ما الذي يُبطئ الهجوم الأوكراني المضاد الذي استغرق الإعداد له أشهراً وزودت كييف من أجله بمجموعة من أحدث الأسلحة الغربية؟ هل المشكلة في الجيش الأوكراني أم أن الجيش الروسي الذي يحارب الآن هو جيش مختلف عن ذلك الذي تعرض لهزائم وانكسارات في محيط كييف، وخاركيف في المراحل السابقة من الحرب.
فبعد مرور شهر على إطلاق أوكرانيا هجومها المضاد، تواصل قوات كييف التقدم، خاصة في جهودها لاستعادة باخموت. وعلى الرغم من الاضطرابات خلف الخطوط الروسية، وتمرد مجموعة مرتزقة فاغنر، لم تحدث هناك حتى الآن الاختراقات الجذرية التي توقعها البعض. ويعكس هذا جزئياً تركيز أوكرانيا على إنهاك القدرات الروسية بدلاً من استعادة الأراضي، وكذلك الإصرار الروسي غير المتوقع، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
مقاومة شديدة من الجيش الروسي تختلف عن الأداء السيئ للمرحلة الأولى
مؤخراً كانت هناك مؤشرات على تزايد التفاؤل الأوكراني. وقال أوليكسي دانيلوف، رئيس مجلس الأمن القومي والدفاع، يوم الثلاثاء 4 يوليو/تموز، إنَّ “الأيام القليلة الماضية كانت مثمرة جداً”. ومع ذلك، هناك أيضاً شعور بين المراقبين بأننا نشهد جانباً مختلفاً من الجيش الروسي. فقد أظهرت مقاومة شديدة وهي بعيدة كل البعد عن كونها قوة مُستنزَفة.
عندما كان الروس في موقف الهجوم، كان يعوزهم الحماس والخيال، واعتمدوا على القصف الجماعي والهجمات الأمامية المُكلِّفَة. وبعد أن فقدوا الكثير من أفضل قواتهم في الاندفاع المبكر الخاطئ للاستيلاء على كييف، بدا أنَّ القوات الروسية تفتقر إلى المهارة والحماس للقتال بأية طريقة أخرى، مع بعض الاستثناءات مثل قوات المظلات.
يذكر هذا بالمراحل الأولى من الهجوم النازي على الاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية، حينما فقدت روسيا كميات هائلة من أثمن أسلحتها، وأسر أعداد هائلة من جنودها بسبب سوء التخطيط الذي أدى لتسهيل الانتصارات النازية.
لكن الروس أثبتوا أنهم أقوياء في الدفاع
ومع ذلك، أثبت الروس أنهم أكثر فاعلية في الدفاع. وقد شن الأوكرانيون هجومهم المضاد عبر جبهة واسعة، امتدت من أوريخيف في الجنوب إلى كريمينا في الشمال. وكان هدفهم هو البحث عن نقاط الضعف، وتقويض قدرات العدو، ومحاولة إجبار الروس على نشر قواتهم الاحتياطية قبل الأوان.
لكن لا يزال الجيش الروسي رقم 58 في الجنوب دون مساس إلى حد كبير، ويحتفظ بوحدات أخرى جاهزة للقتال لتكون تعزيزات في حال بدا من المحتمل أن يخترق الأوكرانيون الخطوط الدفاعية في أي وقت.
أبرز التطويرات التي أدخلها الروس على جيشهم.. استخدام أفضل للمدفعية والمسيرات
أظهر الروس أيضاً القدرة على تعلم الدروس من الأشهر الستة عشر الماضية من الحرب، من إدارة مدفعيتهم إدارةً أفضل، إلى تنسيق عمليات طائراتهم بدون طيار مع تحركاتهم البرية.
وصوّر محلل بريطاني في وزارة الدفاع ذلك على أنه “تكيف قسري تحت النيران، الذي غالباً ما يكون بسيطاً لكن فعال”.
نشروا المروحيات بطريقة أفضل وأكثر كثافة
ويستفيد الروس الآن بشكل أكبر من قوتهم الجوية.
إذ ينشرون طائرات الهليكوبتر الهجومية، وخاصة Ka-52 Alligator، بتركيزات أكبر من السابق، وصارت تحلّق ليلاً ونهاراً، ومسلحة بصواريخ Vikhr المضادة للدبابات الموجهة بالليزر التي يمكن إطلاقها لأبعد من نطاق الدفاعات الجوية الأوكرانية.
وفي الشهر الماضي، نُشِرَت 20 أخرى في قاعدة جوية أمامية بالقرب من بيرديانسك؛ مما دفع وزارة الدفاع البريطانية إلى التغريد: “اكتسبت روسيا ميزة مؤقتة في جنوب أوكرانيا”.
..وأدخلوا أسلحة جديدة
ويستخدم الروس أسلحة وتعديلات جديدة نسبياً، بدءاً من التمويه الحراري (لزيادة صعوبة رؤية القوات والمركبات واستهدافها بواسطة أنظمة الرؤية الليلية الأوكرانية) وصولاً إلى طائرات Lancet الانتحارية بدون طيار التي كانت تستهدف مدفعية العدو.
روح جديدة من الابتكار البراغماتي
وهناك أيضاً روح جديدة من الابتكار البراغماتي انبعثت بين الروس. فعلى سبيل المثال، بدأ الروس في تعويض الإمدادات المتضائلة من الصواريخ الدقيقة من خلال تعديل المعدات لتناسب القنابل الموجودة؛ مما يسمح لها بالانزلاق لمسافة تصل إلى 30 كيلومتراً بعد إطلاقها على ارتفاعات عالية. ويسمح هذا للطائرات بإطلاق قنابل انزلاقية أثناء وجودها في المجال الجوي الروسي لضرب أهداف عبر الحدود.
