تشهد المنطقة خلال الأسابيع الأخيرة حركة نشطة للأساطيل العسكرية، بخاصة الأجنبية منها، بين مضيق هرمز، والبحر الأبيض المتوسط، لتتماشى بشكل أو بآخر مع سلسلة تحولات متسارعة تمر بها على مستوى المشهد العام، ليست جميعها “بنت ساعتها”. ولعل مسرح الحلقة الأحدث من تلك التحولات، هو الخليج، وبصورة خاصة #ايران ، والسعودية، بعد التقارب التاريخي بينهما، والذي يقترب من إتمام “تجلياته” على صعيد إعادة عمل السفارات، برعاية الدبلوماسية الصينية الباحثة عن دور أكبر لها في معادلات المنطقة، بدءاً من الاقتصاد إلى السياسة والأمن.
فـ “الجمهورية الشيوعية” الحاضرة بقوة كأكبر شريك تجاري لدول الخليج العربية، شاركت في مناورات عسكرية تحت مسمى “الحزام البحري المشترك” في خليج #عُمان وبحر العرب أواسط الشهر الماضي، إلى جانب كل من “الجمهورية الإسلامية”، وروسيا، في إطار توجه لدى الدول الثلاث لكسر الأحادية الأميركية على مستوى حماية امدادات الطاقة العالمية، وأمن الخليج. وعطفاً على “تسونامي” الاتفاق بين قطبي الخليج، #طهران والرياض، الذي أعاد من جديد سرديات من نوع خاص بشأن “حصر إرث استراتيجي” محتوم في المنطقة على وقع الانكفاء الأميركي، وصعود محور روسي – صيني حطّت الفرقاطة الروسية “الأميرال غورشكوف” في مياه ميناء جدة السعودي، كأول سفينة حربية روسية تسجل حضوراً في “المياه الدافئة” للمملكة.
منذ يومين، كشف المتحدث باسم قوات البحرية الأميركية، تيموثي هوكينز، أن إحدى الغواصات النووية التابعة لبلاده، دخلت إلى المنطقة، دعماً للأسطول الخامس الأميركي الذي يتخذ من #البحرين مقراً له. ورغم تكتم هوكينز عن مكان تواجد الغواصة بالتحديد، إلا أنه اكتفى بالإشارة إلى أنّ الغواصة فلوريدا، القادرة على حمل ما يصل إلى 154 صاروخ كروز من طراز “توماهوك”، عبرت قناة السويس باتجاه المنطقة بغرض “المساعدة على نشر الأمن والاستقرار البحري”، وفق تعبيره. وبصرف النظر عن وجهة الغواصة، أو طبيعة مهامها العملياتية المنشودة، سواء المعلنة أو السرية، إلا أن حديث هوكينز لم يخلُ من حركة الاستعراض الدعائي للقوة، والتأكيد “الممجوج” بشأن الجاهزية القتالية للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، في إطار توجيه رسائل سياسية بأشكال عسكرية، في أكثر من اتجاه. بعض الرسائل المتوخاة أميركيًا، يحمل طابع “طمأنة الحلفاء”، كدول الخليج، و”إسرائيل”. فالأخيرة أجرت مطلع العام الجاري مناورات عسكرية غير مسبوقة مع الولايات المتحدة، اعتبرها مراقبون بمثابة “بروفا” لعملية عسكرية تتحضّر لها تل أبيب ضد المنشآت النووية الإيرانية، خصوصاً وأنها تترافق مع حملة “تسخين الجبهات” من جانب محور المقاومة ضد “إسرائيل”، بدءاً من #غزة والضفة، مروراً بلبنان، وسوريا على خلفية الاعتداءات “الإسرائيلية” المتواصلة في المسجد الأقصى.
كذلك، ينطوي حضور “فلوريدا” في مياه الخليج، على “رسائل ردع” لأعداء واشنطن، ولا سيما إيران، كان آخرها استعراض مماثل بشأن نشر حاملة الطائرات “يو إس إس جورج اتش دبليو بوش”، إلى جانب عدد من القطع البحرية، وطائرات حربية من طراز A-10 المتقادمة. فالإعلان عن “مهمة” الغواصة النووية يأتي في ظل “حرب بالوكالة” بين الولايات المتحدة، وطهران في أكثر من ميدان، وبصورة خاصة في #سوريا، والعراق. فخلال الشهر الماضي، قُتل جندي أميركي، في هجوم، تُتهم إيران بالوقوف خلفه، نُفذ بطائرة مسيرة على قاعدة أميركية في سوريا، أعقبه جولات قصف متكرر لمواقع زعمت واشنطن أنها تابعة لإيران هناك، لم تبقَ دون رد. وعلى خلفية تلك الهجمات، دعا قادة عسكريون أميركيون، في مقدمهم رئيس هيئة الأركان مارك ميلي، إلى مواصلة استهداف “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري الإيراني” بهدف ردع أعداء بلاده عن شن المزيد ضد قواعد الجيش في المنطقة، وهي دعوة أيده فيها رئيس قائد العمليات الأميركية في الشرق الأوسط مايكل كوريا.
وفي وقت لا تتوقف فيه الصحافة الغربية عن الاستدلال بشأن “نهاية العصر الأميركي في الشرق الأوسط”، يشير محللون إلى أن المأزق الاستراتيجي الذي تعانيه الولايات المتحدة، هو نفسه بالضبط ما تعانيه “إسرائيل”. فكلاهما منشغل بإيجاد حل للمعضلة “الوجودية” نفسها التي تداهم العقل السياسي، ومراكز التفكير الاستراتيجي لدى كليهما، ألا وهي اجتثاث ما يعتبرانه “الدور المزعزع للاستقرار” لطهران، وردع نشاطات إيران وحلفائها في المنطقة، وذلك من دون أن تمتلك أي منهما الوسائل الناجعة المثلى، سياسيًا وعسكريًا للتصدي لمثل هذا “التهديد”، لأسباب ذاتية تتعلق بقصورهما، ولأسباب موضوعية ترتبط بميزان وهيكل القوة الدولي في عالم اليوم، ربطًا بحرب” الناتو” مع روسيا على أرض “أوكرانيا، وصعود قوى دولية جديدة على رأسها الصين . وبين ثنايا هذا المشهد العالمي الوليد، فإن “المهمة التاريخية” للجمهورية الإسلامية في إيران التي لطالما بقيت رهن السعي خلف هدف “محو إسرائيل عن الخارطة”، تتعزز آمالها اليوم بهدف آخر ما كف يراودها وهو “إخراج الوجود الأميركي من المنطقة”، المقدر تعداد قواته في الشرق الأوسط بنحو 35 ألف جندي. وفي هذا الصدد، يشير موقع “المونيتور” إلى أن استراتيجية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، “تتركز على ضرورة احتواء تهديدات إيران للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، عبر شن هجمات، من دون الإفصاح عنها”، ملمحاً إلى أن التحدي يكمن في أن واشنطن تتخوف من إمكانية انزلاقها إلى حرب مفتوحة مع إيران جراء هذا النوع من الهجمات. من هنا، تبدو “رسالة الغواصة فلوريدا” أشبه بمحاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، واستلحاق “عصر أحادية” ضائعة، و”زمن هيمنة” تخبو شواهده الأميركية في منطقة الشرق الأوسط يومًا بعد يوم.