماء، وأوبئة، ومجارٍ؛ ومجرد التفكير في ذلك ليس أمراً يجمد الدم في العروق فحسب، بل أيضاً يشير إلى أي حد وصلت لاإنسانية إسرائيل في خططها”[4].
شواهد على معاناة إنسانية لا تُحتمل
يتزايد القلق بين النازحين بشأن احتمال شن هجوم على رفح، في ظل تصاعد الغارات الإسرائيلية على المدينة. “نحن ننتظر الموت”، يقول جابر أبو علوان، البالغ من العمر 52 عاماً، وهو نازح من خان يونس، ويضيف: “اشتدت التفجيرات بعد تصريحات نتنياهو”. ويعبّر محمد الجراح عن “خوفه من المجهول”، ويقول: “لا أعرف إلى أين سنذهب، ويبدو أن عملية رفح تقترب، لأن التفجيرات زادت بشكل كبير”. أما أم عماد، البالغة من العمر 70 عاماً، فقد استغرقت “رحلتها” من خان يونس ثلاثة أيام سيراً على الأقدام للوصول إلى رفح، وكانت تنام بين الخيام في الخارج تحت المطر، مثل آلاف الفلسطينيين الفارين من القتال في غزة. “لم أجد مأوى، لم أجد خيمة، لم أجد أي شيء، أقضي الليل في الشارع، تحت المطر الغزير، ولدي أطفال أيتام معي ليس لهم أب”، تقول السيدة العجوز ووشاحها الأسود يرفرف في الريح. وخلفها، من جهة الغرب والجنوب من مدينة رفح، يتشكل صف من الخيام البيضاء، أقيم بعضها على طول تلة من الأرض الرملية، توضع عليها شبكات وأسلاك شائكة يبلغ ارتفاعها عدة أمتار. أما عبد الله حلس، البالغ من العمر 24 عاماً، فيقول: “لا أعرف أين سننام”، وهو على وشك البكاء. وتتدفق مياه الصرف الصحي إلى الشوارع المليئة بالقمامة. ويواصل الفلسطينيون الفرار من منطقة إلى أخرى، ويتنقلون سيراً على الأقدام أو على عربات أو بالعشرات في شاحنات تعمل بالديزل، الذي ارتفع سعره عشرة أضعاف. وفي شارع مزدحم غربي المدينة، تنتظر هند أحمد، البالغة من العمر 29 عاماً، مع أطفالها الثلاثة سيارة أجرة أو عربة للوصول إلى خيمة نصبها زوجها، وتقول: “بقينا في أحد الفصول الدراسية لأكثر من شهر مع أكثر من 50 شخصاً لكن الوضع أصبح كارثياً (…). لذلك قررنا أن نعيش في خيمة رغم البرد”، وتضيف: “ما يحدث ليس له أي معنى. دعهم يفتحون المعابر حتى نتمكن من المغادرة! لم يبقَ شيء في غزة: لا مدارس ولا تعليم ولا ضروريات أساسية”، فيقاطعها رجل يعبر الشارع بصوت عالٍ وغاضب: “لن نترك غزة، لقد جاء اليهود إلى هنا وهم من يجب أن يغادروا”[5].
ويشير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) إلى أن النازحين “يواجهون ظروفاً كارثية في الأماكن المكتظة بالسكان، داخل مراكز الإيواء وخارجها”، ويتابع: “تنتظر الحشود لساعات حول مراكز توزيع المساعدات، والناس يعانون من الجوع والعطش ويحتاجون إلى الرعاية والحماية”. وقد زاد هطول الأمطار الغزيرة من معاناة هؤلاء النازحين، إذ جرفت السيول الخيام والعشرات من الملاجئ المؤقتة التي تم بناؤها على عجل. وتصرخ عزيزة الشبراوي، البالغة من العمر 38 عاماً والتي انتقلت ثلاث مرات منذ بدء الحرب الإسرائيلية على القطاع: “بنتي حافية القدمين (…) وكأننا متسولون”، وهي تحاول تفريغ الماء من خيمتها القماشية المغطاة بالنايلون، وتضيف: “ابني مريض بسبب البرد، طلبنا بطانيات وخيماً، لكن دون جدوى، فلا أحد يهتم بنا، ولا أحد يساعدنا”. أما بلال القصاص، البالغ من العمر 41 عاماً، من خان يونس، فهو ينام في العراء منذ خمسة أيام بعد أن غمرت المياه خيمته، ويقول بتأثر شديد: “الآن نريد فقط أن نموت، لا نريد طعاماً ولا ماء”. وعلى مسافة غير بعيدة، نزح بلال أبو بكر، البالغ من العمر 49 عاماً، من مخيم الشاطئ للاجئين مع أفراد عائلته، ويقول: “إن هناك تسعة منهم يتقاسمون البطانية، وما نحتاجه بشدة هو الفرشات والبطانيات والملابس؛ بعد التفجيرات نعاني اليوم من الشتاء والبرد، فإلى متى؟”[6].
