جنين: المخيم المقاوم الذي لا يستسلم

“الأجواء في جنين أجواء مسيرة جنائزية؛ مئات الرجال يسيرون في الأزقة الضيقة لمخيم اللاجئين، يرتدي معظمهم ملابس سوداء من الرأس إلى أخمص القدمين، والبعض يرتدي أقنعة تخفي وجوههم؛ بالقرب من المقبرة، تتصاعد رائحة البارود إلى الأنف، إنها رائحة الطلقات المتواصلة من نيران الأسلحة الأوتوماتيكية لتكريم “الشهداء”، وقد دفن هناك أربعة فلسطينيين، وقُتل في المجمل تسعة في غارة للجيش الإسرائيلي يوم الخميس أسفرت كذلك عن إصابة 20 شخصاً بجروح، إصابات أربعة منهم خطيرة، والآخرون جاءوا من القرى المجاورة، من برقين ويامون، كما يقول شاب يسير في الموكب”، بينما قال محمد صباغ، رئيس اللجنة الشعبية في مخيم جنين: “لم يقتصر الأمر على مقاتلين مسلحين، فقد قتلوا امرأة مسنة ومراهقين، لكن بالنسبة للإسرائيليين، نحن جميعاً نمثّل أهدافاً”؛ هذا ما ورد في التحقيق الذي أعدته في 26 كانون الثاني/يناير الجاري مراسلة صحيفة “ليبراسيون” الباريسية أليس فروسار، التي تضيف: “اقتحمت القوات الخاصة الإسرائيلية المخيم قرابة الساعة السابعة صباحاً، حيث استهدفت منزلاً للمقاتلين، وما بين الرد والقنابل الحارقة التي أطلقتها القوات الإسرائيلية قُتل ثلاثة مقاتلين على الفور، إذ احترقوا أحياء، في أسوأ طريقة للقتل، ثم حوصر المخيم من جانب تعزيزات استقدمها الجيش الإسرائيلي وانهالت الطلقات النارية على المنزل مرة أخرى”. وبحسب محمد صباغ فإن إسرائيل “ما دامت مستمرة في هذه السياسة، فلن يعرف أحد من الفلسطينيين أو الإسرائيليين السلام والأمن”[1].

أما الصحافية يمنى باتل المسؤولة عن قسم فلسطين في موقع موندويس الأميركي، فتشير في مقال بعنوان: “إسرائيل ترتكب مجزرة في مخيم جنين”، إلى “أن قوات الاحتلال الإسرائيلي شنت هجوماً وحشياً على مخيم جنين للاجئين أسفر عن مقتل 10 فلسطينيين وجرح نحو 20 آخرين، ما جعله اليوم الأكثر دموية في سنة 2023 “، وتصف ذلك الهجوم فتكتب: “دخلت قوات خاصة إسرائيلية متنكّرة في زي مدنيين المخيم في الساعة السابعة و 15 دقيقة في شاحنة تجارية، وذكرت مصادر محلية أن القوات الخاصة استهدفت منزل علاء صباغ القيادي السابق في كتائب شهداء الأقصى، الجناح العسكري لحركة فتح، الذي اغتالته القوات الإسرائيلية في المخيم في سنة 2002؛ وبحسب ما ورد من معلومات، استخُدم منزل صباغ من قبل عدد من المقاتلين التابعين لكتيبة جنين، وهي جماعة مقاومة مسلحة في المخيم تتكوّن من مقاتلين من مختلف الفصائل السياسية، واستخدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي راجمات صواريخ وأسلحة أخرى مع متفجرات في هجومها على المبنى، ما دفع المقاتلين الموجودين داخله إلى الرد بإطلاق النار، كما أدى الهجوم على المنزل إلى اندلاع اشتباكات في المناطق المحيطة، حيث أطلق مقاتلو المقاومة النار باتجاه القوات الإسرائيلية؛ وبعد وقت قصير من بدء العملية، وصل إلى المنطقة مئات من الجنود الإسرائيليين مع قافلة من الجيبات العسكرية والجرافات، وقالت مصادر لموندويس إن الجرافات تحركت في الشوارع ودمرت السيارات المتوقفة في المنطقة وكل شيء اعترضها، وبدأت قوات الاحتلال الإسرائيلي الانسحاب من المخيم قرابة الساعة 12 ظهراً، بعد قرابة خمس ساعات من بدء الغارة، مخلفة في أعقابها دماراً”. ويقول الصحافي الفلسطيني محمد عابد الذي استشهدت به يمنى باتل: “كانت مجزرة، مجزرة حقيقية”، مشيراً إلى أنها كانت “أسوأ وأعنف مداهمة شهدها المخيم منذ سنوات”. وأضاف: “كانت القوات الإسرائيلية تطلق النار في كل مكان، وليس فقط على المقاومين الذين اشتبكوا في معارك مع الجيش، بل كانوا يطلقون النار على أي شيء يتحرك، والدليل على ذلك مقتل سيدة تبلغ من العمر 60 عاماً؛ فكيف يمكنك تفسير ذلك؟”[2]. ونقلت وكالة فرنس برس عن ابنة هذه السيدة، التي تدعى ماجدة عبيد، قولها: “لقد قتلت بينما كانت تشاهد الاشتباكات من نافذة منزلها في مخيم جنين، إذ أصيبت في رقبتها وسقطت على الحائط ثم على الأرض في غرفة المعيشة العائلية”.

