حسين سبيتي – خاص الناشر |
تخيّل أنّك في بلدٍ يُمنع عنه أبسط حقوقه، وغالبية الطبقة السّياسيّة فيه هم زمرة من عبيد المهيمن بشرعيّة شعبيّة، وتعيش تحت تأثير دعاية الغرب التّي يبثّها عبر الإعلام، حتّى أنّ أغلب فئات المجتمع باتت تعتقد أنّك سبب كل الأزمات السّابقة واللاحقة، ولديها القدرة على لصق أي تهمة بك من ضمنها تأثير الاحتباس الحراريّ على المناخ العالميّ.
تبدو دارسة الحالة اللّبنانيّة معقدّة، لما يحوي تاريخ هذا الكيان من تناقضات وعقود من المسارات المختلفة، بين كيانٍ رسميٍّ خاضع للمستعمر ومنخرط بدوره الوظيفيّ الذي أُنشئ لأجله، وأول حركة عربيّة تحرريّة استطاعت إفشال مخطّطات الاستعمار وحدَّت من أحلامه التّوسعيّة. هؤلاء دفعوا كلفة خياراتهم السّياسيّة على مدى سنوات طويلة، وقد مُورس بحقّهم كل محاولات الإبادة والقتل والحصار. كانوا يتحمّلون كلفة الدّفاع عن لبنان وحدهم، لأنّ الأمريكيّ والغرب كانا يرميان بثقل المعركة عليهم حصرًا ويحيّدان باقي أطياف المجتمع. أمّا اليوم، فالأمريكيّ ومن معه يشنُّ حربًا واضحة على لبنان.
لتوضيح الفكرة أكثر، لو أنّنا الآن في تموز من عام ٢٠٠٦، وكان القرار الأمريكيّ مشابهًا لقراره اليوم، كانت الطّائرات الاسرائيليّة ستقصف شوارع الأشرفيّة كما تقصف الضّاحية الجنوبيّة لبيروت. وليس سهلًا أن تقنع من راكم وعيه السّياسيّ من سرديّة المحطّات التّلفزيونيّة الثلاث أو غيرها من مرتزقة الإعلام والنُّخب، أنَّ ما نعيشه اليوم ليس فسادًا يمكن إصلاحه بتنظيم إداريّ وسياسات اقتصاديّة، حتّى وإن كان ظاهره كذلك، إنّما هو نتاج تراكميّ للسّياسات الأمريكيّة ورعايتها اتّجاه بلداننا من اليمن وصولًا الى سوريا ولبنان.
المعضلة الحقيقيّة أنّه لم يكن في لبنان ولو لمرّة واحدة إجماع وطنيّ. حتّى تحرير عام ٢٠٠٠، كان عليه انقسامات. وإلى حدِّ اليوم، يخضع الرّأي العام لما يشبه عملية غسل دماغ مُمنهجة عبر تشويه الحقائق. وكلّما ابتعدنا بالمدّة يزداد الأمر سوءًا. وهنا لبُّ النّقاش. أيُّ دولة ستحاول بناءها في إطار القواعد الاجتماعيّة والاقتصاديّة العامّة دون وضع الأولويّة للجانب الجيوسياسيّ للبنان، فإنّها محكومة بالفشل. لعقود، كان غرب آسيا محطّ اهتمام واسع وثقل للولايات المتّحدة الأميركيّة نظرًا لموقعه الجغرافيّ وأهميته الإستراتيجيّة، فمنه كانت تفرض هيمنتها على العالم. وحتّى اليوم، عند الحديث عن نقل الصّراع لشرق آسيا لمواجهة الصّين، فإنّ ذلك لا يعني تخلّي واشنطن عن “الشّرق الأوسط” بسهولة. إنّما باعتقادها هو تقليص نفوذ للحد الذّي يضمن استمرار حماية مصالحها بجهد أقل. وأهميّة الموقع الجغرافيّ للبنان بالتّحديد وحدوده مع الكيان المحتل، بالتّالي عملية بناء دولة في لبنان على قاعدة الأركان الثّلاثة للدّولة: شعب، أرض وسيادة، فإنّها تصطدم بالمصالح المباشرة للولايات المتحدة وغير المباشرة، عبر التّنافس الاقتصادي مع الكيان الصّهيونيّ. من هذا المنطلق، كان التّناقض بين مشروعين مختلفين في لبنان، مشروع الحرب الأهليّة وسنوات الرّيع، وليس آخرها ١٧ تشرين، ومسار بدأ مع تفجير مقرِّ الحاكم العسكريّ في صور مرورًا بتحرير أيّار ونصر تموز وتحرير الجرود.
مشروع التّحرّر الوطنيّ لبناء دولة صعب وشاق، وهو غير منفصل عن محيطنا، ويكاد يكون من المستحيل تطبيقه داخليًّا إذا ما قارنّا الإمكانيّات الماديّة والإعلاميّة لعدوّنا بالتّي نملكها نحن، لكنّه قابل للتّحقّق بل حتميّ إذا ما كُسرت يدّ أمريكا عن منطقتنا وزالت “إسرائيل” عن حدودنا، وهذا ما عمل عليه قاسم سليماني ومعه عماد مغنية وغيرهما من العظماء المجهولين لحدّ الآن، لأنّهم اختاروا التّضحية في سبيل الأمّة وصنعوا معجزات هددت عرش الإمبراطوريّة التّي ستزول قربيًا. وعندها فقط نستطيع أنّ نضمن مستقبل أولادنا ونبني دولة عادلة وقادرة.