قبل عام وبعيد ساعات قليلة من عملية “طوفان الأقصى” المجيدة، دشّن الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة على قطاع غزة. مشهدية دمغت بالدم وبالاستخدام الأقصى للعنف والغطرسة وإسقاط أيّ اعتبار قانوني أو إنساني في هذا العدوان. مشهدية وثّقها الإعلام وجالت العالم في المستشفيات والأزقة والخيام. أجساد طرية احترقت بفعل الهمجية الإسرائيلية، جثث وأشلاء هنا وهناك، مقابر جماعية. كلّ هذه المشهدية أرادت من خلالها “إسرائيل”، تثبيت غطرستها تجاه أي شعب أو مقاومة تحاول الوقوف في وجه آلة القتل والتطهير العرقي.
نموذج غزة، وبعد أقلّ من عام، نُقلت منه جزئيات ومشهديات إلى لبنان. هذه المرة، عبر استعراض فرط القوة العسكرية والتكنولوجية، والتي تمثّلت بإصابة العشرات من حاملي أجهزة “البايجر” في دقائق قليلة، مروراً بـ “اصطياد” كبار قادة قوة “الرضوان”، وليس انتهاء باغتيال الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله ورفاقه في “حارة حريك”. فرط القوة هذه، و”نجاح” الاحتلال بفرض هذه المشهدية الدموية والقدرة العالية على الاستهداف، انسحب على المشهدية الإعلامية بشكل واضح، التي جنّدها الاحتلال على ما يبدو ومن ورائها حصل استهداف مباشر لوعي المشاهد العربي.
حجب الصورة من الداخل الإسرائيلي
حقّق الاحتلال تقدّماً تكتيكياً في عدوانه، عندما حجب الصورة من الداخل، وحاصر عمليات المقاومة في عمق مدنه. الرقابة العسكرية المشدّدة وحالة الطوارئ التي فرضها، أدّت دوراً بلا شكّ، في التلاعب بالعقل العربي واللبناني وحاولت توهين المقاومة. مقابل مشهدية إعلامية “مفلوشة” في غزة ولبنان، تظهر بل وتستعرض حرب الإبادة وتعلم أن لا أحد أو جهة (دولية – أممية..) سوف يقف في وجهها.
هذا الحجب الإعلامي يمكن إضافته الى ما ذكرناه سابقاً عن استعراض القوة والغطرسة، وتجنيد الاحتلال لقنوات عربية، عملت منذ “طوفان الأقصى” على شيطنة كلّ من المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، وجعل أعداد الشهداء والمصابين حادثاً عابراً بل عملاً روتينياً يومياً في غزة، وتبرير الجرائم الإسرائيلية عبر النقل الحرفي للإعلام العبري وتبنّي مصطلحاته ونشر مضامين هذا الإعلام على نطاق واسع.
مشهدية مركّبة أسهمت في ما وصلنا إليه اليوم، من إسقاط أيّ عدوانية عن الاحتلال، وتصديق سردياته الكاذبة وتبريراته لقصف المنشآت المدنية واستهداف المدنيين العزّل تحت ذريعة بأنّ في داخلها “ترسانة” مسلحة للمقاومة، كأن باتت هذه الأخيرة بدورها، “مدانة”.
بات أفيخاي أدرعي يدير العملية الإعلامية في لبنان
دينامية إعلامية معادية استطاعت فرض نفسها سيما على الساحة اللبنانية، ذات التنوّع الإعلامي. إذ بتنا على موعد يومي مع خرائط المتحدّث باسم “جيش” الاحتلال الإسرائيلي أفيخاي أدرعي وتغريدات أخرى لإسرائيليين يتحدّثون العربية ويتوجّهون إلى اللبنانيين. كأن بات هذا التطبيع جزءاً من هذه الحرب، والدخول في تفاصيل المشهد اللبناني وثنايا أبنيته!.
هكذا، بات يتلاعب أدرعي بالناس، ويحاول إرعابهم مستنداً إلى المشهدية الدموية العنفية القصوى في غزة، ومحاولة تطبيقها في لبنان، عبر نسف أحياء بأكملها، أو مجموعة مبانٍ تتهاوى أمام مرأى العالم وعلى هواتف اللبنانيين بثوانٍ بسيطة، ويعاد تكرارها مراراً على الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي، كأحد المشاهد السينمائية الخيالية.
التسويق للخطاب الاستسلامي
وسط كلّ هذه المشهديات التي حاول فرضها الاحتلال بالدم والنار والغطرسة، يُمهّد الطريق شيئاً فشيئاً إلى تسيّد الخطاب الاستسلامي والانهزامي، بأن بضعة مقاومين لن يستطيعوا هزيمة المحتل، وأن هؤلاء فقدوا قيادتهم وعناصر مركزية من هيكليتهم العسكرية.
الدعوة اليوم واضحة، لهذا الخطاب الذي يربط مباشرة بـ “طوفان الأقصى”، ويطرح بخبث جدواه، والادّعاء بأنّ هذه العملية جلبت الويل لأهل غزة ولبنان، لما فرضه الاحتلال من ردّات فاقت الفاشية والنازية، وبالتالي المطلوب الاستسلام، واعتبار أن “اسرائيل” كيان مسالم إن تركتها بسلام لن تقترب منك!. في إسقاط عمدي لكلّ تاريخها الدموي الذي قامت عليه في الأصل.
وبهذا المسار، تتجه “إسرائيل” التي تذهب اليوم بأقصى يمينيتها إلى اعتماد الغطرسة والتوحّش كسبيل وحيد لبثّ الخوف والدعوة إلى التراجع، وحتى إلى نسف معاني المقاومة والقيم التي قامت عليها. لا شكّ أنه مشروع بغاية الخطورة، تسير من خلفه الشاشات مغمضة الأعين، وباتجاه تعليمات أدرعي لها ولطواقمها الإعلامية.
ما المطلوب؟
المطلوب اليوم، قلب هذه المشهدية والتموضع خلف خطاب وطني، يعيد تجريد الاحتلال من أقنعته ويظهّر جرائمه، ويقف خلف المقاومة، السبيل الوحيد اليوم للدفاع عن الأرض والناس. مؤسف أننا أضحينا في زمن، بتنا نحتاج فيه إلى تظهير دموية “إسرائيل” والتذكير بجرائمها، بعدما تلاعبت بالعقول العربية واللبنانية بإسهام إعلامي بالدرجة الأولى، بفعل آلتها الوحشيّة ودوسها على أيّ اعتبار يدور في الفلك الإنساني.
لا بدّ من استفاقة جماعية لما خلّفته حرب الإسناد الإسرائيلية الإعلامية على وجه الخصوص، على تلك العقول والعمل على محاصرتها والتنبّه من الوقوع في أفخاخها وأجنداتها الصهيونية.
زينب حاوي – الميادين