كان 2022 عامًا مليئًا بالاكتتابات العامة الأولية التي تضاعفت عددًا وقيمة في الأسواق الخليجية، وسجلت رقمًا قياسيًا في منطقة الشرق الأوسط بلغ 51 اكتتابًا جمع 22 مليار دولار أمريكي، لتستضيف الإمارات منذ أيام قليلة النسخة الأولى من قمة الاكتتابات العامة الأولية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث اصطفت المؤسسات الاستثمارية والشركات العائلية والناشئة للاستحواذ على المزيد من الأعمال الإقليمية في المنطقة، خاصة في إماراة دبي، الوجهة المفضلة للبنوك ورجال المال والأعمال الذين يتطلعون إلى الفرص الإقليمية، لكن اللاعب الرئيسي الذي يجب مراقبته حاليًّا هو حليفتها الرياض.
لطالما راودت الرياض طموحاتها بأن تصبح مركزًا ماليًا إقليميًا كبيرًا، لكن هذه الجهود كانت محبطة في الغالب، حتى اتخذت في السنوات الأخيرة خطوات قد تضعها في منافسة مباشرة مع جارتها الخليجية الأصغر، التي جعلتها مناطقها المعفاة من الضرائب مثل جبل علي مركزًا إقليميًا للشركات متعددة الجنسيات.
الخطوة الأهم في طريق المنافسة بين الحليفين الإقليميين تشير إلى أنه في اليوم الأخير من هذا العام (2023) تصبح الشركات أو المؤسسات التجارية العالمية التي لا تمتلك مقرًا إقليميًا في الرياض محرومة من العقود الحكومية، فكم شركة ستغادر دبي إلى جارتها الحليفة؟ وكم شركة سترفض المغريات السعودية وتنحاز للمدينة التجارية الأكبر والأشهر بالشرق الأوسط؟
خطة ابن سلمان من الجزرة إلى العصا
منذ عام 2017، تعهد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بفتح اقتصاد المملكة أمام الاستثمارات الأجنبية، وقاد حملة لإقناع الشركات متعددة الجنسيات من جوجل (Google) إلى “سيمنز” (Siemens) بنقل مقراتها الإقليمية المالية من دبي إلى الرياض، في وقت تكافح فيه اقتصادات الخليج بسبب الوباء وحرب روسيا على أوكرانيا وانهيار أسعار النفط.
تسلط الحملة الضوء على كيفية استخدام المملكة، صاحبة أكبر اقتصاد في الخليج، لنفوذها المالي لزيادة المنافسة مع جارتها الخليجية الإمارات، مركز التجارة والتمويل والسياحة الإقليمي.
لتعزيز ذلك بدأت بمبادرة أطلق عليها “المقر الرئيسي” لتعزيز الاستثمار الأجنبي ودعم “رؤية 2030” لترسيخ المملكة كمركز أعمال إقليمي، وجذب مستأجرين رئيسيين دوليين إلى مركز الملك عبد الله المالي، وهو مشروع تطوير ضخم يضم 59 ناطحة سحاب في شمال الرياض، لكنه يفتقر إلى المستأجرين.
في إطار المبادرة، قدم ابن سلمان إغراءات للشركات الأجنبية الرائدة في قطاعات مثل تكنولوجيا المعلومات والخدمات المالية والنفطية للانتقال إلى الرياض، وتشمل إعفاءات ضريبية طويلة الأمد والتنازل عن حصص توظيف السعوديين – التي ثبت أنها عبء على الشركات – لما لا يقل عن 10 سنوات، وضمانات الحماية ضد اللوائح المستقبلية.
وبحسب نشرة “استثمر في السعودية” التي تشرف عليها وزارة الاستثمار، فإن الشركات سوف تتمتع بأفضلية في المناقصات وعقود الهيئات الحكومية، وتسهيلات كبيرة فيما يخص إجراءات التأشيرات والكفالة للموظفين الأجانب، وحصول الشركات على خدمات إعادة تموضع وإصدار أسرع للتراخيص وقواعد ميسرة لتصاريح العمل للأزواج.
