شهدت المجالات البحرية خلال العقود الماضية العديد من التغيرات الجيوسياسية والبيئية، نتيجة تسارع عملية العولمة، ونمو حجم التجارة الدولية، بالإضافة إلى التقدم التكنولوجي الذي مكّن من استغلال الموارد البحرية الاقتصادية التي لم تكن متاحة من قبل، وساهم هذا التغير في التحول عن الموارد البرية للعثور على موارد جديدة في البحر، والضغط على البيئة البحرية، نتيجة النمو الديموغرافي وارتفاع مستويات المعيشة المطرد.
ونتيجة اكتشاف الموارد البحرية الجديدة التي بات يسهل استخراجها مع التقدم التكنولوجي، زادت الأهمية الاقتصادية والجيوسياسية للمناطق الاقتصادية الخالصة في البحار، هذا فضلًا عن الأهمية المتزايدة للممرات الملاحية التي أصبحت تحتل مكانة استراتيجية؛ لاستقرار النظام الدولي باعتبارها شرايين حيوية لحركة التجارة العالمية وخطوط الإمداد والتوريد، وخلال السنوات الماضية زاد استخدام المجال البحري أيضًا؛ لأغراض أخرى مختلفة، وهو ما تشكلت معه تهديدات أمنية جديدة إلى جانب التهديدات التقليدية المرتبطة بعمليات القرصنة والسطو البحري.
وقد فرضت هذه البيئة المتغيرة على العديد من الدول تطوير استراتيجيات بحرية كبرى؛ لمواجهة التحديات المستقبلية والتغيرات في طبيعة البيئة الأمنية البحرية، ومع تزايد الأهمية الجيوستراتيجية لنطاق حوض البحر الأحمر وشرق المتوسط بالنسبة للأمن القومي الإسرائيلي، وتزايد أهميتهما في الجغرافيا السياسية العالمية؛ نظرًا لأهميتهما بالنسبة للتجارة والأمن العالميين، وزيادة المنافسات العسكرية وخطر الصراع بين اللاعبين الإقليميين والدوليين المركزيين، اتجهت تل أبيب إلى تطوير سياستها العسكرية تجاه هذه المناطق البحرية لتعزيز نفوذها وتأمين مصالحها، ولذا، تستهدف هذه المقالة تناول ملامح السياسة العسكرية الإسرائيلية الخاصة بالأمن البحري في تلك المناطق، وذلك وفقًا لخريطة التهديدات الناشئة هناك، وكذا بيان ركائز التحرك الإسرائيلي لمواجهة هذه التهديدات، وإلى أي مدى يمكن لهذه التحركات أن تؤثر على الاستقرار الأمني لتلك المناطق، وكذلك على مصالح الدول العربية المشاطئة.
أولًا: مفهوم الأمن البحري في الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية
تعود جذور الاهتمام الاستراتيجي الإسرائيلي بالبحار إلى الأفكار الأولى لثقافة البحر الصهيونية لليهود الجدد التي بدأت في التبلور في السنوات الأولى بعد الحرب العالمية الأولى، حيث كانت هذه الأفكار التي اقترحتها لجنة المياه التي تأسست في (يافا)، والتي عملت لمدة عامين، بين عامي 1919 و1921، بدأها «مئير جورفيتز»، الذي كان نشطًا جدًا في نشر وتعزيز رؤيته البحرية الصهيونية، وكانت لجنة جورفيتز أول هيئة حاولت تقديم خطة صهيونية شاملة فيما يتعلق بالمهن البحرية، بهدف ترسيخ ثقافة بحرية صهيونية مستقلة، ومع تطور أعداد اليهود قبل احتلال الأراضي الفلسطينية، تشكل منظور جديد بحيث يكون المشروع الصهيوني للاحتلال من الشرق إلى الغرب نحو البحر، وبدأت أهمية الساحل تتزايد، وفي هذا الصدد قال «دافيد بن جوريون»، أول رئيس وزراء إسرائيلي، وأحد المؤسسين الأوائل، مقولته: «لا أرض لإسرائيل بدون بحر إسرائيل»، ثم بلغت ذروة الاهتمام الصهيوني الرسمي بالبحر في عام 1930.
وتحولت هذه الأفكار إلى رؤية واضحة تهدف إلى إنشاء «البحر العبري» قبل إقامة دولة إسرائيل، بحيث يكون قائمًا على تقارب الاحتياجات الشعبية والمصالح التجارية والمخاوف الجيوسياسية والاعتبارات الاستراتيجية، والجدير بالإشارة هنا أن الرؤية البحرية الإسرائيلية شهدت تطويرًا في أعقاب قيام دولة إسرائيل على يد بن غوريون، الذي عبّر عنها في كلماته التالية: «هناك أرض أخرى ستلعب دورًا كبيرًا في الأمن والهجرة والاستيطان، وهذه الأرض أكبر حتى من النقب، أكبر من كل أرض إسرائيل (فلسطين المحتلة) – إنه البحر، هذا هو واحد من أهم أجزاء الدولة اليهودية».
ورغم هذه الأهمية الاستراتيجية متعمقة الجذور للبحار في الفكر الصهيوني إلا أن الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية تعاني قصورًا في تعريف الأمن البحري في إطار استراتيجية بحرية كبرى، وتكتفي بإشارات محدودة في نطاق تعريفات استخدام القوة في الساحات العملياتية والتشغيلية، وفقًا للمفاهيم الأساسية لثالوث الأمن القومي القائم على «الردع والإنذار والنصر»، وهو ما انعكس في استراتيجية الجيش الإسرائيلي التي قدمها رئيس الأركان -آنذاك- (غادي ايزنكوت) في عام 2015، في سياق محاولة تطوير وتأطير مفهوم «القيادة والسيطرة» أثناء الحرب، والتي اكتفت بالإشارة إلى عامل التفوق البحري ضمن عوامل أخرى كالمناورة البرية، وتعزيز البعد السيبراني، والتفوق الجوي، باعتبارها متطلبات أساسية؛ لزيادة فعالية العمليات العسكرية في ساحة القتال، وتنويع القدرات التشغيلية داخل «الحملة بين الحروب».
