لا تعترف المؤسسة الإسرائيلية وحكوماتها المتعاقبة باحتلالها الأراضي الفلسطينية منذ سنة 1967 وحتى اليوم، في حين يقر الشعب الفلسطيني وقواه السياسية والسواد الأعظم من دول العالم بحالة الاحتلال استناداً إلى مئات القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة. وعلى الرغم من هذا، فإن الإدارة الأميركية وبعض دول الغرب تتعامل مع هذه المسألة على أنها “نزاع” فلسطيني – إسرائيلي بشأن أراض “متنازع عليها”، وتتعايش مع الرواية الإسرائيلية التي تنكر الاحتلال، ومع مضي إسرائيل في ضم الأراضي الفلسطينية واستيطانها وممارسة أنواع من التطهير العرقي وكل ألوان العقاب الجماعي بحق ملايين الفلسطينيين. وتحت يافطة اتفاق أوسلو، الذي أُفرغ من كل مضمون قابل للاستمرار، يتم رفض أي مبادرة فلسطينية تحاول الاستقواء بالمؤسسات الدولية والقانون وقرارات الشرعية الدولية، ويُنظر إليها على أنها عمل فردي من طرف واحد، بينما، في المقابل، تتم تغطية عمليات الضم والتهويد ونقل السكان وفرض السيادة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية من طرف واحد، من دون قول شيء إزاءها. وفي أحسن الأحوال تنتقد الإدارة الأميركية الإجراءات الإسرائيلية بالكلام، وفي الوقت عينه تتصدى لأي محاولة أو مسعى قانوني لمنعها.
تصدت دولة الاحتلال والإدارة الأميركية ودول غربية أُخرى لمحاولة استصدار قرار من الجمعية العامة يطالب بفتوى قانونية من محكمة العدل الدولية بشأن السيطرة الإسرائيلية، الأمر الذي من شأنه إزالة كل غموض عن واقع نظام الأبارتهايد الكولونيالي. وقد أخفقت الضغوط والابتزازات في منع صدور القرار، وجاءت ردة الفعل الإسرائيلية والعقوبات التي اتخذتها حكومة نتنياهو- بن غفير ضد الشعب الفلسطيني لتقدم براهين إضافية على واقع الاحتلال المتوحش، سواء من خلال وصف نتنياهو لقرار الجمعية بالحقير أو من خلال التعهد بعدم الاعتراف بقرار المحكمة وبعدم التعاون معها. ومن شأن بيان الحكومة الذي تحدث عن حق حصري غير قابل للتصرف للشعب اليهودي على كل أرض إسرائيل، وتعهد بنشر الاستيطان في “يهودا والسامرة”- الضفة الغربية – والجولان وتطويره، وأيضاً في الجليل والنقب، أن يسهل مهمة المحكمة الدولية.
تعتمد المؤسسة الإسرائيلية وحكوماتها المتعاقبة الرواية التوراتية التي منح الله فيها أرض كنعان – فلسطين- إلى الشعب المختار، وبحسب هذه الرواية فإن أرض فلسطين هي أرض الأجداد والآباء اليهود، وسكان إسرائيل اليوم هم الأحفاد الذين عادوا إلى الوطن المحرر من “الأغيار” – السكان الأصليين- وهي أرض غير محتلة. وتتناقض هذه الرواية مع ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي وعلم الآثار والأركيولوجيا والهستوغرافيا والدراسات التاريخية، لكن، وعلى الرغم من هذا، يتم تقديمها كبديل، وتُشتق منها سياسات تطهير عرقي ونقل سكان وأبارتهايد وعقوبات جماعية وهيمنة كولونيالية، وكل هذا بالاستناد إلى غطرسة القوة. وتتعايش الإدارات الأميركية ودول غربية أُخرى مع تلك الرواية المعتمدة كمرجعية وناظم لدولة احتلال دائم، حتى إنها تقوم بصد كل محاولة للحث على احترام القانون الدولي والاحتكام إلى العلوم والعقل وحقوق الإنسان والشعوب.