رغم كل هذه الإغراءات، لم تتحمس الشركات كثيرًا تجاه “المقر الرئيسي”، فتحولت سياسة المملكة من “الجزرة” إلى “العصا”، وجاء قرار وقف التعامل مع أي شركة أو مؤسسة تجارية أجنبية لها مقر إقليمي في المنطقة خارج السعودية بدايةً من عام 2024، وهذا يعني أن الشركات أمامها أقل من عام لتصبح السعودية مكانًا لمقراتها الإقليمية.
السبب المعلن وراء القرار الاقتصادي الأقوى في منطقة الخليج، الذي اتخذته السعودية مطلع العام 2021، يتمثل في “خلق آلاف الوظائف وجذب الاستثمارات” كما يقول وزير الاستثمار السعودي خالد الفاتح، ويهدف إلى الحد من التسرب الاقتصادي ورفع كفاءة الإنفاق وضمان أن المنتجات والخدمات التي تشتريها المؤسسات الحكومية تُنفذ على أرض المملكة وبمحتوى مناسب، وفق ما نقلت وكالة الأنباء السعودية عن مصدر حكومي.
لكن القرار السعودي فسره المحللون بأنه أحدث محاولة لدولة محافظة دينيًا، لإعادة تشكيل نفسها كمحور مالي وسياحي تحت قيادة الحاكم الفعلي للمملكة محمد بن سلمان، ويحمل إشارة للشركات الموجودة في الإمارات بضرورة التواجد في السعودية وإلا خسروا فرصًا تقدر بتريليونات الدولارات في أكبر أسواق مجلس التعاون الخليجي، وفقًا لمحلل العلاقات الدولية، بوبي غوش في مقال نشرته وكالة “بلومبيرج” الأمريكية.
أثار القرار جدلاً واسعًا في الأوساط الخليجية، واعترض المدير العام السابق للدائرة المالية في دبي ناصر الشيخ على القرار، لأن تحرك الرياض يتناقض مع مبادئ السوق الخليجي الموحدة، وأن التجارب العالمية – كما يقول – أثبتت أن الجذب القسرى للشركات الاقتصادية غير مستدام.
وعن المخاوف التي برزت بأن يؤثر قرار السعودية على إمارة دبي، غرد نائب رئيس شرطة دبي ضاحي خلفان متوقعًا أن يضر قرار إلزام الشركات العالمية بفتح مكاتب لها في المملكة أو مقاطعتها بدول خليجية أخرى أضعف اقتصاديًا بكثير من الإمارات.
لكن وزير المالية السعودي محمد بن عبد الله الجدعان برر القرار بأن المملكة لديها اليوم أكبر اقتصاد في المنطقة في حين أن نصيبها من المقار الإقليمية لا يتجاوز نسبة 5%، بينما نسبة تسويق منتجات هذه الشركات ضمن المملكة يصل إلى قيمة تفوق 500%، وذكر في تصريحاته لوكالة “رويترز” أن القرار يهدف إلى جذب أكبر عدد من الشركات العالمية للاستثمار في السعودية لتوفير فرص عمل للسعوديين وتنويع الاقتصاد المعتمد على النفط.
هل تغير الرياض قواعد اللعبة؟
تفضل شركات عالمية كثيرة الإمارات كنقطة انطلاق لنشاطها الإقليمي، فهي الدولة الخليجية المصنفة كمركز إقليمي لعمل الشركات الأجنبية والخليجية للوصول إلى أسواق المنطقة العربية والشرق الأوسط بشكل عام.
ومن بين الإمارات السبعة، تقع معظم المقرات الإقليمية في دبي، فهي المكان الملائم للتجارة والجاذب لملايين العمال الأجانب، والوجهة الأكثر تفضيلاً ورواجًا للشركات العالمية الكبرى وحتى وسائل الإعلام التي ترغب في إنشاء مقرات رئيسية إقليمية في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا.
في مارس/آذار 2017، قالت شركة أبحاث السوق “Infomineo” إن هناك زيادة بنسبة 17% في عدد الشركات التي تسعى إلى الوجود في المنطقة في عام 2016 مقارنة بعام 2015، مع كون دبي الوجهة الرائدة كمقر إقليمي لأكبر 500 شركة في العالم، بينها 196 شركة أسست شركاتها في دبي بالفعل مقارنة بـ167 في عام 2015.
