حان وقت إنهاء “العلاقة الخاصة” لواشنطن مع “إسرائيل”

نشرت فورين بوليسي مقالاً قالت فيه إن الجولة الأخيرة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي انتهت بالطريقة المعتادة: التوصل لوقف إطلاق النار مع تَرْك الفلسطينيين أسوأ حالاً ودون معالجة القضايا الجوهرية. وقد أكدت هذه الجولة، من جديد، على ضرورة توقّف الولايات المتحدة عن تقديم الدعم الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي غير المشروط لإسرائيل. لم تَعُد هذه السياسية بأي نفع على الولايات المتحدة، إضافةً إلى تكلفتها العالية التي تتنامى يوماً إثر يوم. وعليه، ينبغي أن تكون علاقة الولايات المتحدة مع إسرائيل علاقة عادية لا “علاقة خاصة”.

فيما مضى، كان من الممكن تبرير وجود علاقة خاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل لأسبابٍ أخلاقية. فقد اِعتُبِر أن تأسيس دولة يهودية ردٌّ مناسب على قرونٍ من المعاداة العنيفة للسامية في الغرب المسيحي، بما في ذلك الهولوكوست، على سبيل المثال لا الحصر. ومع أن الحجة الأخلاقية بدت مقنعة، فعلى المرء تجاهل عواقب تأسيس تلك الدولة على العرب الذين عاشوا في فلسطين لقرونٍ عديدة وتصديق أن إسرائيل ستكون دولة تتبنى نفس القيم الأساسية التي تتبناها الولايات المتحدة. كان الوضع معقداً أيضاً في هذا الجانب. إذ ربما تكون إسرائيل “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، لكن ديمقراطيتها لم ترق إلى ليبرالية الولايات المتحدة، حيث من المفترض أن الجميع من كافة الأعراق والأديان يتمتعون بحقوق متساوية (حتى وإن لم تتحقق تلك الغاية بالكامل). فتماشياً مع الأهداف الأساسية للصهيونية، قامت إسرائيل بتفضيل المواطنين اليهود على حساب باقي المواطنين عن عمدٍ وبطريقة مدروسة.

أمّا اليوم فقد دحضت عقود من الإدارة الإسرائيلية الوحشية تلك الحجة الأخلاقية التي بنت الولايات المتحدة دعمها غير المشروط عليها. إذ قامت كافة الحكومات الإسرائيلية -بمختلف توجهاتها- بالتوسع في بناء المستوطنات وإنكار الحقوق السياسية المشروعة للفلسطينيين، ومعاملتهم باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية حتى داخل إسرائيل نفسها، واستخدام القوة العسكرية الإسرائيلية فائقة التطور في قتل وإرهاب سكان غزة والضفة الغربية ولبنان مع إفلاتٍ شبه كامل من العقاب. في ضوء كل هذا، فليس من المستغرب أن تصدر منظمة “هيومن رايتس ووتش” ومركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة “بتسيلم” مؤخراً تقارير دامغة ومدعومة بالوثائق تصف تلك السياسات المختلفة بأنها “جريمة فصل عنصري”. لقد ألحقت السياسات الداخلية الإسرائيلية ذات التوجهات اليمينية، إضافة إلى الدور المتنامي للأحزاب المتطرفة في السياسات الإسرائيلية، مزيداً من الضرر بصورة إسرائيل أمام العالم، بما في ذلك أوساط اليهود الأميركيين.

كان أيضاً من الجائز سابقاً القول إن إسرائيل شكلت رصيداً استراتيجياً قيماً للولايات المتحدة، وإن كان ثمة مبالغة في تقدير قيمتها في أحيان كثيرة. مثلاً، خلال الحرب الباردة، كان دعم إسرائيل وسيلة فعالة لِلَجم التأثير السوفيتي في الشرق الأوسط، حينما كانت قوة الجيش الإسرائيلي القتالية أعلى بكثير من الدول التابعة للسوفيت هناك، كمصر وسوريا. وقد قدمت إسرائيل أيضاً معلومات استخباراتية مفيدة في بعض الأحيان.

