سريعاً، يمضي قطار التطبيع، العربي في ظاهره، والخليجي في جوهره، مع سوريا، مدفوعاً بعامل سياسي أساسي متمثل بالاتفاق السعودي – الإيراني، وعامل إنساني إضافي لا يقل أهمية مرتبط بالزلزال الذي ضرب الأراضي السورية في شباط/ فبراير الماضي. فبعد عودة الدفء في العلاقات بين دمشق، وعدد من الدول العربية، من خلال مسار تدريجي دشنته الإمارات التي أعادت فتح سفارتها في دمشق في العام 2018، بدا أن هذا المسار يكتسب دفعاً جديداً، مع قرار الرئيس التونسي قيس سعيّد قبل نحو أسبوعين بإعادة علاقات بلده الدبلوماسية مع حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، وهو الأمر الذي أوحى بأن القرار سيكون له ما يليه. وبينما تضاربت المعطيات بشأن أسماء الدول المرشحة لاستلهام الخطوة التونسية، جاءت زيارة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إلى العاصمة السورية دمشق، لتتولى إجلاء جانب من الغموض المحيط بمستقبل التعامل العربي مع الأسد. قبل الزيارة التي جمعت الأسد وفرحان، كان رأس الدبلوماسية السورية فيصل المقداد قد أجرى زيارة إلى الرياض. من هناك، خرج بيان سعودي – سوري مشترك أكد فيه الجانبان على أهمية البحث بخطوات لتسهيل “عودة سوريا إلى حظيرتها العربية”، وتمهيد الطريق لاستئناف التمثيل الدبلوماسي المتبادل.
في الإطار العام، يجزم محللون غربيون بأن زيارة بن فرحان إلى دمشق، أنهت حقبة القطيعة مع الرئيس الأسد، في إطار مساعٍ سعودية للتركيز على الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المدرجة على أجندة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ضمن “رؤية 2030”. وبحسب هؤلاء، فإن رغبة الرياض لا تقتصر على توفير بيئة إقليمية مستقرة ملائمة لتلك التطلعات، بل تتعداها إلى العمل على تحسين صورتها الدولية. على هذا الأساس، تعتبر صحيفة “واشنطن بوست” أنّ “الاندفاعة الدبلوماسية السريعة من جانب الرياض، يمكن أن تعيد تشكيل الديناميكيات الإقليمية، في وقت يسوده حالة من عدم اليقين بشأن مستقبل الانخراط الأميركي” في الشرق الأوسط. وتشير الصحيفة إلى أن التوجهات السعودية الجديدة، تقضي بالعمل على “تحقيق الاستقرار في الخارج، والتركيز على الإصلاحات في الداخل، بعد سنوات من التورط بتدخلات عسكرية مكلفة وصراعات بالوكالة”.
وعقب ما أُشيع بخصوص “خطة سلام” يدفع بها الملك الأردني عبد الله الثاني، لإعادة دمشق إلى الجامعة العربية، وإنهاء الأزمة السورية، درءاً لتداعياتها السلبية على المنطقة، جاء اجتماع جدة الأخير قبل نحو أسبوع في هذا السياق. وفي البيان الختامي للاجتماع، الذي شارك فيه وزراء خارجية العراق والأردن ومصر ودول “مجلس التعاون الخليجي”، أكد الحاضرون على ضرورة لعب “دور قيادي عربي” للتوصل إلى حل سياسي للأزمة. وللوقوف عند مدلولات الاجتماع، تشدّد الباحثة المتخصصة في شؤون الخليج لدى “مجموعة الأزمات الدولية” آن جاكوبس، على “أن مسألة بقاء الأسد في السلطة، بالتوازي مع حالة التطبيع العربي مع دمشق، تبدو من المسلّمات في هذه المرحلة”، مشيرة إلى أنه “ليس هناك الكثير مما يمكن لكل من الولايات المتحدة والدول الأوروبية فعله حيال ذلك، رغم أنهما أعربتا بوضوح عن عدم رضاهما عن مبادرة الدول العربية لتطبيع علاقاتهم مع الأسد”. بدوره، يستنكر الناشط الحقوقي السوري المعارض، أنور البني، موقف الرياض وأبو ظبي المستجد، لافتاً إلى أنه “لم يتفاجأ عندما غيرت دول مثل الإمارات والسعودية، نهجها في سوريا”، مضيفاً أنّ “تلك الأنظمة الملكية الاستبدادية، هي نفسها الأنظمة التي سحقت المعارضة على أراضيها”. واعتبر أن تلك العواصم “لطالما وقفت ضد الديمقراطية في سوريا”، موضحاً أنّ “الفارق هو أنهم بالأمس (حين أيدوا الإطاحة بحكومة الأسد) كانوا يرتدون قناعاً، فيما هم اليوم يكشفون عن وجههم الحقيقي خلف ذلك القناع “.