وصلت دبي إلى هذه المكانة عبر قوانين وأطر مؤسسية وتشريعات وقواعد تنظيمية تحكم قواعد العمل فيها وتسهل بيئة العمل للشركات وتوفر امتيازات ضريبية وجمركية، كما أطلقت الحكومة مشروعات مهمة مثل مدينة دبي للإنترنت ومدينة دبي للإعلام ومركز دبي المالي العالمي ومركز دبي التجاري العالمي، بالإضافة إلى المناطق التجارية الحرة والمشروعات السياحية.
مقارنةً بأقرب منافسيها في المنطقة، وهي إمارة أبو ظبي، تحولت دبي إلى مركز أعمال إقليمي ورئيسي بميزانية تنافسية عالية دون وجود أي سوق للتصريف كما في السعودية، فالشركات الأجنبية العالمية تستخدم دبي كنقطة انطلاق لعملياتها الاقتصادية الإقليمية مستهدفة السوق السعودي من خارج المملكة، حتى إنك قد تجد قناة إعلامية تستهدف الجمهور السعودي لكن مقرها في دبي.
وتفضل الشركات دبي الأكثر ليبرالية ولديها بنية تحتية متطورة، بما في ذلك المدارس الجيدة، فحتى نهاية 2020، كان في الإمارات 3100 فرع لشركات أجنبية وخليجية، منها 123 مدرجة بسوق الأموال المالية، ووصلت أرباحها عام 2020 إلى نحو 12 مليار دولار.
يُظهر هذا النمو الكبير في فروع هذه الشركات بدء العودة القوية لنشاطها في دبي، الإمارة التي ظلت لسنوات تغرد منفردة في هذا المجال، حتى بدا مؤخرًا أن السعودية لم تكن متصالحة مع هذا الوضع، وكشفت عن خطتها لمزاحمتها في المشهد، ومن ثم تصبح الرياض المدينة الأهم في المنطقة من الناحية المالية والتجارية والاقتصادية، لكن رغبة السعوديين الأهم تتلخص في تحقيق هدفهم في وقت أسرع من الوقت الذي استغرقته دبي للوصول إلى مكانتها الحاليّة.
هل تستطيع الرياض المنافسة؟
بالنظر إلى الترتيب العالمي للعواصم العربية في قائمة أكبر المراكز المالية في العالم، نجد أن دبي تحتل المركز الأول عربيًا والـ17 عالميًا، تليها أبو ظبي في المرتبة الـ32 عالميًا، في حين تأتي الرياض في المرتبة الـ98، تسبقها كازابلانكا (54) والدوحة (57) والبحرين (81).
يبدو اتساع الفجوة بين دبي والرياض واضحًا، لذلك تسعى الأخيرة – باعتبارها عاصمة المملكة ذات الاقتصاد الأقوى والأكبر في المنطقة – إلى تقديم سلسلة من التحفيزات الاقتصادية لجذب الشركات بإغراءات اقتصادية تنافس فيها الإمارات الحاضن الأكبر للمقرات الإقليمية بنحو 150 شركة من أصل 200 شركة عالمية تتخذ من الشرق الأوسط مقرات إقليمية لها.
لكن في نفس الوقت فإن هذه الشركات في حاجة إلى استرضاء المسؤولين السعوديين المؤثرين، وهو ما يدفعها للتفكر في نقل وحدات الأعمال المختلفة – إن لم يكن إدارتها الإقليمية – إلى الرياض لتهدئة المخاوف السعودية، وفق ما قال مستشارون ومسؤولون تنفيذيون لصحيفة “فاينينشال تايمز”.
يعني هذا أن العلاقات بين السعودية والإمارات، وكلتاهما من أصحاب الاقتصاد الريعي، قد تشهد تنافسًا مستقبلاً على جذب المستثمرين والشركات بسبب تخفيض الاعتماد على الصادرات النفطية والاعتماد على تنويع مصادر الاقتصاد، ما سيضعهما في مسار تصادمي رغم كونهما حليفين مقربين.