“حصانة شبه كاملة للجنود الإسرائيليين”
تحت هذا العنوان نشر سامي بوخليفة مراسل راديو فرانس انترناسيونال في القدس، في 26 الشهر الجاري، تحقيقاً أشار فيه إلى أن الجنود الإسرائيليين المسؤولين عن عمليات قتل الشبان الفلسطينيين يتمتعون بحصانة شبه كاملة، وهو ما يؤكده روني بيلي، المحامي الإسرائيلي المتخصص في الدفاع عن حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة الذي يقول: “نرى أن أقل من 1٪ فقط من الشكاوى التي قدمها الفلسطينيون ضد الجنود تنتهي بلوائح اتهام”. وينقل عن فلسطيني يعبر حاجز تفتيش إسرائيلي في الخليل قوله: “كما تعلمون حياتنا لا قيمة لها بالنسبة لهم، فكل ما يتطلبه الأمر هو نظرة جانبية لجندي إسرائيلي لقتلك، يمكنه دائماً تبرير نفسه بوضع سكين بجانب جثتك بحيث يتظاهر بأنك كنت تريد مهاجمته”. وللدلالة على ذلك يسشهد بحادثة جرت في الأسبوع الماضي، فيكتب: “أصدر الجيش الإسرائيلي تقريراً جاء فيه: مقتل فلسطيني بالرصاص بعد محاولته تنفيذ هجوم على جنود إسرائيليين في سلواد بالقرب من رام الله؛ وفي شهاداتهم كان الجنود قاطعين إذ قالوا: إنهم لم يفعلوا سوى الدفاع عن أنفسهم ضد مهاجم، ولكن لسوء حظ الجنود، تمّ تصوير كل شيء وبث الصور على الإنترنت، التي أظهرت أنه تمّ رش الفلسطيني بالغاز المسيل للدموع، وإلقاء قنبلة صوتية على سيارته، وعندما تم إخراجه بالقوة من سيارته، كان مرتبكاً تماماً، أعمى، وهو بالكاد يميّز ما يحيط به، يكافح وسط الجنود، الذين قام أحدهم بإطلاق النار عليه مستهدفاً الجزء العلوي من جسمه، فقُتل أمام ابنه؛ لقد كذب الجنود، واعترف الجيش الإسرائيلي بذلك الآن: لم تكن هناك أي محاولة هجوم، وفُتح تحقيق”. ويتابع المراسل نفسه أن قواعد إطلاق النار من قبل الجنود باتت أكثر سهولة ويكتب: “في خضم كل هذا، تسعى الحكومة الإسرائيلية الجديدة، بقيادة اليمين المتطرف بصورة خاصة إلى تخفيف قواعد إطلاق النار لجنودها، أي بمعنى آخر يصرّح لهم في أي وقت بإطلاق النار”، بينما تستمر إسرائيل في تقديم جيشها على أنه “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم”[3].