وقد اشتملت الوثيقة أيضًا على بعض مبادئ وعناصر مفهوم الأمن القومي، باعتبارها الخطوط العريضة التي يمكن من خلالها الاسترشاد لفهم الفلسفة الأمنية في المجالات التشغيلية المختلفة (البحرية، البرية، الجوية): يتمثل أولها، في إقامة فترات طويلة من الهدوء الأمني؛ لتمكين تنمية المجتمع والاقتصاد والعلوم، فضلًا عن تحسين استعداد إسرائيل لحالات الطوارئ والحرب. ثانيها، خلق الردع تجاه البيئة الإقليمية والعناصر التي قد تخلق تهديدات، مستندة إلى الحفاظ على قوة عسكرية قوية، والتصميم على استخدام القوة العسكرية إلى أقصى حد، إذا اقتضت الضرورة. وثالثها، تحقيق الردع وتعميقه والحفاظ عليه، من خلال بناء القوة وخلق تهديد موثوق به يتعلق باستعداد الجيش لاستخدام القوة العسكرية، وفي الوقت نفسه، تفعيل جميع المنظمات الأمنية بطريقة منسقة لإلحاق الضرر بقدرات العدو وحشد قواته. ورابعها، إحباط سريع للتهديد، في حالات الطوارئ وأثناء الحرب، والحد من الضرر الذي يلحق بإسرائيل والحفاظ على الردع الإقليمي لها.
تجدر الإشارة أيضًا أنه إلى جانب قصور الجانب المفاهيمي في الاستراتيجيات العسكرية فيما يتعلق بمفهوم الأمن البحري، فهناك حالة من التقادم في تحديثات الوثائق العسكرية حول طبيعة التحديات والتهديدات المستحدثة. على سبيل المثال، دفعت تقديرات وتقييمات مراكز الأبحاث الإسرائيلية حول وثيقة العقيدة العسكرية التي قدمتها لجنة صياغة مبدأ الأمن القومي الإسرائيلي، برئاسة (دان ميريدور)، في أبريل 2006، إلى وزير الدفاع -آنذاك- شاؤول موفاز، ورئيس الوزراء-آنذاك- (إيهود أولمرت)، حول التحديات الأمنية الرئيسية المتوقعة خلال العقد (2006-2016)، بأنها بحاجة إلى التحديث لعدم مواكبتها التغيرات والاتجاهات المستجدة التي طرأت على البيئة الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، بما فيها البيئة البحرية، حيث تفرض التحديات الأمنية المستجدة التي تواجهها تل أبيب في الوقت الراهن، أهمية متزايدة للتهديدات الأمنية البحرية خاصة في ظل تصاعد «حرب الظل» التي تخوضها ضد إيران، والتي امتدت خلال السنوات الماضية، ليشمل نطاقها العملياتي الساحة البحرية لحوض البحر الأحمر، عبر سلسلة الهجمات المتبادلة ضد السفن التجارية بين إيران وإسرائيل.
وفي ضوء تلك المتغيرات ونشوء الحاجة إلى استراتيجية بحرية كبرى للتعامل مع التهديدات غير التقليدية في الساحة البحرية، برز الاتجاه الأكاديمي من خلال المراكز الأمنية البحثية الإسرائيلية، المعنية بالمجال البحري وقضايا البحث في الأمن الإقليمي والسياسة الخارجية، ومنها مركز أبحاث البحر الأبيض المتوسط الذي تأسس في عام 2012، ومركز أبحاث حيفا للسياسة والاستراتيجية البحرية الذي تأسس في عام 2016؛ حيث حرصت جميعها على تقديم تصورات حول نموذج ومنهجية بناء استراتيجية بحرية كبرى. وجاءت أولى هذه المحاولات من خلال تقديم الموضوع أمام مؤتمر لقادة البحرية السابقين، وفي مؤتمر كرسي «رؤوفين تشايكين» Reuven Chaikin للجيوستراتيجية بجامعة حيفا في يناير 2017.
هذا فضلًا عن تقارير التقييمات الاستراتيجية للاستراتيجية البحرية الكبرى التي يصدرها مركز أبحاث حيفا للسياسة والاستراتيجية البحرية، بشكل دوري كل عام؛ حيث قدم التقرير الأول الصادر في يناير 2016- والذي يعد المحاولة الأولى في هذا الجهد – توصية بضرورة إنشاء عملية منظمة تبدأ بتحديد مصالح إسرائيل في المجال البحري، وتحديد الأولويات في جميع القضايا المرتبطة بالبحر، كبنود أولية لصياغة «مشروع بحري كبير»، يتضمن أهدافًا محددة وطرق تحقيقها.
ثانيًا: خريطة التهديدات البحرية في البحر الأحمر وشرق المتوسط
فرضت التطورات السياسية والأمنية والاقتصادية التي شهدتها منطقتي البحر الأحمر، وشرق البحر الأبيض المتوسط، خلال السنوات الماضية، تصاعد الأهمية الجيوستراتيجية لتلك المناطق، وإحداث تحول في الخريطة الجيوسياسية لهما، حيث قادت هذه التطورات إلى تسريع ظهور دائرة استراتيجية جديدة تشكل ساحة للعديد من المصالح الدولية والإقليمية، وفي جوهرها منطقة البحر الأحمر، وشرق البحر الأبيض المتوسط. ورغم التعامل التقليدي معهما باعتبارهما وحدتين جغرافيتين منفصلتين ومستقلتين، إلا أنهما أصبحتا في السنوات الأخيرة مترابطتين بشكل متزايد من حيث العلاقات الدولية جنبًا إلى جنب مع الاتصال الجغرافي الموجود بالفعل عبر قناة السويس.