يبدو أن هذا التصادم بدأ مبكرًا، ففي أواخر يناير/كانون الثاني 2021، وقعت 24 شركة عالمية اتفاقيات أولية لنقل مقراتها الإقليمية للرياض منها ديلويت (Deloitte) أكبر شركة خدمات مهنية بالعالم، وبكتل (Bechtel) أكبر شركة هندسية أمريكية، وبيبسيكو (Pepsico) أكبر شركة أمريكية للمشروبات، كذلك وافقت شركة أويو (OYO) الهندية للفنادق البالغ تمويلها مليار دولار.
بعد شهور قليلة، وفي أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام، وخلال فعاليات مبادرة الاستثمار التي عُقدت في الرياض تحت إشراف صندوق الاستثمارات السعودية (صندوق الثروة السيادية) الذي يترأسه محمد بن سلمان، حصلت 44 شركة عالمية على تراخيص بتأسيس مقراتهم الإقليمية في المنطقة بالعاصمة السعودية، بدءًا من شركة الإنشاءات الأمريكية “Bechtel” وشركة النقل الألمانية “Siemens”، إلى شركة “500 Startups”، أنشط شركات رأس المال الجريء في العالم، باستثمارات متوقعة بقيمة 67 مليار ريال سعودي (17.86 مليار دولار) للاقتصاد، وتوفير 30 ألف فرصة عمل بحلول عام 2030”.
بالنسبة لشركات أخرى، ربما يصعب إقناعها باختيار طرف على حساب طرف، ففي حين تفكر بعض الشركات في الحوافز السعودية، يجب أن تبحث الشركات العاجزة عن الذهاب عن حلول، ربما يكون الحل هو اعتماد مقرين إقليميين في دبي والرياض أو البقاء في دبي واختيار شريك سعودي ممثل للشركة أو العمل تحت اسمين تجاريين مختلفين، لذلك تسعى السعودية لتغيير الأوضاع.
هكذا تفكر السعودية في هذا القرار، ويفترض صانعه مثلاً أن هناك شركة أجنبية أعمالها في الخليج 100 مليون دولار سنويًا منها 10 ملايين في قطر والكويت و60 مليون في السعودية وحدها، هل تضحي هذه الشركة لصالح دولة ذات تقديرات أقل؟
بالطبع سوف تختار نقل مقرها الإقليمي إلى السعودية، فهي بحسب ما تراها بعض الشركات “مارد نائم يستيقظ”، وسوق استهلاكي يبلغ ثلاثة أمثال حجم الإمارات، وتغيرات في بلد ظل محافظًا، ومشاريع ضخمة مخططة بمئات المليارات من الدولارات، ومجتمع شاب سريع الحركة يتغير منذ 5 سنوات.
لكن المملكة ربما لا تعرف أن هناك صعوبات، ففي سجلها الرمادي حادث احتجاز الأمراء ورجال الأعمال في فندق “ريتز كارلتون” في العاصمة الرياض عام 2017، والقتل الوحشي للصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي عام 2018 على يد فريق من ضباط استخبارات سعوديين بأمر من ابن سلمان، بالإضافة إلى قرارات مفاجئة مثل زيادة القيمة المضافة إلى 3 أمثالها في عام 2020، وهو ما يفرض كلفة كبيرة على الشركات، بالإضافة إلى اتساع دائرة سياسة عدم الوضوح.
وتوازن الشركات الآثار المترتبة على نقل كبار المديرين التنفيذيين من دبي، بينما نحَّت العديد من الشركات الأخرى جانبًا أي مخاوف بشأن سمعة العمل في المملكة التي تشير إليها أصابع الاتهام بانتهاكات حقوق الإنسان وقمع حرية التعبير، وتزيد حرب اليمن ذات التكلفة المالية والبشرية الطين بلة، وهي حرب تستنزف مليارات الدولارات من الخزينة السعودية، ولا يُعرف متى ستنتهي ولا كيف.
وتعرف الشركات أن المد السياسي قد يتحول بسرعة في المملكة، وأن “البيزنس” يفتقد الحماية القانونية المستقلة عن السلطات، ذلك أن الجهة الرئيسية المتعاقدة معها هي الدولة نفسها، وفي هذه الحالة، لا يمكنها المطالبة بأموالها التي لم تدفعها الدولة.