إن رأي محكمة العدل الدولية المنتظر والمرجح هو وصم السيطرة الإسرائيلية بالاحتلال واعتبارها نظام أبارتهايد غير مشروع. وتكمن قيمة هذا الموقف الفعلية في إزالة الغموض والتستر والخلط بين الرواية الواقعية الفلسطينية والرواية الأيديولوجية الحصرية الإسرائيلية، وفي الخلط بين القانون الدولي وشريعة الغاب وعجرفة المستعمر ونظام الأبارتهايد. ويُفترض أن يضع القرار المأمول هذه الدول وغيرها أمام واجب احترام القانون الدولي وتجلياته السياسية، وما يعنيه ذلك من رفض للاحتلال ووقائعه الاستيطانية وإجراءاته وجرائمه، والعمل على إنهائه، وكل موقف مغاير لهذا الموقف فيه انحياز للاحتلال وجرائمه. وفي كلا الحالتين سيدفع القرار الجديد في اتجاه قيام استقطاب عالمي أكثر وضوحاً انطلاقاً من السؤال التالي: هل دول العالم، أو أكثريتها، مع نظام أبارتهايد كولونيالي أو مع شعب يناضل من أجل حريته وحقه في تقرير المصير؟ وهل دول العالم مع ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها أو مع أيديولوجيا دينية متعصبة؟
صحيح أن لغة المصالح وشراء المواقف بالأموال وسطوة أصحاب المال وابتزازهم ستكون حاضرة عند اتخاذ المواقف، لكن في مقابل ذلك، وكما هو مألوف، سيكون الموقف المبدئي للشعوب والقوى المناهضة للاحتلال والعنصرية والهيمنة والحرب في خندق تحرر الشعب الفلسطيني، الأمر الذي ترك بصماته على تصويت الدول في المؤسسات الدولية، والذي كان لمصلحة الشعب الفلسطيني. ومع احتدام الصراع ومحاولة حكومة نتنياهو الكاهانية حسمه، لا يجدي الموقف المبدئي، على أهميته، نفعاً في إحباط سعي نظام الأبارتهايد الاستعماري لحسم السيطرة على فلسطين، فمن المنطقي وضع هذا النظام على دكة المساءلة والمحاسبة، ومن أجل ذلك من الضروري اتباع سياسة فلسطينية مسنودة عربياً ودولياً لترجمة رأي المحكمة المأمول بنزع الشرعية الدولية عن الاحتلال الدائم للأراضي الفلسطينية، وتدشين مرحلة جديدة من العمل على إنهائه.
ثمة تجارب شبيهة يمكن الحذو حذوها، فبحسب الكاتب الإسرائيلي إيال غروس في صحيفة “هآرتس”، سبق أن طلبت الجمعية العامة من محكمة العدل الدولية رأياً بشأن جزر شاغوس المحتلة من جانب بريطانيا والتابعة لبلد اسمه موريشيوس، وكان رد المحكمة: يجب أن تنهي بريطانيا السيطرة على الجزر في أسرع وقت ممكن. واعتبرت المحكمة احتلال بريطانيا للجزر خرقاً للقانون الدولي، وأن على جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التعاون من أجل تحقيق ذلك. بداية، رفضت بريطانيا القرار، لكنها، وبعد فشلها في تجاهل رأي المحكمة الاستشاري، بدأت بالتفاوض بهذا الشأن بعد ثلاث سنوات من صدور رأي المحكمة. كذلك حصل سكان ناميبيا، التي قررت المحكمة في رأي استشاري عام 1971 بأن استمرار سيطرة جنوب أفريقيا عليها غير قانونية، على الاستقلال سنة 1990.
لدى مقارنة تجارب الاحتلال السابقة بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، نجد فرقاً كبيراً من نواحي الإنكار الإسرائيلي للاحتلال وللحقوق الفلسطينية المشروعة، والاحتقار الإسرائيلي للقانون الدولي في كل ما يتعلق بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والحماية الأميركية والتواطؤ الدولي والعربي الرسمي. ويجدر القول إنه من المعيب السكوت الدولي على العقوبات الجماعية التي اتخذتها حكومة نتنياهو الكاهانية ضد الضحية، وما يهم الآن هو نزع الشرعية الدولية المواربة عن الاحتلال وتدشين مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني تستند إلى استقطاب عربي ودولي جديد. ولا تبدأ هذه المهمة إلاّ بإفشال كل المحاولات الرامية إلى تحويل الرأي الاستشاري إلى مجرد قرار يضاف إلى الرأي الاستشاري بشأن جدار الفصل العنصري ومئات القرارات الدولية الأُخرى. يجب وضع خطة للنضال بعد صدور رأي محكمة العدل ومحكمة الجنايات في مجال جرائم الحرب، وهذا يحتاج إلى هيئة فلسطينية تضم خبراء حقوقيين وناشطين سياسيين وإعلاميين، على أن تتفادى هذه الخطة الروتين والخطاب البيروقراطي السياسي والإعلامي المكرر بلا فائدة.
مهند عبد الحميد – مؤسسة الدراسات الفلسطينية