لكن الحرب الباردة انتهت منذ أكثر من 30 عاماً، وأصبح الدعم غير المشروط لإسرائيل يخلق اليوم مشكلاتٍ لواشنطن أكثر مما يعالجه من أمور. لم تقدم إسرائيل أيّ دعمٍ للولايات المتحدة في حربَيها على العراق، بل في الواقع كان على الولايات المتحدة إرسال صواريخ باتريوت إلى إسرائيل خلال حرب الخليج الأولى لحمايتها من الهجمات العراقية بصواريخ سكود. وحتى إن كانت إسرائيل تستحق بعض الثناء نظير تدميرها المفاعل النووي السوري الوليد في عام 2007 أو مساهمتها في تطوير “فيروس ستوكسنت” الذي أوقف أجهزة الطرد المركزية في إيران عن العمل بصورة مؤقتة، إلا أن قيمتها الاستراتيجية الآن باتت أقل بكثير مما كانت عليه خلال الحرب الباردة. علاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة ليست مضطرة إلى تقديم دعمٍ غير مشروط إلى إسرائيل لجني منافعٍ كتلك.

في غضون ذلك، تواصل تكاليف تلك العلاقة الخاصة ارتفاعَها. غالباً ما يبدأ منتقدو الدعم الأميركي لإسرائيل حديثهم بالإشارة إلى المساعدات العسكرية والاقتصادية التي تبلغ قيمتها أكثر من 3 مليارات دولار سنوياً، مع أن إسرائيل أصبحت الآن بلداً ثرياً يحتل المرتبة 19 في تصنيف الدول حسب نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي. ثمة سبل أفضل لِإنفاق تلك الأموال بالتأكيد، لكن هذا المبلغ ليس سوى قطرة في بحر بالنسبة للولايات المتحدة، التي يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لاقتصادها 21 تريليون دولار. وبالتالي فإن العواقب الحقيقية المترتبة على تلك العلاقة الخاصة هي عواقب سياسية وليست اقتصادية.

مثلما شاهدنا على مدار الأسبوع الماضي، أصبح من الصعب على الولايات المتحدة أن تدّعي التفوق الأخلاقي على الساحة العالمية، بسبب هذا الدعم غير المشروط الذي تقدمه لإسرائيل. تسعى إدارة بايدن جاهدة إلى استعادة سمعة الولايات المتحدة وصورتها بعد أربع سنوات من حكم الرئيس السابق دونالد ترامب. وتريد التمييز بوضوحٍ بين السلوكيات والقيم التي تتبناها وبين تلك التي يتبناها خصومها، كالصين وروسيا. وتحاول أيضاً خلال مسعاها هذا أن تعيد إثبات نفسها بوصفها الركيزة الأساسية لنظام عالمي قائم على القواعد. ولهذا السبب، قال أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي، خلال الجلسة السنوية الرئيسية لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إن “الإدارة الأميركية ستضع الديمقراطية وحقوق الإنسان في قلب سياستها الخارجية”. لكن عندما تقف الولايات المتحدة منفردة وتستخدم حق النقض ضد ثلاث قرارات في مجلس الأمن تدعو إلى وقف إطلاق النار، معيدة تأكيدها مراراً وتكراراً على “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وعندما توافق على بيع أسلحة بقيمة 735 مليون دولار إلى إسرائيل، ولا تقدم للفلسطينيين سوى بعض العبارات الفارغة حول حقهم في العيش بحرية وأمن مع دعم حل الدولتين (وهي فرضية لم يعد كثيرٌ من الحكماء يأخذونها على محمل الجد)، فإن ادّعائها التفوقَ الأخلاقي يبدو بجلاءٍ ادّعاءً أجوفَ وزائفاً. ولذا ليس من المستغرب أن تسارع الصين إلى انتقاد موقف الولايات المتحدة، وأن يقترح وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، استضافة محادثات سلام فلسطينية إسرائيلية، مبرزاً بذلك عجز الولايات المتحدة عن القيام بدور الوسيط المحايد. ربما لم يكن هذا عرضاً جاداً، لكن، على أيّة حال، من الصعب أن يكون أداء بكين أسوأ من أداء واشنطن على مدى العقود الأخيرة.

ثمة ثمن آخر لطالما تكبدته الولايات المتحدة جراء هذه “العلاقة الخاصة” يتمثل في العلاقات غير المتكافئة بين قدرة السياسة الخارجية وما تتطلبه إسرائيل للتعامل مع هذا القدر الكبير من المشكلات. الواقع أن بايدن، وبلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، لديهم مشاكل أكبر ينبغي عليهم القلق بشأنها مقارنةً بأفعال دولة صغيرة في الشرق الأوسط. ومع ذلك، ها هي الولايات المتحدة تنزلق مجدداً في براثن أزمة تسببت في صنعها إلى حد كبير، من شأنها أن تتطلب اهتمامها وتهدر وقتاً ثميناً كان من الممكن استغلاله للتعامل مع قضايا تغير المناخ، والصين، وجائحة كورونا، والانسحاب من أفغانستان، والانتعاش الاقتصادي، ومجموعة أخرى من المشاكل الجسيمة. فإذا كانت الولايات المتحدة تجمعها علاقة طبيعية مع إسرائيل، فإن الأخيرة ستحظى بالاهتمام الذي تستحقه فحسب لا أكثر.