توازياً، كشف مصدر مطلع لوكالة “رويترز”، جانباً من الخطة المشار إليها، مبيناً أن الرياض اقترحت تشكيل لجنة عربية مشتركة مهمتها “التواصل المباشر مع الحكومة السورية لإقرار خطة مفصلة لوقف الصراع” الدائر على أراضيها. وأضاف المصدر أنّ الخطة “تتناول كافة القضايا الرئيسية”، لا سيما ملف النازحين السوريين، مؤكداً وجود توجه عربي عام للعمل على “استعادة دمشق لدورها في المنطقة وعضويتها في جامعة الدول العربية”.
وفي ظل وجود تباينات بين الدول العربية حيال المقاربة الواجب اعتمادها تجاه حكومة الرئيس الأسد، يوضح مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما، جوشوا لانديز، أنّ “كل دولة (عربية) لديها قضايا معلّقة غير منجزة، تحتاج إلى مناقشتها مع دمشق والتفاوض معها بشأنها”. فمن جهتهما، تنطلق دولتا الجوار السوري، الأردن، ولبنان، في مقاربتهما للملف السوري، من الحاجة إلى وضع حد لأزمة النزوح التي باتت تثقل كاهل البلدين اقتصادياً، واجتماعياً، كونهما يستضيفان قرابة 4 ملايين نازح سوري.
أما العراق، فشأنه شأن الأردن، يبدي اهتمامه باستئناف حركة الترانزيت التجارية عبر الأراضي السورية، فيما تبدي دول عربية أخرى مخاوف من إمكانية تحول سوريا إلى “دولة فاشلة”، ما يفسر حاجتها إلى تعزيز وضع الحكومة السورية لمساعدتها على ضبط حدودها، ربطاً بتقارير غربية حول انتعاش حركة تهريب عقار الكبتاغون المخدّر من سوريا إلى باقي دول الشرق الأوسط، لا سيما الخليج. كذلك، يمكن أن تشمل “قائمة المطالب العربية” من دمشق، جملة مغريات لحثها على الحد من الوجود العسكري الإيراني على أراضيها، أو مطالبة الحكومة السورية بتهيئة ظروف معينة أو إعطاء ضمانات، خصوصاً في ما يتعلق بوضع المطلوبين أمنياً أو الفارين من الخدمة العسكرية.
وفي ظل ما تواتر حول تردّد مصري، وتحفّظ كويتي، وتمنّع مغربي حيال مسألة تطبيع العلاقات مع سوريا، تتصدر قطر “جوقة المعارضين” لهذا التطبيع. فالأخيرة، المتمسكة بدعم “المعارضة السورية” ضد حكومة الرئيس الأسد، لا تخفي استياءها من الأمر، بما يحمله من فوائد سياسية للأخير، سينجم عنها حتماً كسر العزلة المفروضة عليه على المستويين الإقليمي والدولي، ويعيد انخراط سوريا بفاعلية أكبر في المجتمع الدولي. هذا الموقف العربي الأكثر صراحة في اعتراضه على عودة دمشق إلى الجامعة العربية، أكد عليه رئيس الوزراء القطري، محمد بن عبد الرحمن حين قال إن بلاده لن تتخذ أي خطوات تجاه دمشق “إذا لم يكن هناك تقدم وحل سياسي للأزمة السورية”، معتبراً أن “الحديث عن عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية هو مجرد تكهنات”، في إشارة إلى غياب الإجماع العربي في هذا الخصوص. أمام هذه الحالة من استعصاء وجود موقف عربي موحّد، كشف مصدر دبلوماسي أن الرياض تعمل في الوقت الراهن على قيادة جهود التطبيع مع دمشق، تحت مظلة “مجلس التعاون الخليجي”، مبيناً أنّ “السعوديين يحاولون، على الأقل ضمان عدم اعتراض قطر على عودة سوريا إلى الجامعة العربية إذا طُرح الموضوع على التصويت”. فهل يقبل العرب بعودة سوريا إلى الجامعة العربية رغم الضغوط، أم أن العودة وشروطها مرتبطتان بتوقيت خارجي ورغبة أميركية؟