لذلك استخدمت السعودية نفوذها المالي لرفع المنافسة مع دبي من ناحية، وتلميع صورتها الاجتماعية والحقوقية من ناحية أخرى، وفي سبيل ذلك، عمدت إلى تقديم إغراءات للشركات، مثل تخفيف القيود المفروضة على أسلوب حياة الناس كالسماح للمرأة بقيادة السيارة وفتح السينمات ودور العرض بعد غياب 35 سنة، حتى إن تقارير تتوقع تخفيف المنع الشامل للكحول على أراضيها.
هناك أيضًا محاولات لإصلاح النظام القضائي وتوفير بيئة معيشية مناسبة للوافدين من المدارس الدولية إلى الترفيه كما قال رئيس الهيئة الملكية للعاصمة السعودية فهد الرشيد، ففي أبريل/نيسان 2021، وقَّعت الهيئة شراكة مع مدرسة “King’s College” البريطانية لافتتاح أول مدرسة دولية في مدينة الرياض، وفي يوليو/تموز من نفس العام، وقعت وزارة الاستثمار والهيئة الملكية للرياض شراكة مع مجموعة “SEK” لافتتاح أول مدرسة لها في العاصمة.
فيما يتعلق بالبنية التحتية، أوشكت الرياض التي تشتهر بالطرق السريعة متعددة المسارات والمباني الخرسانية، على الانتهاء من تأسيس شبكة نقل بقيمة 27 مليار دولار، أهمها “قطار الرياض” المكون من 6 خطوط، كما يمثل مركز الملك عبد الله المالي المبني على مساحة 1.6 مليون متر مربع، ويوفر مليون متر مربع من المساحات المكتبية، حجر الزاوية في خطة السعودية لاجتذاب أكبر عدد ممكن من المقرات الإقليمية للشركات العالمية في المنطقة، وخاصة في الإمارات.
هذا بخلاف خطط لإنشاء عدد من المناطق الاقتصادية في المدينة، ففي أواخر أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، افتتح وزير النقل السعودي صالح الجاسر المنطقة الخاصة اللوجستية المتكاملة في الرياض على مساحة 3 ملايين متر مربع، وهي أول منطقة حرة من شأنها تعزيز دور المملكة كمركز لوجستي إقليمي يربط بين 3 قارات، وبحسب تصريحات الجاسر، ستكون شركة “أبل” الأمريكية أول مستثمر في هذه المنطقة بحصولها على مقر للتوزيع الإقليمي.
إجمالًا، أعلنت الحكومة السعودية من خلال صندوق الاستثمارات العامة والهيئة الملكية للرياض أنها تستثمر 220 مليار دولار لتحويل الرياض إلى مدينة عالمية بحلول عام 2030، وتتوقع جذب استثمارات مماثلة من القطاع الخاص.
في السعودية، بلغ حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة لعام 2020 نحو 4.6 مليار دولار، في حين سجلت تدفقات الاستثمار المباشر في الإمارات ما يقارب 14 مليار دولار، وهذا يعني أن المملكة بحاجة إلى رفع معدلات الاستثمار الأجنبي، لكن هذا القرار قد يحرم دولًا خليجيةً أخرى من المزايا الاستثمارية لاستضافة هذه الشركات.
كما تستثمر الهيئة الملكية في مشاريع تهدف إلى تحسين نوعية الحياة في العاصمة، من خلال زيادة المساحات الخضراء والمناطق الترفيهية وتركيب 1000 عمل فني في جميع أنحاء المدينة، ويخطط صندوق الاستثمارات العامة لاستثمار 3 تريليونات ريال (800 مليار دولار) في قطاعات جديدة على مدى السنوات العشرة المقبلة.
الأداة الأهم التي تستخدمها الرياض لإغراء الشركات العالمية، هي كونها أكبر سوق في منطقة الخليج، حيث يعيش ويعمل نحو 8 ملايين شخص، بالإضافة إلى امتلاكها المساحة الواسعة من الأراضي والطاقة الرخيصة والموانئ البحرية والصناعات الضخمة التي يمكنها توفير الكثير من مدخلات الإنتاج للمصنعين.