ثالثاً، يتسبب هذا الدعم غير المشروط لإسرائيل في تعقيد جوانب أخرى للدبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط. إذ إن التفاوض على اتفاق جديد لدحر قدرات إيران على تطوير الأسلحة النووية والحد منها سيكون أسهل كثيراً إذا لم تواجه الإدارة معارضة مستمرة من جانب حكومة نتنياهو، فضلاً عن المعارضة الشعواء من جانب العناصر المتشددة في اللوبي المؤيد لإسرائيل هنا في الولايات المتحدة. ومجدداً، من شأن إقامة علاقة طبيعية مع الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك بالفعل أسلحة نووية، أن يساعد واشنطن على تعزيز الجهود الدؤوبة التي تبذلها للحد من انتشار الأسلحة النووية في أماكن أخرى.

علاوة على ذلك، تؤدي الرغبة في حماية إسرائيل إلى إجبار الولايات المتحدة على الدخول في علاقات مع حكومات أخرى في الشرق الأوسط لا تتسم بأي قدر من الأهمية من المنظور الاستراتيجي أو الأخلاقي. إذ إن دعم الولايات المتحدة للحكم الديكتاتوري الشنيع في مصر (بما في ذلك تجاهل الانقلاب العسكري الذي دمر الديمقراطية الناشئة في البلاد في 2011) يهدف جزئياً إلى إبقاء مصر على علاقة جيدة ووفاق مع إسرائيل ومعارضة حماس. فضلاً عن أن الولايات المتحدة بدت أكثر استعداداً للتغاضي عن الانتهاكات التي ترتكبها المملكة العربية السعودية (بما في ذلك الحرب الجوية التي شنتها على اليمن وقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي) مع تعمق التحالف الضمني بين الرياض وإسرائيل.

رابعاً، ساعدت عقود من الدعم غير المشروط لإسرائيل على خلق الخطر الذي واجهته الولايات المتحدة من الإرهاب. فقد كان أسامة بن لادن وغيره من كبار قادة تنظيم القاعدة واضحين تماماً حول هذه المسالة: إذ إن اقتران دعم الولايات المتحدة المتواصل لإسرائيل مع معاملة إسرائيل الوحشية للفلسطينيين كانا من الأسباب الرئيسية التي جعلتهم يقررون مهاجمة “العدو البعيد”. ومع أن ذلك لم يكن هو السبب الوحيد، إلا أنه أيضاً ليس أمراً هيناً. وكما ورد في تقرير “لجنة 11 سبتمبر/ أيلول” الرسمي بشأن خالد شيخ محمد، الذي وصفه التقرير بأنه “المهندس الرئيسي” للهجمات: “من وجهة نظر شيخ محمد نفسه، فإن عداءه تجاه الولايات المتحدة لم ينبع من تجاربه الشخصية عندما كان طالباً يدرس هناك، بل من اختلافه الشديد مع السياسة الخارجية الأميركية التي تحابي إسرائيل”. وبرغم أن مخاطر الإرهاب لن تختفي إذا كانت الولايات المتحدة على علاقة طبيعية مع إسرائيل، فإن اتخاذ موقف أكثر إنصافاً ومُبَرَّر أخلاقياً من شأنه أن يساعد على تقليل المواقف المعادية للولايات المتحدة التي ساهمت في تفاقم التطرف المقترن بالعنف الذي شهدته العقود الأخيرة.