وخلال السنوات الماضية تزايدت الأهمية الاستراتيجية لهذه المناطق البحرية بالنسبة للأمن القومي لإسرائيل، بحكم متغير الجغرافيا الذي يجعلها متماسة بكل من البحر الأحمر، والبحر الأبيض المتوسط، وبرزت جملة من الاعتبارات والمحددات التي تحكم أهمية تلك المناطق بالنسبة لتل أبيب، وفقًا لتقرير التقييم الاستراتيجي البحري لإسرائيل لعام (2016)، الصادر لأول مرة عن مركز أبحاث حيفا للسياسة والاستراتيجية البحرية. أولها، العنصر البحري كجزء من التهديد العام لإسرائيل، بما في ذلك الحدود البحرية المشتركة مع لبنان وحزب الله في الشمال وحماس في الجنوب. ثانيها، طبيعة الاقتصاد الإسرائيلي، حيث يُنظر إلى إسرائيل بأن لديها «اقتصاد جزيرة»؛ نظرًا لكونها لا تملك تجارة كبيرة عن طريق البر مع الدول التي تحدها (باستثناء تعاملاتها المحدودة مع الأردن عبر ميناء حيفا في نقل البضائع)، وبالتالي فالاقتصاد الإسرائيلي يعتمد بشكل شبه كامل على الممرات البحرية المفتوحة والموانئ في كل من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، حيث تستورد غالبية الاحتياجات الوجودية الأساسية مثل معظم الحبوب (القمح والأرز والذرة وما إلى ذلك)، وكذلك النفط الخام الذي يخدم احتياجاتها للطاقة. ثالثها، البيئة الاقتصادية البحرية، التي تحتوى على خزانات كبيرة للغاز الطبيعي. ومن المفترض أيضًا خزانات النفط، وبالتالي يحدث قدر كبير من النشاط التجاري على نحو يتطلب بيئة آمنة ومريحة تضمن إمدادًا رخيصًا وموثوقًا ومستمرًا للطاقة، ودخلًا من عائدات تصدير الغاز الطبيعي. رابعها، الرغبة الإسرائيلية في تعزيز العمق الاستراتيجي؛ حيث إن نقص المساحات الأرضية المتاحة تؤثر على قدرتها على تخطيط وتطوير البنية التحتية مثل المطارات ومرافق تحلية المياه، ومحطات الطاقة، وما إلى ذلك. كما أن ندرة الأراضي المتاحة، خاصة على طول الساحل، حيث يتركز 80 ٪ من الإسرائيليين، تُثير معارضة الرأي العام لأي استخدام للأراضي بالقرب من الواجهة البحرية. خامسها، الحاجة إلى تحلية مياه البحر، كحل لنقص المياه؛ حيث قللت إسرائيل من اعتمادها على مصادر المياه الموجودة في أراضي الدول الأخرى. سادسها، البيئة القانونية الدولية، فعلى الرغم من كون إسرائيل ليست من الدول الموقعة على اتفاقية قانون البحار، إلا أن للاتفاقية أهمية عرفية ملزمة لها.
ووفقًا لهذه المحددات التي تعكس أهمية حيوية لتلك المناطق البحرية للأمن القومي الإسرائيلي، إلى جانب التحولات الجيوسياسية التي شهدتها تلك المناطق، من ناحية تزايد التنافس الدولي والإقليمي على تعزيز النفوذ هناك، وتزايد الأهمية الاقتصادية في ضوء الاكتشافات النفطية، هذا فضلًا عن تصاعد الصراعات العنيفة داخل الدول المشاطئة، فقد تشكلت خريطة من التهديدات التقليدية وغير التقليدية نناقشها فيما يلى:
1 – القرصنة والسطو البحري
تعد عمليات القرصنة التي تقوم بها الجماعات المسلحة والعصابات في نطاق البحر الأحمر أحد التهديدات التقليدية التي ظلت تواجهها حركة التجارة العالمية التي تمر عبر المضائق الملاحية هناك. ونتيجة للجهود الدولية خلال السنوات الماضية، فقد تم تحجيم نشاط تلك العمليات، إلا أنه لا تزال هناك تهديدات محتملة من جانب تلك الجماعات التي تنشط في المناطق الهشة للدول المشاطئة.
ووفقًا لتقرير مكتب التحقيقات الدولي، عن القرصنة العالمية الصادر خلال الفترة (يناير – سبتمبر 2022)، بلغت عمليات القرصنة 90 حادثة قرصنة وسطو مسلح ضد السفن، منها 16 حادثة في أفريقيا -وهو أدنى رقم منذ عام 1994 – مقارنة بـ 97 حادثة في نفس الفترة من عام 2021 (انظر شكل رقم 1). وفي الأشهر الثمانية الأولى من عام 2021، تم تسجيل سبع حالات لمحاولات أو اشتباه في القرصنة ضد الشحن في ممرات العبور بنطاق البحر الأحمر. على سبيل المثال، وقعت حالتان في القرن الأفريقي وخليج عمان من قبل القراصنة؛ لانتزاع السيطرة على السفن التجارية، الأولى، وقعت في 24 يناير 2021 عندما لاحظت سفينة تجارية تبحر شرق جيبوتي قاربا على متنه رجال مسلحون مجهزون بسلالم الصعود، بينما وقع الحادث الثاني بالقرب من مضيق هرمز في 22 مارس 2021، عندما لاحظ الضابط الذي كان على متن ناقلة قاربا يقترب بسرعة عالية.
2 – التهديدات السيبرانية للأنظمة البحرية
أدى تحول اعتماد الصناعة البحرية المدنية (السفن وسفن الركاب وأحواض بناء السفن والموانئ والمحطات والبنية التحتية للطاقة) خلال العقد الماضي بشكل كبير على أنظمة الكمبيوتر والتحكم التي تعتمد على التكنولوجيا التشغيلية، إلى ارتفاع مؤشرات التهديدات السيبرانية كتهديدات غير تقليدية للأمن البحري في العديد من الدول البحرية، وتتصاعد خطورة هذه التهديدات في ظل اعتماد معظم الأنظمة البحرية للدول في الغالب على أنظمة تشغيل قديمة، ولا تحتوي على تحديثات وتصحيحات أمنية، بالإضافة إلى قدرات المراقبة المحدودة -إن وجدت- بالإضافة إلى أن معظمها ليس لديه أمن إلكتروني.
وتشير الدراسات من ناحية إلى أن الاستجابة للتهديد السيبراني في الساحة البحرية كانت منخفضة، وأن عدد الهجمات المبلغ عنها لا يعكس العدد الفعلي للهجمات، وأن الإمكانات الكامنة في التهديد السيبراني البحري على وشك أن تصبح أخطر تهديد تجاري في المستقبل. وتتوقع مشاريع الأمن السيبراني أن ترتفع التكاليف العالمية للجرائم الإلكترونية بنسبة 15% بحيث ستصل إلى 10.5 تريليون دولار سنويًا بحلول عام 2025، مقابل ثلاثة تريليونات دولار أمريكي في عام 2015. ووفقًا لتقديرات بعض الدراسات تبلغ التكلفة المباشرة وغير المباشرة للتهديد السيبراني من هجوم واحد على الموانئ الأربعة في إسرائيل نحو 1.7 مليار دولار في المتوسط.
