مع دخول توقيت وقف العمليات العسكرية في صباح ١٤ آب، كان العالم على موعد مع عمليات من لونٍ آخر: العودة.
قافلات سيّارة إلى الجنوب، ولهفات تمشي على الأرض صوب الضاحية، ورفعت الدموع كلّ ما خلّفته الحرب من دمار إلى عين السماء، وكلمة السرّ: “فِدا المقاومة”.
هو يوم حفظناه في ذاكرة القلوب، في تلك الزاوية التي أعددناها لأيامٍ شهدنا فيها كيف يتغيّر وجه العالم على وقع الدم المنتصر على آلة العدوان المتوحّش، وكيف ترتفع من بين ضفاف الجرح علامات النصر وصيحات الفرح المبلّل بالدّمع الأبيّ الحرّ.
في ١٤ آب، شهدت علينا الدنيا ونحن نسلك الطرقات التي كانت محطّ أهداف طائرات العدوّ وبوارجه، نعبر فوق الدمار، ونتّجه صوب البيوت أو ما بقي منها، ولو كان الباقي ركامًا ناطقًا بما جرى..
في ذلك اليوم، كان أشرف الناس يكملون ما بدأته المقاومة. فالعودة التي خالفت حسابات الصهاينة وأدواتهم شكّلت ضربة لهم في معايير الحرب. لقد انتظر هؤلاء أن تتحوّل المناطق الشاسعة المدمّرة ولا سيّما في الجنوب إلى أرض محروقة، لا يسكنها أهل ولا تعود إليها الحياة. لكنّها، الحياة، عادت مع أولى دقائق وقف اطلاق النار.. وكانت المشاهد التي تهطل شوقًا بين الأرض وناسها خير تعبير عن حكاية النصر الإلهي العظيم.
هنا عائلة تنصب خيمة فوق ركام منزلها.
هنا طفلة تتفقد أطراف لعبتها التي بقيت في البيت يوم النزوح.
هنا صحافيّ يقف باكيًا أمام سحر القوّة التي تلمع في عيون من يتحدّث إليهم، وهناك في زاوية بعيدة جدٌّ يصلّي ركعتين لحمد الله، يسبقه الدمع إلى الركوع وسجودًا يرفع كلّ ما يشعر به إلى عين الله، ويتمتم حمدًا على النّصر الذي أعدّه رجالٌ اسمهم رجال الله يرمي ربّهم بأيديهم، فلا يُهزم حقّنا ولا تطال عزّنا أيادي الشرّ. وهنا، حيث شاهدنا عبر الشاشات مجزرة، ما زال الدم على التراب، ربما ينتظر العائدين كي يروي لهم ما حدث، ويخبرهم عن آخر أنّات أحبّتهم. وهنالك سيّدة ترتمي حيث دم أختها، وطفل يسأل حجارة الدار عمّا قاله صديقه قبل الصعود إلى السّماء.
في الضاحية، كانت الأبنية التي سوّيت بالأرض ترفع أذرعها التي من غبار الركام لتستقبل سكّانها بحبّ وفرح، وتعتذر عن سوء حالها، عن فوضى المكان، وعن جراحها الظاهرة في عيونهم. اجتمع جيران كلّ مبنى حيث ركامه. لملموا ما ظهر من قصاصات كانت لهم، احتضنوا قطعًا من أثاثهم، وتنافسوا في الحياء أمام صغر حجم ما خسروه مقارنة بمَن فقدوا في الحرب أحبّة وأعزّاء..
وفي خلفية المشهد العظيم، سيلٌ من شهداء، يحيطه رجال الله بحبٍّ لا يتعب.. والصامدون في الضاحية والقرى يستعجلون وصول العائدين كي يحكوا لهم عن بطولات شهدوها وما عادوا يستطيعون حبسها.. بالدمع حكوا لنا عن المواجهات في مارون وعيترون وبنت جبيل.. بالضحكات الخجولة تباهوا بأنّ أعينهم شهدت وحفظت وجوهًا تبقى في الخفاء.. وبالوجع الذي لا يقال حدّثونا عن الشهداء.
١٤ آب.. يوم من أيّام الله.. يومٌ تغصّ الذاكرة بمحتوياته ولا تتخلى عن أي تفصيل منها مهما بدا ضئيلًا. يومنا المجيد، والمجد في الحرب ساتر، أكياسه دمٌ ودموع، وخلفه تحيا الطمأنينة التي زرعها النصر بذرةً بذرة، فنبتت حقلًا يدعى زمن الانتصارات..