ترتبط أيضاً تلك العلاقة الخاصة بالمغامرات الكثيرة الفاشلة التي أقدمت عليها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بما في ذلك قرار غزو العراق عام 2003. لم تكن إسرائيل تتخيل حدوث هذه الفكرة السخيفة -يستحق المحافظين الجدد الموالين لإسرائيل في الولايات المتحدة هذه المنزلة المشينة- وقد عارض بعض القادة الإسرائيليين الفكرة في البداية وأرادوا أن تركز إدارة جورج دبليو بوش على إيران بدلاً من ذلك. لكن بمجرد أن قرر الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش أن الإطاحة بالزعيم العراقي آنذاك صدام حسين ستكون الخطوة الأولى في برنامج أوسع نطاقاً يهدف إلى “التحول الإقليمي”، سارع كبار المسؤولين الإسرائيليين -بمن فيهم نتنياهو ورئيسيّ الوزراء الأسبقْين، إيهود باراك وشيمون بيريز- إلى المشاركة في هذا الحدث وساعدوا في ترويج الحرب للشعب الأميركي. وكتب باراك وبيريز مقالات لتقديم الحجج والبراهين التي تبرر الحاجة للحرب وظهرا على وسائل الإعلام الأميركية لحشد الدعم لها، في حين ذهب نتنياهو إلى مقر الكونغرس لتقديم رسالة مماثلة. ورغم أن استطلاعات الرأي أظهرت أن اليهود الأميركيين كانوا أقل تأييداً للحرب مقارنة بعامة الشعب الأميركي، فقد ساندت لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية “أيباك” وغيرها من المنظمات في اللوبي الإسرائيلي بكل ما أوتيت من قوة فكرة الحرب. وفي حين أن العلاقة الخاصة لم تتسبب في اندلاع هذه الحرب، فقد ساعدت العلاقات الوثيقة بين البلدين في تمهيد الطريق أمامها.

بسبب تلك العلاقة الخاصة -والشعار المعهود بأن التزام الولايات المتحدة تجاه دعم إسرائيل “لا يتزعزع”- أصبح مدى تأييد المرء لإسرائيل معياراً أساسياً للعمل في الحكومة وهو ما حرم كثير من الأميركيين المتميزين من الإسهام بمواهبهم والتفاني في الحياة العامة. فالدعم القوي لإسرائيل لا يُشكل حاجزاً أمام تولي أيّ منصب رفيع في الحكومة، بل إنه بالأحرى ميزة. لكن إذا كان هناك انتقاد ولو بشكل معتدل فذلك يعني تعرض أيّ شخص مرشح لتولي منصب للمتاعب على الفور. إذ يُمكن أن يؤدي اعتبار شخص أنه “غير مؤيد لإسرائيل” بما فيه الكفاية إلى عرقلة تعيينه، مثلما حدث عندما وقع الاختيار في البداية على الدبلوماسي المحنك ومساعد وزير الدفاع الأميركي الأسبق تشاس دبليو فريمان لرئاسة مجلس الاستخبارات الوطني عام 2009، أو يُمكن أن يدفع المرشحون إلى التظاهر بالندم على مواقفهم تجاه إسرائيل وإنكار الذات على نحو مهين. ومن الأمثلة الأخرى على هذه المشكلة، واقعة كولن كال الأخيرة، الذي حصل ترشيحه لمنصب نائب وزير الدفاع لشؤون السياسات على موافقة مجلس الشيوخ بصعوبة، بالرغم من أنه يتحلى بمؤهلات ممتازة، فضلاً عن العديد من الشخصيات المؤهلة تأهيلاً جيداً الذين لم يتم حتى التفكير في تعيينهم لأن الفرق التي تتولى المرحلة الانتقالية بين الإدارات المتتابعة لا ترغب في إثارة الجدال. وأود أن أؤكد على أن المخاوف لا تكمن في أن تلك الشخصيات لم تكن مخلصة بشكل كاف للولايات المتحدة؛ بل تتمثل المخاوف في أنهم قد لا يلتزمون التزاماً قاطعاً بمساعدة دولة أجنبية.

يمنع هذا الوضع المُضطَرِب الإدارات الديمقراطية والجمهورية على حد سواء من استقطاب أفضل المواهب، ويُفاقم من عدم المصداقية المتنامية في الخطاب العام الأميركي. فسرعان ما تعلم الخبراء السياسيين الأذكياء الطموحين ألا يقولوا ما يفكرون فيه حقاً بشأن القضايا المتعلقة بإسرائيل، وباتوا بدلاً من ذلك، يتفوهون بالعبارات المبتذلة المألوفة حتى وإن كانت متعارضة مع الحقيقة. وعندما ينشب صراع مثل أحداث العنف الأخيرة التي شهدتها غزة، ينتاب المسؤولون الحكوميون ومسؤولو الصحافة الارتباك على مختلف المنصات، بينما يحاولون جاهدين ألا يقولوا أي شيء قد يُوقعهم أو يُوقع رؤسائهم في مشكلة. لا يتمثل الخطر في أنهم قد يقعون في الكذب؛ بل إن الخطر الحقيقي يكمن في أنهم قد يقولون الحقيقة دون قصد. كيف يمكن لأحد أن يجري نقاشاً صادقاً حول الإخفاقات المتكررة لسياسة الشرق الأوسط في الولايات المتحدة، في حين أن العواقب المهنية المترتبة على تحدي وجهة النظر التقليدية قد تكون قاسية؟