3 – تغير المناخ وتهديد التلوث البحري
باتت قضايا التغير المناخي تحظى بأهمية متزايدة على خريطة التهديدات البحرية، خاصة فيما يتعلق بمجال البنية التحتية الساحلية؛ حيث تؤدي التغيرات المناخية إلى تراجع الجرف الساحلي الذي سيؤدي بدوره إلى توسيع منطقة الخطر على حياة الإنسان، والبنية التحتية الساحلية، والأصول المبنية عليها والمتاخمة لها، على نحو يستوجب ضرورة تعميق فهم الروابط بين الآثار، وتغير المناخ، والتهديدات للأمن البحري. أيضًا تشكل قضايا التسرب النفطي أحد التحديات التي تواجه المجال البحري للدول الساحلية؛ نظرًا للتأثيرات الكارثية لذلك التسرب على الشواطئ والطبيعة البحرية، وهو ما انعكس خلال كارثة التلوث البحري على طول الشواطئ الإسرائيلية التي بدأت في 17 فبراير 2021، حيث غطى الكثير من سواحلها المطلة على البحر المتوسط بالقطران، والتي أثرّت بدورها على الشواطئ والبحر والطبيعة هناك. ويفسر ذلك معارضة وزارة حماية البيئة الإسرائيلية، الاتفاقية بين شركة خط النفط آسيا – أوروبا، وشركة RED-MED بشأن وصول ناقلات النفط الخام إلى ميناء إيلات؛ لنقله إلى أوروبا من خلال أنبوب إيلات – أشكلون، وهو الاتفاق الذي كان سيسهم في تعميق الشراكة الاقتصادية بين دولة الإمارات وإسرائيل، باعتباره أحد ثمار اتفاقات «أبراهام» الموقعة بين الجانبين في أغسطس 2020.
4 – التهديد الإيراني
رغم عدم اشتراك إسرائيل وإيران في حدود برية وابتعادهما آلاف الكيلومترات عن بعضهما البعض، إلا أن إيران تمكنت من خلال ذراعها البحرية من الوصول إليها وتهديد مصالحها، حيث إن وصول إيران البحري إلى الشرق الأوسط يسمح لها بتقديم مساعدات لوجستية للدول والمنظمات التي تدعمها (وكلائها المحليين في دول الهلال الشيعي في لبنان وسوريا في الشمال، والعراق في الشرق، واليمن وقطاع غزة في الجنوب)، وهو ما يسمح لإيران بتضييق الخناق حول إسرائيل، وتهديدها سواء عبر هؤلاء الوكلاء أو عبر صواريخها الباليستية القادرة على ضرب العمق الإسرائيلي.
وخلال عام 2021 أصبح البحر الأحمر جزءًا من ساحة الحرب السرية أو «حرب الظل» الدائرة بين إسرائيل وإيران، ونشأ تهديد للملاحة الدولية بشكل عام والشحن الإسرائيلي بشكل خاص، جراء هذه الحرب، التي كانت تدور في العامين الماضيين على الساحة البحرية. على سبيل المثال، هاجمت إسرائيل السفينة الإيرانية سافيز في البحر الأحمر مقابل الساحل الإريتري في 6 أبريل 2021، بالإضافة إلى مهاجمة السفن التجارية، التي كانت تنقل النفط والأسلحة الإيرانية إلى لبنان وسوريا، في البحر الأحمر وشرق البحر الأبيض المتوسط باستخدام الألغام البحرية وصواريخ الطوربيد، ورغم تصاعد الهجمات الإسرائيلية إلا أنها تجنبت غرق السفن، وقد تم ذلك لردع إيران، وإحباط محاولاتها للالتفاف على العقوبات الأمريكية على صناعتها النفطية وإحباط نقل الأسلحة من إيران إلى حزب الله.
وفي إطار الرد الإيراني انتقامًا لمقتل قائد (فيلق القدس)، (قاسم سليماني)، ورئيس البرنامج النووي الإيراني (محسن فخري زاده)، هاجمت إيران العديد من السفن التجارية المملوكة لإسرائيل، وغير المملوكة لها ولكنها تحمل شحنات مخصصة لها، في البحر الأحمر وغرب المحيط الهندي والخليج الفارسي. على سبيل المثال، في 25 فبراير 2021 هاجمت قوات الحرس الثوري الإيراني، سفينة نقل السيارات «هيليوس راي»، المملوكة لرجل الأعمال الإسرائيلي (رامي أنجر)، وفي 24 مارس 2021، تعرضت سفينة الحاويات «لوري»، المملوكة لشركة باناماكس، والتي تديرها الشركة الإسرائيلية XT، وفي 13 أبريل 2021، تعرضت عبارة «هايبريون راي»، التابعة لرجل الأعمال الإسرائيلي (رامي أنجر)، لهجوم من قبل قوات الحرس الثوري الإيراني. وبلغت الأمور ذروتها في 30 يوليو 2021، عندما تعرضت ناقلة النفط اليابانية «Mercer Street»، – المملوكة لشركة «زودياك ماريتايم»، والتي تديرها الإسرائيلية «إيال عوفر» – لهجوم بطائرات إيرانية بدون طيار بالقرب من ساحل عمان، وعلى إثر ذلك الهجوم قُتل أثنان من أفراد الطاقم (من الجنسيتين البريطانية والرومانية).
تعكس هذه الهجمات تطور القدرة البحرية الإيرانية التي مكّنتها من إلحاق الضرر بأهداف الشحن أو طرق الشحن من وإلى إسرائيل في نقاط مختلفة في الشرق الأوسط، كما كان الحال في الهجمات السابقة، أيضًا ساهمت الحرب الأهلية في اليمن، في تكثيف التهديدات التي يتعرض لها الشحن الإسرائيلي. كما أدت أنشطة إيران في القرن الأفريقي ضد منافسيها إلى رفع مستوى التهديد لإسرائيل في المنطقة.
ومن ثم، استطاعت إيران أن تمثل تهديدًا داخل المجال البحري لإسرائيل، اعتمادًا على حرية الوصول إلى البحر الأحمر أو في شرق البحر الأبيض المتوسط، خاصة في ظل سعيها لتطوير الفرع البحري للحرس الثوري وتركيزه على الحرب غير المتكافئة والتكتيكات العملياتية، التي تقوم بها عبر وكلائها من خلال إطلاق الصواريخ والطائرات بدون طيار، أو عبر قدرتها الصاروخية الباليستية التي تمكنها من استهداف العمق الإسرائيلي.