من أين يستمد شبان مخيم جنين روح المقاومة؟
ذكرت وزارة الصحة الفلسطينية أن 193 فلسطينياً قتلوا على أيدي الجيش أو المستوطنين الإسرائيليين في سنة 2022 في الضفة الغربية المحتلة وحدها، كان نحو 34 % منهم من جنين ومخيمها. ومنذ مطلع هذا العام وحتى الآن، استشهد 30 فلسطينياً، بينهم خمسة أطفال، ومن ضمنهم خمسة عشر على الأقل من جنين[4]. وبهذا المعدل، قد يكون الوضع في هذا العام أسوأ مما كان عليه في العام الماضي، الذي يعتبر بالفعل الأكثر دموية للفلسطينيين منذ عقدين، ومنذ نهاية الانتفاضة الثانية. فمن أين يستمد شبان هذا المخيم روح المقاومة؟ إنهم يستمدونها من روح المقاومة التي بقيت حية على مر العقود.فبحسب تحقيق نشره الكاتب والناشط السياسي والبيئي فريد طعم الله، في 26 أيلول/سبتمبر 2021، يستمد هؤلاء الشبان روح المقاومة والتمرد من القصص التي يرويها لهم آباؤهم وأجدادهم، ذلك إنه “منذ غزو جيش نابليون بونابرت إلى المعارك الأخيرة بين الشباب المسلحين المحليين وقوات الأمن الإسرائيلية يتحدث سكان هذه المدينة الواقعة شمال غرب الضفة الغربية بفخر عن تحدياتهم الأسطورية”. وفي هذا السياق، ينقل عن بسام السعدي البالغ من العمر 61 عاماً قوله: “نشأت وأنا أستمع إلى القصة البطولية لعمّي الكبير فرحان السعدي و [عز الدين] القسام، اللذين زرعا بذور المقاومة وألهما الجيل القادم من جنين، بمن فيهم أنا”، وذلك في إشارة إلى عمه فرحان السعدي الذي شارك في “هبة البراق” في آب/أغسطس 1929 وتعرض للسجن، ثم انضم إلى “عصبة القسام” التي خاضت قتالاً ضد القوات البريطانية، وذلك قبل أن يصبح واحداً من قادة فصائل الثورة الفلسطينية الكبرى، وتحكم عليه سلطات الانتداب البريطاني بالإعدام في تشرين الثاني/نوفمبر 1937. وينقل الكاتب نفسه عن خضرة أبو سرية البالغة من العمر 84 عاماً، التي “دمرت الميليشيات الصهيونية قرية زرعين مسقط رأسها وهجّرت أفراد عائلتها الذين أجبروا على العيش كلاجئين في مخيم جنين”، قولها: “أخي حسن الذي كان من الثوار ضد البريطانيين وشارك في الثورة، قُتل في سنة 1969 على يد الجيش الإسرائيلي الذي سرق جثمانه فيما بعد، ولا تزال الأسرة غير متأكدة إلى اليوم من مكان دفنه”. أما جمال الزبيدي، البالغ من العمر 65 عاماً، الذي قاوم الاحتلال الإسرائيلي “من خلال الأنشطة السلمية طوال السبعينيات وحتى الثمانينيات، وسُجن لمدة ستة أشهر دون تهمة أو محاكمة في سنة 1987، وهدم منزله من بين المنازل التي هدمها الجيش الإسرائيلي كشكل من أشكال العقاب الجماعي”، فيقول إنه خلال الاجتياح الإسرائيلي، في سنة 2002، تمت محاصرة منزله مع 14 فرداُ من عائلته، ثم “قصفت الطائرات الإسرائيلية منزلنا بثلاثة صواريخ، وحوّلت المنزل إلى كومة من الأنقاض للمرة الثانية، لكننا نجونا بأعجوبة”، ثم “هدم منزلهم جزئياً للمرة الثالثة في سنة 2004، عندما قام الجيش الإسرائيلي بمطاردة شقيقه زكريا أحد قادة “كتائب شهداء الأقصى” الذي كان واحداً من الأسرى الستة الذين فروا من سجن جلبوع قبل أن يعاد اعتقاله وإعادته إلى السجن، لينضم إلى “ثلاثة من الإخوة الزبيديين الآخرين” لمشاركتهم في مقاومة الاحتلال. وهكذا، “تسير القصص العائلية والثورة جنباً إلى جنب”[5] في هذا المخيم المقاوم الذي لا يستسلم ولن يستسلم.

[1] https://www.liberation.fr/international/europe/attaque-dun-camp-de-refugies-palestiniens-a-jenine-cetait-une-boucherie-20230126_NTW24XKZPVC3VINPXCPU3IB6UM/
[2] https://www.chroniquepalestine.com/israel-commet-un-massacre-dans-le-camp-de-jenine/
[3] https://www.lemonde.fr/international/article/2023/01/26/chronique-d-une-semaine-de-repression-ordinaire-en-cisjordanie_6159360_3210.html
https://www.courrierinternational.com/article/cisjordanie-massacre-a-jenine-un-raid-israelien-a-fait-au-moins-neuf-morts
[4] https://www.rfi.fr/fr/moyen-orient/20230126-cisjordanie-occup%C3%A9e-2023-d%C3%A9bute-sous-le-signe-des-violences-plus-d-un-palestinien-tu%C3%A9-par-jour
[5] https://charleroi-pourlapalestine.be/index.php/2021/09/29/nous-vaincrons-lhistoire-rebelle-de-jenine-racontee-ses-aines/

ماهر الشريف – مؤسسة الدراسات الفلسطينية

اساسيالجيش الاسرائيليجنينفلسطينمخيم جنين