من الأكيد أن الشقوق في العلاقة الخاصة قد بدأت في الظهور. فقد صار من الأسهل اليوم الحديث عن هذا الموضوع عما كان عليه من قبل (بافتراض أنك لا تأمل في الحصول على وظيفة في وزارة الخارجية أو الدفاع)، وقد أسهم أشخاص شجعان مثل بيتر بينارت وناثان ثرال في خرق حُجُب الجهل التي طالما أحاطت بهذه المسائل. لقد غيَّر بعض داعمي إسرائيل مواقفهم بشكل يمنحهم سمعة وشرفاً كبيراً. ففي الأسبوع الماضي فقط، نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالة تتناول بالتفصيل حقائق الصراع بطريقة لم تُعهد فيها من قبل إلا نادراً. وقد بدأت شعارات مبتذلة قديمة حول “حل الدولتين” و”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” تفقد قوتها وبريقها الساحر، بل إن بعض أعضاء مجلسَي الشيوخ والنوّاب الأميركيّين قد خفّفوا مؤخراً من درجة دعمهم لإسرائيل؛ على الأقل من الناحية الخطابية. لكن المسألة الأهم تكمن فيما إذا كان هذا التغيير في الخطاب سيؤدي إلى تغيير حقيقي في السياسات الأميركية، ومتى قد يحدث هذا.

لكن الدعوة إلى إنهاء هذه العلاقة الخاصة ليست دعوة إلى المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات أو إلى إنهاء جميع أشكال الدعم الأميركي، إنما هي دعوة للولايات المتحدة لتكون علاقتها بإسرائيل علاقة طبيعية، على غرار علاقة واشنطن بمعظم الدول الأخرى. فمع مثل هذه العلاقة الطبيعة، قد تدعم الولايات المتحدة إسرائيل حين تقوم بأمور تتسق مع مصالح الولايات المتحدة وقِيَمها، في حين تنأى بنفسها عنها إذا قامت إسرائيل بعكس ذلك. وحينها أيضاً لن تحمي الولايات المتحدة إسرائيل من الإدانة في مجلس الأمن إلا عندما تستحق إسرائيل هذه الحماية، ولن يمتنع المسؤولون الأميركيون من انتقاد نظام الفصل العنصري في إسرائيل علناً وبشكل صريح وواضح، وستكون لدى السياسيين والمحللين وصناع السياسات الأميركيين الحرية في امتداح أو انتقاد التصرفات الإسرائيلية -مثلما يفعلون عادة تجاه الدول الأخرى- دون خوف من فقدان وظائفهم أو التعرض لحملات تشهير بدوافع سياسية.

ليست العلاقة الطبيعة انفصالاً؛ فستستمر الولايات المتحدة في التعاملات التجارية مع إسرائيل، وستواصل الشركات الأميركية التعاون مع نظيرتها الإسرائيلية في أي عدد من المشاريع. وسيظل بمقدور الأميركيين زيارة “الأراضي المقدسة”، وسيواصل الطلاب والأكاديميون من البلدين الدراسة والعمل في الجامعات الأميركية والإسرائيلية. وقد تواصل أيضاً حكومتا البلدين تبادل المعلومات الاستخباراتية حول بعض القضايا والتشاور بشكل متكرر حول طائفة من الأمور المتصلة بالسياسة الخارجية. وسيظل بإمكان الولايات المتحدة أن تكون على أتم الاستعداد لدعم إسرائيل إذا تعرَّض بقاؤها للخطر، تماماً كما قد تفعل مع دول أخرى. وستظل أيضاً واشنطن تعارض بشدة الأشكال الصريحة من معاداة السامية في العالم العربي وفي الدول الأخرى وفي الساحات الخلفية لواشنطن نفسها.