5 – هشاشة الدول المشاطئة للبحر الأحمر وتصاعد الاقتتال الداخلي
تعاني معظم الدول التى تحيط بالبحر الأحمر من هشاشة الأوضاع الداخلية، من ناحية تعرض بعضها لحالة نزاع مسلح واقتتال داخلي كما في الحالة اليمنية، أو تنشط فيها جماعات إرهابية كدولة الصومال، أو تعانى من التدهور الاقتصادي وغياب البنية الأساسية، كإريتريا وجنوب السودان، هذا فضلًا عن متغيرات السياق التي يشهدها محيط البحر الأحمر، من ناحية تصاعد دور الفاعلين من غير الدول (Non-state actors)، وتعدد تدخلات الأطراف الدولية والإقليمية، عبر تأسيس المزيد من القواعد العسكرية على غرار تلك الموجودة في جيبوتي والصومال وإريتريا. وبالتالي، تحفز هذه المتغيرات تحويل منطقة البحر الأحمر إلى ساحة للتنافس الإقليمي والدولي؛ لتعزيز النفوذ من ناحية، وتأمين المصالح في إطار حركة التجارة العالمية التي تمر عبر الممرات الملاحية في تلك المنطقة، من ناحية أخرى، خاصة في ظل تصاعد التهديدات الأمنية من عمليات إرهابية وقرصنة نتجت عن هشاشة الأوضاع الداخلية لبعض الدول المشاطئة، بالإضافة إلى عدم قدرة الدول المستقرة على تأسيس نظام فعال للأمن الجماعي، ومن ثم، فقد تؤدي هذه الأوضاع إلى مزيد من عسكرة البحر الأحمر بشكل سيكون له تداعياته على الأمن الإقليمي، ومصالح الدول المشاطئة، خاصة إذا ما تعارضت مع مصالح القوى الدولية والإقليمية المتدخلة.
6 – زيادة التوترات الإقليمية في شرق البحر الأبيض المتوسط والتنافس على الموارد
قادت الاكتشافات النفطية الضخمة في حوض شرق المتوسط إلى زيادة التوترات الإقليمية نظرًا لعمليات الاستكشاف التي تجريها بعض الدول في المياه الاقتصادية للدول الأخرى، وزيادة التنافس الإقليمي على الموارد النفطية في تلك المناطق. وقد برز ذلك بشكل واضح في التوتر الناشئ خلال عام 2020 بين أنقرة وأثينا، والذي وصل إلى حدوث احتكاكات عسكرية؛ نتيجة احتدام التنافس حول الموارد النفطية في المياه الاقتصادية، وخاصة تلك المرتبطة بجزيرة قبرص (التي تملك احتياطات غاز تقدر بنحو 8 تريليون قدم مكعبة). على سبيل المثال، قامت تركيا بعمليات تنقيب للغاز في حوض “لفونتان” المتنازع عليه، وأرسلت في 10 أغسطس 2020 سفينة حربية “أوروس رايس” مصحوبة بتعزيزات عسكرية أخرى إلى جزيرة “كاستلوريزو” اليونانية. وهو ما أطلق عملية تحشيد عسكرية أوروبية في تلك المنطقة، حيث أرسلت فرنسا في 26 أغسطس 2020 طائرات حربية إلى قبرص تضامنًا مع اليونان، هذا فضلًا عن اتفاق كل من قبرص واليونان وفرنسا وإيطاليا على تكثيف تواجدها في شرق البحر المتوسط في إطار ما يُسمى “المبادرة الرباعية للتعاون”.
أيضًا يثير النزاع الحدودي البحري بين إسرائيل ولبنان -والذي وإن تم تخفيف حدته عبر الاتفاق الذي جرى توقيعه بوساطة أمريكية في 27 أكتوبر 2022 – بعض الاضطرابات وعدم الاستقرار في تلك المنطقة، خاصة وأن هذا الاتفاق ولد هشًا، ولا تضمن تل أبيب استدامته أو على وجه التحديد استدامة الالتزام الأمني لحزب الله بعدم استهداف حقل كاريش، خاصة إذا ما تدهورت الأوضاع الأمنية على الجبهة الشمالية ودخل حزب الله على خط المواجهة مع إسرائيل جراء ضرباتها المتكررة في سوريا ضد قواته هناك، وهو ما يجعل حقول النفط الرئيسة لتل أبيب على غرار حقلي “تمار وليفياثان” القريبان من الحدود اللبنانية في مرمى نيران حزب الله. هذا فضلًا عن الاستهداف المحتمل من جانب حركة حماس لتلك الحقول النفطية القريبة من حدود غزة، وهو ما حدث خلال عملية “حارس الأسوار” التي اطلقتها إسرائيل في مايو 2021 حيث أطلقت حماس صواريخ على منصة “تمار”، وأطلقت مركبة جوية وغواصة بدون طيار اعترضتها تل أبيب.
هنا تجدر الإشارة إلى أنه من شأن تعزيز الوجود البحري الإيراني على طول الشواطئ الشامية، أن يثير القلاقل خاصة في ظل التوجه المحتمل لأمين عام حزب الله حسن نصر الله، لإسناد عملية اكتشاف واستخراج الغاز الطبيعي داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لجنوب لبنان، إلى شركة طاقة إيرانية. ووفقًا لنصر الله، لن تجرؤ إسرائيل على مضايقة الأنشطة الإيرانية المتعلقة بالطاقة في المنطقة.
وبالتالي، من شأن هذه المعطيات أن تزيد من عسكرة شرق المتوسط في إطار التنافس على الموارد، وموازنة النفوذ، خاصة في ظل تعزز النفوذ الروسي من خلال قاعدتها البحرية (طرطوس) في سوريا، وهو ما قد يفضى إلى تصاعد التهديدات الأمنية تجاه الدول صاحبة المصالح في حوض شرق المتوسط.
7 – تراجع الحضور الأمريكي في النطاق العملياتي لشرق البحر الأبيض المتوسط
تسبب التراجع الأمريكي في الشرق الأوسط بشكل عام، وشرق المتوسط بشكل خاص، في زيادة درجة التهديد لإسرائيل؛ نظرًا لحالة الانكشاف التي أصبحت عليها الأهداف الإسرائيلية في هذه المناطق، حيث إن الانسحاب الأمريكي أو إعادة نشر القوات البحرية، حتى لو كان جزئيًا، سيفتح البحر الأبيض المتوسط أمام منافسة خطيرة سيكون لها تأثير على الأمن البحري لجميع دول المنطقة.
وقد بدأ هذا التراجع منذ إعلان الرئيس (أوباما) عن الاستراتيجية الأمريكية «إعادة التوازن نحو شرق آسيا» أو «محور آسيا» (Pivot to Asia) في عام 2011، وهو ما أدى بدوره إلى تقليص نشاط البحرية الأمريكية ومشاركتها في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث قام الأسطول السادس بتشغيل 14 سفينة فقط في أغسطس 2021، وقد يفسر تراجع الاهتمام الأمريكي بهذه المناطق؛ نتيجة توجهها إلى إعادة الانتشار في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لموازنة النفوذ الصيني المتنامي، بالإضافة إلى انخفاض اعتمادها على نفط الشرق الأوسط، الذي أدى إلى تضاؤل الأهمية الجغرافية والاقتصادية والجيوسياسية للمنطقة بالنسبة للولايات المتحدة بشكل كبير.