مناورة أو جزء من مشروع الإبادة الجماعية والتطهير العرقي؟
يعتقد بعض المحللين أن تلويح رئيس وزراء حكومة الحرب الإسرائيلية بهجوم جيش الاحتلال الوشيك على محافظة رفح ما هو سوى مناورة يريد منها الضغط على حركة “حماس” كي تقبل بشروطه في المفاوضات الجارية لإطلاق المحتجزين الإسرائيليين لديها، وخصوصاً بعد أن رفض مطالب الحركة، وأهمها الوقف الكامل للعمليات العسكرية من الجانبين، وإعادة تمركز القوات الإسرائيلية بعيداً خارج المناطق المأهولة في كل قطاع غزة، واصفاً تلك المطالب بـ “الوهمية”، ومؤكداً أن إسرائيل “لن تقبل أبداً باتفاق يمنح حماس سيطرة جزئية أو كاملة على الأراضي التي تحكمها منذ سنة 2007”. وكان مسؤول في حركة “حماس”، قد صرّح لوكالة فرانس برس “بأن المفاوضات بين الوسطاء القطريين والمصريين وحركة حماس، التي انطلقت الخميس [في الثامن من هذا الشهر] في القاهرة لمحاولة التوصل إلى اتفاق هدنة تشمل تبادل المحتجزين الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين، انتهت الجمعة، وأن وفد الحركة غادر القاهرة، من دون مزيد من التفاصيل، في انتظار الرد من إسرائيل”[7].
بيد أن محللين آخرين يرون أن قيام جيش الاحتلال بشن هجوم واسع على محافظة رفح هو أمر “لا مفر منه”، وهو يندرج في نطاق مشروع الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الإسرائيلي، وخصوصاً بعد أن تبيّن أن أهداف إسرائيل من الحرب لا تزال تبدو بعيدة المنال، مع عودة حركة “حماس” إلى الظهور في أجزاء من مناطق شمال غزة، التي كانت الهدف الأول للهجوم الإسرائيلي والتي شهدت دماراً هائلاً، ومع عجز إسرائيل عن إنقاذ المحتجزين في أيدي الحركة باستثناء محتجزة واحدة. فالكاتب الفرنسي ناثان داس يرى أنه قد مرّ أكثر من أربعة أشهر “منذ بداية حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة”؛ أربعة أشهر “أسقط خلالها الجيش الإسرائيلي على القطاع من المتفجرات ما يعادل قنبلتين ذريتين من النوع الذي أسقطته الولايات المتحدة على هيروشيما في سنة 1945؛ أربعة أشهر “أدى خلالها هذا القصف الضخم إلى تدمير ما يقرب من 70% من المنازل في القطاع، 85% منها في نصفه الشمالي”؛ أربعة أشهر “عمل خلالها الجيش الإسرائيلي بلا هوادة على تحويل جميع البنى التحتية الخدمية مثل المياه والكهرباء والخدمات الصحية، بما في ذلك المستشفيات، إلى رماد، وكذلك الشبكة التعليمية (المدارس والجامعات) والمواقع الثقافية والدينية والمباني التاريخية”؛ أربعة أشهر “فقد خلالها ما يقرب من 28 ألف شخص حياتهم، بينهم أكثر من 5000 طفل”؛ وهو سيواصل مشروعه، إذ أمر بنيامين نتنياهو جيشه “بترحيل 1.3 مليون فلسطيني يوجدون في رفح”، ووضع خطة لتحقيق ذلك، بحيث يكون الترحيل من رفح “الثالث منذ بدء الحرب بعد الشمال وخان يونس”؛ ونظراً إلى أن الجيش الإسرائيلي “سيمنع فلسطينيي رفح، بكل تأكيد، من العودة إلى شمال القطاع في زمن الهجوم، وإذا ما استطاعوا ذلك فإن الشمال لم يعد سوى كومة من الرماد والأنقاض”، وهم “لن يكون في وسعهم التوجّه نحو الجنوب”، لذلك لن يكون أمامهم سوى التوجّه “نحو مصر وسيناء، كما اقترحت ذلك وثيقة وزارة الاستخبارات في 30 تشرين الأول/ أكتوبر الفائت”[8].
لعل رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية يناور كي يضغط على حركة “حماس” في المفاوضات، لكن لا شيء سيردعه، ولا حتى “الضغوطات” الأميركية المنافقة، عن مواصلة مشروعه سوى استمرار مقاومة الشعب الفلسطيني وتصميمه على الصمود فوق أرض وطنه.
[1] https://www.20minutes.fr/monde/israel/4075536-20240209-guerre-israel-hamas-crime-guerre-etude-tragedie-annoncee-rafah
[2] https://news.un.org/fr/story/2024/02/1142922;
https://www.la-croix.com/netanyahu-veut-evacuer-les-civils-de-rafah-craintes-d-un-assaut-israelien-20240209
[3] https://www.courrierinternational.com/reveil/2024-02-10#article-1
[4] https://mukhtaraat.palestine-studies.org/ar/node/33692
[5] https://www.letelegramme.fr/monde/israel-palestine/a-rafah-les-deplaces-palestiniens-entre-peur-de-linconnu-et-des-massacres-6522887.php;
https://www.laprovence.com/article/france-monde/67423938890566/sans-abri-ni-horizon-des-milliers-de-palestiniens-accules-a-la-frontiere-avec-legypte
[6] https://www.laprovence.com/article/france-monde/11728063428243/tentes-inondees-et-froid-les-nouveaux-malheurs-des-deplaces-a-rafah
[7] https://www.la-croix.com/netanyahu-veut-evacuer-les-civils-de-rafah-craintes-d-un-assaut-israelien-20240209;
https://fr.euronews.com/2024/02/09/les-frappe-israeliennes-sintensifient-a-rafah-refuge-de-centaines-de-milliers-de-gazaouis
[8] https://www.revolutionpermanente.fr/Rafah-un-nouveau-cap-franchi-dans-le-nettoyage-ethnique-de-Gaza
ماهر الشريف – مؤسسة الدراسات الفلسطينية