الرهان السعودي بين المبالغة والطموح
يريد ولي العهد السعودي أن تصبح الرياض واحدة من أكبر 10 اقتصادات في المدن على مستوى العالم في إطار إستراتيجيته للإصلاح الاقتصادي، وأن يصل عدد سكان الرياض إلى نحو 20 مليون نسمة، مع زيادة عدد الزوار إلى أكثر من 40 مليونًا بحلول عام 2030، كما قال خلال حديثه في مؤتمر مبادرة الاستثمار في المستقبل في المملكة يوليو/تموز الماضي.
لتحقيق ذلك، وضعت المملكة نصب عينيها بالفعل 7000 شركة على مستوى العالم لإقناعهم بافتتاح أو نقل مقراتهم إلى الرياض، وتستهدف خلال 10 سنوات جذب 480 مقرًا إقليميًا لشركات عالمية، وهذا رقم ضخم بالنظر إلى أن دبي تمتلك 140 مقرًا إقليميًا للشركات على مدار 3 عقود.
هذه الخطة السعودية يراها البعض مبالغ فيها، في حين يراها السعوديون خطة طموح تتناسب مع حجم وأهمية اقتصاد المملكة باعتبارها الدولة الوحيدة في المنطقة ضمن مجموعة العشرين العالمية.
يشكك البعض في قدرة السعودية على نجاح خطة المملكة بجذب مقرات الشركات العالمية
على أرض الواقع يبدو الرهان السعودي متفائلاً، ففي أبريل/نيسان 2022، تتبعت منصة أسواق الاستثمار الأجنبي المباشر”إف دي آي ماركتس” (FDI Markets) الصادرة عن “فاينينشال تايمز” مصير 126 مشروعًا جديدًا تم الكشف عنه في السعودية خلال 2021، ذهب 55 منها إلى الرياض، كان من بينهم 14 مقرًا رئيسيًا جديدًا، وتغطي هذه الاستثمارات مجموعة من القطاعات من السلع الاستهلاكية والبناء إلى الأعمال التجارية والخدمات المالية.
قد يبدو هذا الرقم ضئيلًا، لكن بالمقارنة بما أنجزته الرياض خلال السنوات الماضية نجد أنه خلال الفترة بين 2003 و2021، لم تتجاوز المقرات الرئيسية الجديدة للشركات الأجنبية التي تأسست في الرياض 11 مقرًا رئيسيًا.
اللافت للنظر أن المقرات الرئيسية التي تأسست – أو سيتم تأسيسها – في الرياض ليست جميعها جديدة، فبعضها انتقل من دبي، على سبيل المثال، نقلت شركة التكنولوجيا الأمريكية “سي إس جي” (CSG) مكتبها الإقليمي من دبي إلى الرياض، وتلك حادثة تشير إلى مدى تأثير نجاح الرياض على دبي.
وكما ألزم الإنذار السعودي المفاجئ الشركات الدولية بنقل مقراتها إلى المملكة، بدأت قنوات إخبارية وإعلامية مثل قناة العربية والعربية الحدث والشرق للأخبار وإم بي سي، بالنقل التدريجي إلى العاصمة الرياض ضمن الخطة التي أطلقها ولي العهد السعودي لتحويل المملكة إلى مركز أعمال إقليمي.
وكالة “بلومبرج” الأمريكية أوضحت أن الديوان الملكي السعودي أخطر مجموعة “إم بي سي”، وهي أكبر شركة إعلامية في الشرق الأوسط، ببدء عملية الربط الأولى مع إستديوهات الرياض ثم إطلاق البث بمعدل 12 ساعة يومية قبل نهاية العام 2021 ثم الانتقال الكلي إلى الرياض خلال مدة تصل إلى عامين في تحدٍ لدبي.
كانت المنافسة بين السعودية والإمارات بدأت بإعلان وزير الثقافة السعودي بدر بن عبد الله بن فرحان عام 2020 عن إنشاء مدينة إعلامية في حي السفارات بالعاصمة الرياض، حيث يستهدف المشروع شبكات وسائل الإعلام في المنطقة وكبرى منصات التجارة الإلكترونية.
هذه المدينة ستنافس مدينة دبي للإعلام التي تأسست عام 2000، وتعد مركزًا مهمًا للإعلام في الشرق الأوسط والعالم، حيث تضم 3 آلاف مؤسسة إعلامية و34 ألف إعلامي، وتبث منها 122 قناة تليفزيونية وإذاعية، وتصدر 163 منها مطبوعة ومنصة.