وقد تقود هذه الاستراتيجية الأمريكية حلفاء واشنطن الإقليمين للبحث عن بدائل، وتأمين مصالحهم عبر تصفير المشاكل مع مراكز التهديد، وهو ما نراه في الوقت الراهن عبر محاولات تطبيع العلاقات التي تقوم بها السعودية مع طهران، خاصة وأن هذا يأتي في ظل تعزز القناعة بعدم قدرة إسرائيل على لعب دور «شرطي المنطقة» كبديل للولايات المتحدة، وتجلى ذلك بشكل واضح في تعامل تل أبيب مع إيران خلال التصعيد البحري في إطار «حرب الظل» التي تخوضها ضدها؛ حيث تعرضت السفن الإسرائيلية وشركائها لهجمات إيرانية، وهو ما كشف عن قصور تل أبيب في حماية مصالحها ومصالح شركائها، نتيجة تعاملها مع الحملة البحرية ضد إيران من منظور التفكير العملياتي دون دراسة الآثار الاستراتيجية للرد المحتمل من جانب إيران، وكشفت عن ذلك شركات الشحن التي اُستُهدفتَ ناقلاتها، عندما لجأت إلى السلطات المختصة في إسرائيل للحصول على تعليمات حول كيفية التصرف في ظل هذا الوضع.
أيضًا تسعى تل أبيب للتقارب مع بكين فيما يتعلق بعمليات تطوير وتشغيل موانئها، حيث أسندت إدارة الميناء الجديد في ميناء حيفا إلى شركة صينية، هذا فضلًا عن مسار آخر يتجه إليه حلفاء واشنطن من ناحية تعزيز التقارب فيما بينهم لمواجهة التهديدات المشتركة، على غرار التقاربات فيما بين إسرائيل والسعودية، وكذلك إسرائيل وتركيا مؤخرًا.
ثالثًا: ركائز التحرك الإسرائيلي لمواجهة التهديدات البحرية
وفقًا لخريطة التهديدات السابقة، التي غلب على معظمها البعد الأمني، طورت إسرائيل سياستها العسكرية البحرية لمواجهة تلك التهديدات دون أن يكون ذلك مشمولًا في استراتيجية بحرية كبرى، وذلك وفقًا لركائز الحركة التالية:
1 – التنسيق العملياتي مع القيادة المركزية الأمريكية وتأمين الدعم
نظرًا لتجاوز الحملة البحرية في جنوب البحر الأحمر وبحر العرب، وكذلك شرق المتوسط، القدرات البحرية المستقلة للبحرية الإسرائيلية، قررت تل أبيب تكثيف تعاونها مع الأسطول الخامس للولايات المتحدة والقيادة المركزية، واتجهت إلى تعزيز علاقاتها مع الجيش الأمريكي في منتصف يناير 2021، قبل عدة أيام من تنصيب الرئيس الأمريكي (جو بايدن)؛ حيث قررت إدارة ترامب في ذلك الوقت نقل إسرائيل من القيادة الأوروبية (EUCOM) إلى القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM)، والتي من الناحية الجغرافية ستجعل المصالح الإسرائيلية في الشرق الأوسط ومناطقها البحرية أكثر ارتباطًا للاستراتيجية العسكرية الأمريكية والتخطيط.
وفي 30 سبتمبر 2021 قام وزير الخارجية الإسرائيلي -آنذاك- يائير لابيد، أثناء قيامه بأول زيارة عمل له إلى البحرين، بزيارة سفينة الإنزال الأمريكية «يو إس إس بيرل هاربور» في مقر الأسطول الخامس للبحرية الأمريكية، والتقى بقائد القوات البحرية للأسطول الخامس، براد كويبر، وأكد أن الولايات المتحدة وإسرائيل والبحرين لديهما «مصالح مماثلة في المنطقة».
بعد عدة أيام، زار كويبر، إسرائيل والتقى مع كبار المسؤولين، بما في ذلك وزير الدفاع -آنذاك- (بيني غانتس)، ورئيس الأركان -آنذاك- (أفيف كوخافي)، وقائد البحرية الإسرائيلية (ديفيد ساعر)، الذي قال إن «الأسطول الخامس هو شريك استراتيجي مهم للبحرية الإسرائيلية، وإن الأسطول الخامس ملتزم بأمن دولة إسرائيل، ونحن ملتزمون بهما بشكل متبادل». وقال كوبر: «التزامنا تجاه إسرائيل لا يتزعزع، وهذه الزيارة سلطت الضوء على أهمية علاقتنا الاستراتيجية التي دامت عقودًا»، مضيفًا «أن اصطفاف إسرائيل مؤخرًا مع القيادة المركزية الأمريكية يفتح فرصًا جديدة؛ لتعميق علاقاتنا البحرية وتعزيز الأمن والاستقرار البحري الإقليمي».
ووفقًا لذلك التعاون والتنسيق المشترك بين الجانبين، فقد شهدت القوات البحرية الإسرائيلية وقوات الأسطول الخامس، القيام بمناورة بحرية دولية تحت عنوان «الحارس الضروري» في إسرائيل، في مارس 2022، بعدد من المواقع، شملت: خليج حيفا، خليج إيلات، وفي البحر الأحمر. كما أدرجت قيادة الأسطول الخامس الأمريكي مستوى المخاطر والتهديدات في جنوب البحر الأحمر على جدول أعمالها، وقررت إرسال كاسحتى ألغام إلى جنوب البحر الأحمر – «يو إس إس جلاديتور (إم سي إم 11)»، و»يو إس إس سينتري (إم سي إم 3)» – اللتين عبرتا مضيق باب المندب في 18 أكتوبر 2021. وتهدف هذه السفن إلى تطهير وتحييد الألغام البحرية التي يزرعها الحوثيون بشكل عشوائي بالقرب من مضيق باب المندب وبالقرب من الموانئ والجزر السعودية في البحر الأحمر.
وفي فبراير 2022، شاركت البحرية الإسرائيلية لأول مرة في أكبر مناورة بحرية دولية في العالم “IMX”. التي قادها الأسطول الخامس الأمريكي بمشاركة 60 بحرية دولية في البحر الأحمر والمنطقة البحرية البحرينية في الخليج.
