لم يُفاجَأ كثيرون بمسار التصعيد في فلسطين المحتلة، وتبعاته المحتملة على مستوى المنطقة التي تعيش فترة من الهدوء النسبي بعد التقارب السعودي الإيراني، واتفاق الرياض وطهران على إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما. ففي ظل “حكومة إسرائيلية” هي الأكثر تطرّفاً في تاريخ كيان الاحتلال، تتولى فيها شخصية تنضح تطرفًا وعنصرية وكراهية كإيتمار بن غفير، منصب وزير الأمن القومي، يبدو الغليان الذي تشهده الساحة الفلسطينية، وتحديداً في باحات المسجد الأقصى من بديهيات الواقع الحالي. وعلى مدى الأيام القليلة الماضية، رفعت سلطات الاحتلال من مستوى استفزازها للفلسطينيين في الحرم القدسي، حين بادرت إلى اقتحام المسجد الأقصى مرارًا وتحت رائع شتّى منذ مطلع شهر رمضان المبارك، إضافة إلى اعتقال العشرات منهم، قبل أن تعمد إلى تغطية اقتحام أعداد كبيرة من المستوطنين للمسجد عشية ما يُعرف بـ “عيد الفصح اليهودي” الأربعاء الماضي.
في وقت تعيش فيه “إسرائيل” إحدى أسوأ أزماتها منذ تأسيسها، كذراع استعمارية ذات ميول عدوانية توسعية على أرض فلسطين منذ العام 1948، بسبب ما بات يُعرف بـ “مشروع التعديلات القضائية”، تدحرجت “كرة التصعيد” في الداخل الفلسطيني بين الضفة الغربية، وغزة، وصولًا إلى لبنان. سريعًا، كانت سلطات الاحتلال تدعو مستوطنات الشمال والجنوب إلى فتح باب الملاجىء. ومنذ اللحظة الأولى لجولة التصعيد “الإسرائيلي” في القدس، ردّت فصائل المقاومة الفلسطينية برشقات صاروخية طالت “غلاف غزة”. ومع توسع رقعة العدوان خلال الساعات الماضية داخل قطاع غزة، وتكثيف استهداف مواقع حركة المقاومة الإسلامية “حماس” هناك، توالت الضربات الصاروخية باتجاه مستوطنات الاحتلال، التي بقيت ضمن حدود كيلومترات قليلة من القطاع، بانتظار اتضاح الصورة حول آفاق ومديات التصعيد “الإسرائيلي”.
على مستوى الميدان الفلسطيني، سُجل تطور لافت مع إعلان المقاومة إطلاق صاروخ أرض- جو باتجاه طائرات الاحتلال خلال دقائق من بدء الرد على العدوان. أما في لبنان، وتحديداً على الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة، فقد استفاقت المستوطنات الشمالية لكيان الاحتلال، على خبر إطلاق نحو 34 صاروخاً باتجاهها، هو الأكبر من حيث العدد تشهده منذ حرب العام 2006. ورغم عدم تبني فصيل مقاوم بعينه للعملية بصورة علنية، إلا أن تل أبيب، التي تتهيّب حرباً مفتوحة مع “حزب الله” قد تستدرجها ردود فعل عسكرية غير محسوبة من قبلها، وجّهت أصابع الاتهام إلى حركة “حماس” الفلسطينية في الوقوف خلف الأمر. وبعد سلسلة غارات داخل غزة ضد مواقع الحركة، خرج بيان صادر عن الجيش “الإسرائيلي” فجر اليوم، يعلن ضرب ما زعم أنّه موقع تابع للحركة في محيط مخيم الرشيدية، قرب صور، الواقعة في جنوب لبنان. بدوره، حاول رئيس الحكومة “الإسرائيلية” الظهور بصورة “القائد القوي”، مشدّداً على أن الأزمة الداخلية التي تعصف بحكومته لن تثنيه عن الرد ضد أعداء “إسرائيل”.
وللوقوف عند خلفيات تلك الجولة “الساخنة” بين “إٍسرائيل” وفصائل المقاومة في غزة، ولبنان، تنقل صحيفة “نيويورك تايمز” عن المحلل السياسي اللبناني قاسم قصير قوله إن “(المسجد) الأقصى يعد بمثابة خط أحمر لعموم المسلمين”، مشيراً إلى أنّ الهجوم الصاروخي يشكل رسالة من جانب “حزب الله” لحكومة نتنياهو مفادها “إننا لن نسكت حيال هذا المستوى من التصعيد” داخل الحرم القدسي. وأردف أن الرسالة تنطوي على تحذير أن “الصواريخ العشرين (التي جرى إطلاقها) قد تصبح ألفاً خلال الأيام المقبلة، في حال استمر التصعيد”. بدورها، ألمحت صحيفة “واشنطن بوست” إلى أن حركة “حماس” ربما تكون قد اختارت هذا التوقيت للتصعيد ضد الجيش “الإسرائيلي” انطلاقاً من رغبتها في “انتهاز فرصة التطورات في المشهد الداخلي الإسرائيلي”، في إشارة إلى أزمة “التعديلات القضائية”، وما ترتب عنها من حالة تمرد في صفوف الجيش، ومشاكل على مستوى جاهزيته القتالية. وفي هذا الصدد، أعربت الباحثة “الإسرائيلية” في “معهد دراسات الأمن القومي” في تل أبيب، عن اعتقادها بأن “الفلسطينيين مخطئون إذا ما كانوا يعتقدون أن مشاكلنا الداخلية ستساعدهم في تغيير قواعد اللعبة مع إسرائيل”.
الأكيد أن ما يجري هو فصل “إسرائيلي” جديد من محاولة كسر “معادلة وحدة الساحات” التي رسختها معركة “سيف القدس” في العام 2021، بين الضفة وغزة، مع عامل إضافي يتمثل في عطف الحالة اللبنانية على خط التفاعل المباشر مع تطورات الوضع في القدس المحتلة، والمسجد الأقصى، كميدان قائم لتصعيد مفترض على خلفية أي اعتداء على المقدسات في فلسطين. مرة جديدة، تتكشف الصهيونية عن أبشع وجوهها العدوانية، بوصفها مصدر الشر الأوحد والعدو المطلق للشعوب، الذي لا يتوقف عند حدود “حرمة” زمن الصوم، ولا تحده مواقيت الزمن السياسي المحكوم بتقارب سعودي- إيراني يتأمل فيه كثيرون خيرًا بأن يحمل معه صفحة أمل على مستوى المنطقة. ولعل المشهد الدموي في فلسطين وملحقاته النارية في لبنان، على قدر عالٍ من البلاغة الدلالية كي تدرك هذه الشعوب أنّ منطلقات الفتنة ليست شيعية، ولا سنية، بل صهيونية غالبًا ما عرفت طريقها، مع الأسف، كي تنطق بألسنتنا ومن خلال أناس من بني جلدتنا. فهل باتت اللحظة مواتية، ومع اقتراب العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، التي أعلنها الإمام الموسوي الخميني الراحل يوماً عالمياً للقدس، لقيام وحدة إسلامية حقيقية عنوانها فلسطين كعنوان جامع؟ أم أن عناوين الفتنة، وما أكثرها، لا تزال أكثر جاذبية للشعوب، وأكثر ربحية للحكومات؟