بدأت قنوات إخبارية وإعلامية بنقل مقراتها من دبي إلى الرياض
يوضح العديد من خبراء الاقتصاد أن قرار المملكة سيجعل من الرياض أكبر اقتصاد عالمي، وقد تكون أكبر مسمار في نعش دبي التجاري، ويرون أنه لا يعني منافسة دبي كمركز مالي وسياحي فقط، إنما سيجعل المملكة تهيمن على اقتصاد الشرق الأوسط كليًا.
ويوضح الخبير الاقتصادي الأمريكي بيتر ديفيد أن الرؤية التي أطلقها ولي العهد بدأت في حقيقة الأمر تعمل على جذب الاستثمارات الأجنبية مع تنويع الاقتصاد السعودي لفك الارتهان بالنفط، فقد بدأت شركات عالمية نقل مقراتها الإقليمية من دبي إلى الرياض أهمها شركة التكنولوجيا الأمريكية العملاقة “جوجل”، وبنك “ستاندرد تشارترد” المدرج في بورصة لندن، وشركات صناعة السيارات الأمريكية “فورد” والألمانية “مرسيدس” وشركة الطاقة الأمريكية “شيفرون”.
وتأمل الحكومة السعودية أن يضيف برنامج جذب المقرات الإقليمية الرئيسية لاقتصادها نحو 67 مليار ريال (18 مليار دولار)، ويخلق ما يقارب 30 ألف فرصة عمل بحلول عام 2030، وهو ما يدفعها للدخول في منافسة مباشرة مع الإمارات.
معركة الهيمنة الإقليمية
هذه التحركات التي بدأت بالفعل تشير إلى أن هناك تحديًا سوقيًا جديدًا بدأ يظهر بين السعودية والإمارات، ويرى فيها البعض أن الرياض تتطلع لانتزاع التاج الاقتصادي في المنطقة من دبي، لكن التصريحات الرسمية على الجانبين تقلل من أهمية المنافسة بشكل دبلوماسي، فمن وجهة نظر سعودية “لا يتعلق الأمر بإمارة دبي أو أبوظبي أو أي مدينة أخرى، وإنما بحق المملكة في الحصول على نصيبها العادل من المقرات الإقليمية”.
رغم ذلك، يبدو أن الإمارات تأخذ على محمل الجد التهديد القادم من السعودية صاحبة أكبر اقتصاد عربي وأكبر مصدر للنفط في العالم، وتسعى للحفاظ على موقعها الحاليّ كأهم مركز مالي وتجاري في المنطقة، وفق ما نقلت وكالة رويترز عن مدير المركز الأمريكي الجديد للبحوث راشيل زيمبا.
الإمارات ردَّت على القرار السعودي رسميًا بتهنئة ذاتية، ويبدو أنها تفكر في إجراءات تنافسية ضد الرياض منها منح المغتربين حصة أكبر في الاقتصاد وتعديل القوانين الخاصة بملكية الشركات، كما سيكون الطريق ممهدًا أمام بعض فئات الوافدين للحصول على الجنسية الإماراتية، في خطوة مهمة لمنافسة هونغ كونغ وسنغافورة على استقطاب المواهب العالمية.
بدأت الإمارات مؤخرًا في التحرك للحفاظ على مكانتها، ففي أواخر يونيو/حزيران الماضي، أعلنت عن مشروع “دبي جلوبال”، وهو عبارة عن شبكة عالمية تضم 50 مكتبًا تمثيليًا موزعين على القارات الخمسة خلال السنوات القليلة المقبلة للترويج التجاري لمدينة دبي، ودعم الشركات التي تتخذ من دبي مقرًا لها في توسيع عملياتها لتشمل أكثر من 30 سوقًا آخر.
وتحاول الإمارات جذب شركات التكنولوجيا المتقدمة بعيدًا عن مراكزها في آسيا وأوروبا، فبحسب تصريحات لوزير الدولة للتجارة الخارجية الإماراتي ثاني الزيودي، تستهدف الدولة الخليجية أكثر من 300 شركة رقمية في إطار برنامج أُطلق في يوليو/تموز الماضي، منها نحو 40 شركة في طور الانتقال.