إن علاقة أكثر طبيعيةً قد تفيد إسرائيل أيضاً. فمنذ أمد طويل أسهم صك التأييد الأميركي المطلق لإسرائيل في اتباعها سياسات ارتدّ ضررها عليها مراراً وتكراراً ووضعت مستقبلها طويل الأمد في موضع شكوك كبرى. ويأتي على رأس تلك السياسات المشروع الاستيطاني نفسه والرغبة غير الخفية في إقامة “إسرائيل الكبرى” لتضمّ الضفة الغربية وتحصر الفلسطينيين في أرخبيل من الجيوب المعزولة. ولكن قد نضيف إلى القائمة اجتياح لبنان في العام 1982، ما أدى إلى ظهور تنظيم “حزب الله”، والجهود الإسرائيلية السابقة لتعزيز حركة حماس من أجل إضعاف حركة فتح، والهجوم القاتل على سفينة “مافي مرمرة” التركية لإغاثة غزة في مايو/أيار 2010، والحرب الجوية الوحشية على لبنان في 2006 التي زادت من شعبية تنظيم “حزب الله”، إضافة إلى الاعتداءات السابقة على غزة في 2008 و2009 و2012 و2014. إضافة إلى ذلك، فإن عدم استعداد الولايات المتحدة لجعل دعم لإسرائيل مشروطاً بإتاحة الأخيرة فرصة إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة قد أسهم في تدمير عملية أوسلو للسلام، مما أدى إلى زوال أفضل الفرص لتحقيق حل الدولتين بشكل جاد.

إن علاقة أكثر طبيعيةً -أي علاقة يكون فيها الدعم الأميركي مشروطاً لا تلقائياً- قد تجبر إسرائيل على إعادة النظر في مسارها الحالي وبذل المزيد من أجل تحقيق سلام حقيقي ودائم. وعلى وجه الخصوص، سيتعيّن على الإسرائيليين إعادة التفكير في اعتقادهم أن الفلسطينيين سيختفون ببساطة، والبدء في التفكير في حلول يمكنها ضمان الحقوق السياسية لليهود والعرب على حد سواء. ليس النهج القائم على الحقوق هو العلاج الناجع، وسيواجه العديد من العقبات، لكنه يتسق مع القيم المعلنة للولايات المتحدة ويعطي مزيداً من الأمل في المستقبل مقارنة بما تقوم به إسرائيل والولايات المتحدة اليوم. الأهم من كل ذلك أنه سيتعين على إسرائيل البدء في تفكيك نظام الفصل العنصري الذي أقامته على مدى عدة عقود مضت؛ نظراً لأنه سيكون هناك صعوبة متزايدة حتى على الولايات المتحدة في الحفاظ على علاقة طبيعية معها إذا استمر هذا النظام دون مساس. غير أن شيئاً من هذه المواقف لا يعني أدنى موافقة أو دعم لحركة حماس، المدانة -بنفس القدر- بارتكاب جرائم حرب خلال القتال الأخير.

هل أتوقع أن تقع تلك التغييرات التي تناولتها هنا في أي وقت قريب؟ الجواب: لا. فمع أن علاقة طبيعية مع إسرائيل -على غرار العلاقات التي تقيمها الولايات المتحدة مع معظم الدول الأخرى في العالم- لا ينبغي أن تكون محل جدل خاص، إلا أن مازال هناك جماعات مصالح ذات نفوذ كبير تدافع عن فكرة العلاقة الخاصة، وهناك العديد من السياسيين متمسكين بوجهة نظر بالية تجاه مشكلة [الشرق الأوسط]. غير أن التغيير قد يكون أرجح ووشيكاً أكثر مما قد يعتقد أحدنا، ولهذا يسارع المدافعون عن الوضع القائم إلى تشويه وتهميش أي ممن يقترح بدائل. أذكر حين كان بإمكان المرء التدخين على متن الطائرة، وحين كان زواج المثليين أمراً لا يمكن تصور وقوعه، وحين كانت موسكو تحكم أوروبا الشرقية بقبضة من حديد، وحين كانت قلة من الناس هي التي تستغرب ندرة النساء والملوّنين في غرف الاجتماعات والإدارة أو في أوساط الأساتذة الجامعيين أو في المناصب العامة. لكن بمجرد أن يصبح النقاش حول موضوع ما أكثر انفتاحاً وصدقاً، يمكن أن تتغير التوجهات التي عفا عليها الزمن بسرعة مدهشة، وقد يصبح ممكناً ما كان عصياً على التصور، بل قد يصبح طبيعياً

اساسياسرائيلالولايات المتحدةفلسطين