صواريخ الألغام تشيد سداً منيعاً أمام الأوكرانيين
شهدت الحرب أيضاً أول ظهور لنظام زرع الألغام عن بُعد ISDM Zemledeliye في ساحة قتال.
إذ يمكن لهذا النظام، من مؤخرة شاحنة، إطلاق ما يصل إلى 50 صاروخاً مليئاً بالألغام على بُعد 15 كيلومتراً، لتغطية مساحة بحجم العديد من ملاعب كرة القدم في دقائق. وهذا يسمح للروس بوضع حقول الألغام أمام القوات المتقدمة أو حتى خلفها.
وقد أثبتت الألغام، التي كانت دائماً مصدراً عظيماً للدفاع، أنها حاسمة بالنسبة للروس. وقد نثر مزيج من الألغام المضادة للدبابات والأفراد على طول خط المواجهة، حيث أشارت وزارة الدفاع إلى أنَّ الكثافة أكبر حتى مما يتصورها مذهبهم العسكري عادة.
إضافة إلى ذلك، هناك مخاوف من أنَّ الروس دجّجوا محطة الطاقة النووية زابوريجيا، التي يسيطرون عليها الآن، بشحنات متفجرة لتكون “لغماً نووياً هائلاً”، على حد تعبير جندي أوكراني. ومن الناحية العملية، بينما يمكن تدمير المحطة، فإنَّ مخاطر وقوع حادث إشعاعي كبير ستكون محدودة وعشوائية. وإذا وقع أي تسرب إشعاعي، فمن المحتمل أن يؤثر في روسيا بقدر تأثيره في أوكرانيا. لذا يُحتمَل أن تكون هذه مناورة سياسية، ومحاولة لتخويف الأوكرانيين، والأهم من ذلك الأوروبيين، على أمل دفعهم نحو المفاوضات خوفاً من تصعيد كارثي.
مثلما حدث مع هتلر ونابليون، الجيش الروسي يحافظ على تماسكه بخليط من الوطنية والقهر
إلى جانب هذه التطورات العملية، يمكن القول إنَّ الروس يستعرضون ثقافة عسكرية وطنية؛ مثلما أبدوا إصراراً شديداً في الدفاع أمام هتلر ونابليون، وهو ما يتضح من هجماتهم الناجحة التي لا شك فيها.
وعلى الرغم من أنه من السهل إغفال مثل هذه العوامل غير المرئية، فقد قال مراقب عسكري أمريكي قضى وقتاً على تلك الساحة: “في هذا الصدد، فإنَّ كلاً من الأوكرانيين والروس هم ورثة نفس التقليد. ومن المرجح أن نرى في الروس نفس النزعة الدموية التي رأيناها في الأوكرانيين العام الماضي”.
ولا تعتمد موسكو بالطبع اعتماداً أعمى على معنويات جنودها. ومع ذلك، فإنَّ القوات الموجودة في الخنادق أقل عرضة للانكسار والهرب من تلك الموجودة في العراء. إلى جانب ذلك، هناك طرق أكثر شراً للإبقاء على تماسك صفوف القوات. فلم يعتمد ستالين فقط على الوطنية السوفييتية، لكن أيضاً على “وحدات الاعتراض” المنتشرة خلف خط الجبهة لإطلاق النار على أي جندي يهرب. وعلى الرغم من عدم وجود دليل على أنَّ الجيش الروسي الحديث لديه مثل هذه القوات (حتى الآن)، لكن موسكو ربما تشجع الشائعات حول وجودها لأنها تريد أن يعرف جنودها أنَّ الانسحاب قد يكون أخطر من الدفاع العنيد.
ولكن أوكرانيا ما زال لديها 6 ألوية لم تستخدم وانتشار الروس ضئيل على طول الجبهة
لا يزال الهجوم الأوكراني في مراحله المبكرة، ومع ذلك، لا يعني أيٌ من هذا أنه لن يستطيع تحقيق اختراق. ومن بين الألوية التسعة التي جهّزتها دول الغرب ودرّبتها، لا تزال نحو 6 ألوية لم تُنشَر بعد، وتحتفظ بها أوكرانيا في الصفوف الخلفية لاستغلال أية فرص أو اختراقات.
وسيستمر هذا الهجوم المضاد خلال الصيف، مع ما سيشهده من لحظات من جهد كبير أو منخفض .
وقد يكون الجيش الروسي في وضع أفضل، لكنه عانى من خسائر فادحة، في حين أنَّ الأوكرانيين لديهم اليد العليا وهم من يحددون مكان وكيفية تركيز القتال، حسب الصحيفة البريطانية.
يعتقد أن عدد القوات الأوكرانية قد يصل لضعف عدد القوات الروسية رغم استدعاء موسكو للاحتياط، ولكن عملية الاستدعاء الأوكرانية كانت أوسع نطاقاً، كما أن الغرب عوض كييف عن الأسلحة التي فقدتها بطريقة أكبر من وتيرة المصانع الروسية.
وربما كان الأوكرانيون يأملون في تحقيق بعض النجاح الرمزي قبل قمة فيلنيوس لحلف الناتو هذا الأسبوع؛ لإظهار قيمتهم باعتبارهم حليفاً، لكن تركيزهم الحقيقي ينصب على نوع الانتصار الجاد الذي سيطمئن حلفاءهم ويثير قلق بوتين.
تقول المجلة البريطانية: ينتشر الروس انتشاراً ضئيلاً على طول خط المواجهة الذي يبلغ طوله 1000 كيلومتر، وإذا تمكن الأوكرانيون من مفاجأتهم، فهناك كل فرصة لكسر دفاعاتهم. لذا فإنَّ المعارك الحقيقية لم تأتِ بعد.
عربي بوست