تريد السلطات جذب الشركات في قطاعات تشمل تكنولوجيا الأغذية والروبوتات والعملات المشفرة، وتشجيعها على إنشاء مقار عالمية أو إقليمية في مركز الأعمال في الشرق الأوسط من خلال حوافز تشمل تبسيط عملية إصدار التأشيرات وتقديم إقامة طويلة الأجل للموظفين.
بموجب المخطط، تحصل الشركات الرقمية على ترخيص أعمال أسرع وسهولة الوصول إلى الخدمات المصرفية والتمويل، ويمكن أن يُمنح الموظفون إقامة في الإمارات لمدة 10 سنوات، فيما يُعرف بـ “التأشيرات الذهبية”، التي تسمح للأجانب بالعمل والعيش والدراسة دون الحاجة إلى كفيل عمل إماراتي في بلد يشكل فيه الوافدون ما يقرب من 90% من السكان.
بشكل منفصل، تدفقت بورصات العملات المشفرة على دبي العام الماضي حيث تكثف الإمارة جهودها لجذب الشركات في هذه الصناعة، ففي مارس/آذار الماضي، أعلنت شركة العملات المشفرة “Exchange Bybit” عن خطط لنقل مقرها الرئيسي من سنغافورة إلى دبي، لتنضم إلى منافسين مثل Binance Holdings وFTX في التوسع في الإمارات، كما توجه المزيد من المصرفيين إلى المدينة مع التراجع التدريجي لهونج كونج كأكبر مركز مالي في آسيا.
وتتميز الإمارات عن غيرها من مدن المنطقة بسهولة ممارسة الأعمال، ففي عام 2020، احتلت المرتبة الأولى عربيًا والـ16 عالميًا في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال، في حين حلَّت السعودية في المرتبة الـ63 عالميًا، هذا بخلاف الانفتاح الاجتماعي أمام الشركات الدولية وموظفيها والرعايا الأجانب عمومًا مقارنة بدرجة الانفتاح في الرياض، وهو دفع هيئة الترفيه السعودية إلى محاولة مجاراتها في هذا الاتجاه.
كذلك يبدو أنه لن يكون من السهل على الرياض تحدي هيمنة دبي التي قطعت شوطًا طويلاً ساهم في كونها العاصمة التجارية والمالية للمنطقة، فهي ما زالت قادرة على المنافسة عبر قوانين أكثر تساهلاً، ففي أواخر يناير/كانون الثاني 2021، قررت الإمارات منح جنسيتها للمستثمرين وأصحاب المهن التخصصية، كما أوقفت وجوب الحصول على رخصة لشراء الكحول واستهلاكه، وألغت تجريم السكن بمنزل واحد لغير المتزوجين.
من ناحية أخرى، لن يكون على الرياض منافسة دبي فقط، فقد ساهم كأس العالم في تقديم قطر للعالم كأحد أهم مراكز المال والأعمال في العالم، ففي مارس/آذار الماضي، أسست شركة السيارات الألمانية العملاقة فولكس فاجن (Volkswagen) مقرها الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط في مشيرب قلب الدوحة، وسبقتها شركات عالمية أخرى مثل جوجل ومايكروسوفت.
بعد شهور قليلة، وفي أغسطس/آب الماضي، ذكرت نشرة أسواق الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI Markets) أن قطر استقطبت استثمارات بقيمة 19.2 مليار دولار في الربع الثاني من عام 2022، التي بلغت 71% من إجمالي الاستثمارات في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما ساهم في توفير 6680 وظيفة في 11 مشروعًا، وكان أهمها البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات وخدمات الأعمال والخدمات المالية والفحم والنفط والغاز.
تشير هذه الأرقام إلى أن قطر – كما الإمارات – بإمكانها الوقوف أيضًا بوجه الطموحات السعودية في محاولتها إعادة رسم خريطة الشركات في المنطقة، ويبقى السؤال: هل يتحقق ما تسعى إليه المملكة بتغيير بيئتها الاجتماعية لجعلها أكثر انفتاحًا لجذب الأفراد والشركات سياحيًا واقتصاديًا أم أنها ستواجه عراقيل أهمها اتفاقية سوق الخليج المشتركة؟
نون بوست