2 – تطوير التعاون مع القوات الأمريكية في إطار مبادرات عسكرية جديدة
في إطار تراجع الحضور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، لصالح تعزيز تواجدها في شرق آسيا، فإن واشنطن تسعى لتعويض هذا التراجع من خلال إطلاق مبادرات عسكرية جديدة ترتكز على نمط قوة المهام (*) على مستوى الأسلحة المختلفة (الجوية، البحرية، الدفاع الجوي)، وذلك من خلال زيادة الاعتماد على الأنظمة غير المأهولة والذكاء الاصطناعي. وفي سبيل ذلك، طوّرت القوات العسكرية الأمريكية عددًا من الأساليب المبتكرة في شكل مبادرات مثل «قوة المهام 59»، التي أطلقتها في سبتمبر 2021؛ لدمج أنظمة الذكاء الاصطناعي غير المأهولة مع العمليات البحرية، من خلال اكتساب الوعي بالمجال البحري وزيادة الردع في منطقة عمليات «الأسطول الخامس».
وفي هذا الصدد استضافت «البحرية الأمريكية» تمرين «الأفق الرقمي» في البحرين (نوفمبر-ديسمبر 2022)، كما أقامت شراكة مع إسرائيل والأردن والسعودية من أجل إجراء تمارين تتضمن شبكة متداخلة -وهي مجموعة مترابطة من أجهزة الاستشعار التي تنقل البيانات في الوقت الفعلي، بعد دمجهما معًا من خلال منصات تكامل البيانات والذكاء الاصطناعي- وذلك لتوفير صورة أوضح عن بيئة العمليات.
3 – تطوير مفهوم «الابتكار العسكري» كاستجابة استراتيجية للمستوى السياسي الإسرائيلي
إن فحص العملية التي أدت إلى تسليم ألمانيا غواصات دولفين إلى إسرائيل يُظهر أن السياسيين الإسرائيليين، وخاصة رؤساء الوزراء ووزراء الدفاع، قادوا إلى مفهوم عسكري مبتكر للحفاظ على مجموعة من الغواصات التي من شأنها أن توفر رادعًا مستمرًا في البحر، حيث أدرك هؤلاء السياسيون أن الحاجة إلى الغواصات كنظام استراتيجي أمر حيوي لإسرائيل، على الرغم من الاعتراضات الصاخبة من قادة الجيش، الذين فضلوا استثمار الموارد في مكان آخر.
وفي عام 2002 قرر رئيس الوزراء -آنذاك- أرييل شارون، ووزير الدفاع شاؤول موفاز، توسيع أسطول الغواصات من ثلاث إلى خمس سفن، وهذا القرار نظر إليه المستوى السياسي بأهمية قصوى، رغم مقاومة رئيس الأركان -آنذاك- (دان حالوتز)، لاعتبارات الحفاظ على قدرة رادعة مستمرة في البحر، أي بمعنى القدرة على الاحتفاظ بغواصة تشغيلية واحدة على الأقل في البحر في جميع الأوقات.
تعكس هذه التوجهات السياسية أهمية الفرع البحري بالنسبة لتل أبيب باعتباره الخيار الرئيسي للرد والردع، خاصة في حالة إذا ما واجهت تهديدًا صاروخيًا شديدًا، وفي الوقت نفسه لديها محدودية من الحقول الجوية. ويبرز التعارض هنا بين الاعتبارات العملياتية للجيش الإسرائيلي، التي تركز على كسب معارك الحرب القادمة، والاعتبارات الاستراتيجية السياسية، التي تنشغل بمسألة أمن الدولة العبرية واستمرارها، وهو ما جعل تقييم غواصات دولفين بشكل مختلف في أولويات المستوى السياسي عنها في أولويات المستوى العسكري. وفي ضوء الاكتشافات النفطية لإسرائيل في حوض شرق المتوسط من خلال حقلي «تمار وليفياثان» اللذان يمتلكان احتياطات ضخمة من الغاز الطبيعي، قررت الحكومة الإسرائيلية في عام 2013 أن الجيش الإسرائيلي، وتحديدًا سلاح البحرية، سيكون مسئولًا عن حماية تلك المناطق. ونتيجة لهذه المسؤولية الجديدة عززت تل أبيب مشترياتها البحرية لأربعة طرادات ساعر 6 من ألمانيا.
4 – التعاون الإقليمي حول تأمين المناطق البحرية
تسعى إسرائيل إلى تعزيز تعاونها الإقليمي عبر الساحة البحرية، فرغم إنها ليست لاعبًا في البحر الأحمر بالمقارنة مع الأصول التي تمتلكها في البحر الأبيض المتوسط، إلا أن لديها اهتمام بما يحدث في البحر الأحمر، لذا سعت خلال السنوات الماضية إلى إيجاد أرضية مشتركة مع الدول الإقليمية على غرار المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، في إطار التهديد المحتمل من جانب الحوثيين والإيرانيين في جنوب البحر الأحمر. ووفقًا لتقديرات الباحثين الإسرائيليين، التي جاءت في تقرير التقييم الاستراتيجي البحري لإسرائيل لعام (2021 – 2022)، الصادر عن مركز أبحاث حيفا للسياسة والاستراتيجية البحرية، فإن تل أبيب تسعى إلى الاستفادة من الانتشار العسكري الإماراتي في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن من أجل مراقبة الحركة البحرية في المنطقة. وأن إسرائيل تنظر للتحالفات العسكرية والاقتصادية المرتبطة بالبحر الأحمر، والتي أقيمت في إطار مبادرات سعودية في السنوات الأخيرة، وتتجه بوصلتها نحو شرق أفريقيا، أن تكون بمثابة منصة للتعاون الإقليمي كمكمل لاتفاقات آبراهام. وهو ما سيسهل مهمة تل أبيب في تحقيق هدفها المرتبط بالاعتراف بوضعها في البحر الأحمر. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الحوثيين زعموا أن إسرائيل لها وجود في جزر حنيش في جنوب البحر الأحمر، وفي جزيرة مايون في مضيق باب المندب وفي جزيرة سقطرى.
5 – تعزيز الحضور بمنطقة القرن الأفريقي
تسعى إسرائيل إلى تأمين مصالحها من خلال تعزيز بدائل الحركة في المناطق الجغرافية المختلفة، من أجل كسر حالة العزلة المفروضة عليها من ناحية، وتعزيز النفوذ من ناحية أخرى، وهو ما ينعكس خلال تحركاتها في السنوات الماضية من أجل اختراق منطقة القرن الأفريقي وتطبيع العلاقات مع دول الممانعة لحضورها، فجاء التقارب مع دولة السودان «صاحبة اللاءات الثلاث للتطبيع مع إسرائيل»، وتم الاتفاق على الخطوط العريضة لاتفاق السلام بين الجانبين، خلال زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي «إيلي كوهين» للخرطوم في فبراير 2023، وكان من المزمع توقيع اتفاق نهائي في واشنطن خلال الشهور القادمة، بعد نقل السلطة في السودان إلى حكومة مدنية، بحسب ما أعلنته وزارة الخارجية الإسرائيلية.
رابعًا: المتغيرات الراهنة والتأثيرات المحتملة على المصالح العربية
تعكس متغيرات السياق الراهن لبيئة التفاعل الإقليمي والدولي حول المناطق البحرية للبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، درجة من التعقيد المتولدة؛ نتيجة التشابك المصلحي بين فريق من الفاعلين وتعارضها في نفس الوقت مع مصالح فريق آخر، وهو ما يفرض حالة من التنافسية الشديدة التي شهدت في السنوات الماضية مزيدًا من العسكرة من خلال التنافس على تأسيس قواعد عسكرية، ومراكز ارتكاز في الدول المشاطئة، أيضًا تشهد محركات الصراع في المنطقة تحولًا ملحوظًا ارتبط بتحولات النسق الدولي وسعي القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة، لإعادة رسم خرائط النفوذ في مناطق مصالحها الحيوية من أجل موازنة نفوذ القوى الصاعدة كروسيا والصين. هذا بالإضافة إلى محاولة القوى الوسيطة، مثل إيران؛ لتأمين مساحة حركة لحماية مصالحها، وتعزيز نفوذها، في مواجهة نفوذ القوى الكبرى.
وقد قادت هذه العوامل مجتمعة إلى عدد من التداعيات، التي كان لها تأثيرها الواضح على المصالح العربية، يتمثل أولها، في نشوء حالة من عدم الاستقرار الأمني في تلك المناطق، وتطور النزاعات المسلحة التي تحولت إلى ساحة حرب باردة، و»حروب بالوكالة» بين هذه القوى المتداخلة، ولعل النموذج الأبرز في هذا الصدد «الحرب اليمنية» والتي تقترب من العقد من الزمن منذ بدايتها في عام 2014؛ حيث تحولت إلى حرب بالوكالة بين إيران والقوى الإقليمية الأخرى، مثل السعودية والإمارات. هذا إلى جانب «حرب الظل» التي تشنها تل أبيب ضد طهران وشملت نطاق البحرين كساحة للمواجهة خلال الأعوام القليلة الماضية، والتي ألقت بظلالها على حركة الملاحة والتجارة الدولية، وعلى وجه التحديد تجارة النفط العربية. ثانيها، تفسخ وهشاشة أوضاع بعض الدول العربية المشاطئة لمنطقة البحر الأحمر التي شكلت بيئة خصبة لتصاعد أدوار الفاعلين من غير الدول، ونشاط التنظيمات الإرهابية في هذه البيئة الرخوة. ثالثها، تزايد التدخلات الدولية والإقليمية بذريعة حماية الممرات الملاحية والتجارة الدولية. رابعها، مزيد من عسكرة المجال البحري في تلك المناطق، عبر تأسيس العديد من القواعد العسكرية للقوى الإقليمية والدولية المتنافسة. خامسها، بروز توجه دولي لعدد من القوى الدولية؛ لتطوير طرق تجارة برية بديلة، وكان آخرها طريق «رشت-استار» كجزءًا من خطط إقامة ممر نقل دولي يربط بين الشمال والجنوب؛ حيث وقع الرئيس الروسي، بوتين، ونظيره الإيراني، رئيسي، في 17 مايو 2023، اتفاقًا؛ لتمويل وإنشاء خط للسكك الحديدية بطول 162 كم؛ ليكمل الممر الشمالي الجنوبي من بندر عباس إلى رشت، ثم إلى أستارا الإيرانية، وعند اكتماله سيتم ربط إيران بروسيا وشمالي أوروبا عبر أذربيجان.
وبالتالي، تفرض هذه التحولات المتسارعة ضرورة تطوير «مقاربة عربية» تنطلق من منظور المصالح العربية للحفاظ من ناحية، على الهوية العربية لمنطقة البحر الأحمر؛ حيث إن معظم الدول المطلة عليه هي دول عربية (مصر، السعودية، الأردن، السودان، اليمن، جيبوتي، الصومال)، في مواجهة المشروعات التي تستهدف تدويل تلك المنطقة، وفي القلب منها المشروع الإسرائيلي، الذي سيسمح لتل أبيب كسر عزلتها والحصول على اعتراف بوضعها في البحر الأحمر، وهو ما تعمل عليه في الوقت الراهن عبر الاختراقات التي حققتها -دون أن تكتمل حتى الآن- في القرن الأفريقي، على غرار اتفاق السلام مع السودان والذي تم الاتفاق على بنوده دون التوقيع بشكل نهائي، بالإضافة إلى حصولها على عضوية مراقب في الاتحاد الأفريقي، قبل تعليقها في فبراير 2023.
من ناحية أخرى، تجنيب دول المنطقة من جرها إلى صراع مع إيران، وهو ما تسعى إلى تحقيقه إسرائيل من خلال تصعيدها لـ«حرب الظل» التي امتدت في الأعوام الماضية إلى الساحة البحرية لكل من حوض البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، ونتج عن ذلك تعرض بعض ناقلات النفط العربية لهجمات من جانب إيران، هذا فضلًا عن تأمين المصالح العربية في الثروات النفطية المكتشفة في حوض شرق المتوسط من أطماع القوى الإقليمية على غرار تركيا وإسرائيل، حيث ظلت الأخيرة في نزاع حدودي مع لبنان حول مناطق المياه الاقتصادية، التي تضم احتياطات ضخمة من الغاز الطبيعي.
ختامًا، رغم صعوبة هذا الطرح بإنشاء «نظام عربي فعال للأمن الجماعي» من الناحية العملية؛ نظرًا للتدخلات الإقليمية والدولية المتزايدة في المنطقة، والاتجاه إلى عسكرة هذا التواجد، هذا فضلا عن عدم رغبة غالبية الدول المشاطئة في الانضمام إلى هياكل مؤسسية ترى فيها انتقاص من سيادتها لصالح الدولة التي ستقود هذا الإطار المؤسسي، إلا أن الظرف الراهن من ناحية تعقيدات المشهد وفقًا للمعطيات السابقة، يشكل فرصة؛ لتعزيز رؤية عربية مشتركة بشأن التهديدات والآليات المناسبة لحماية مصالحها الحيوية في تلك المناطق. وقد يساعد في ذلك حالة «الانفراجة» الحادثة في الوقت الراهن في مشهد العلاقات الإيرانية – العربية، والتي توجت مؤخرًا بالاتفاق على تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران مرة أخرى بعد انقطاع دام لسبع سنوات (منذ 2016).
مهاب عادل حسن – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية