منذ انتهاء الهدنة في تشرين الأول/نوفمبر الماضي، تنحو الأوضاع في اليمن رويدًا رويدًا صوب مربع التصعيد. وبين عودة مشهد الاقتتال بين القوى والميليشيات المحسوبة على “التحالف” على مر الاشهر الماضية، واستعادة قوات الجيش واللجان الشعبية اليمنية زمام المبادرة الميدانية أخيرًا عبر تنفيذ تهديداتها للتحالف، والشركات التي تتهمها صنعاء بالتورط في مخطط نهب الثروات النفطية اليمنية، من خلال توظيف سلاح المسيرات في شن هجمتين على ميناء الضبة في شهري تشرين الأول/ أكتوبر، وتشرين الثاني الماضيين، يبدو المشهد اليمني مفتوحا على احتمالات شتى. الأمر لا يعني حربًا شاملة يبدو أن أيًّا من الطرفين غير متحمس لها، كل لأسبابه، أو الإطاحة بصورة نهائية بجهود الوساطة الجارية لإيجاد تسوية سلمية للنزاع، إلا أنه قد يسفر عن انتهاء حالة “صمت القبور” على خطوط الاشتباك بين قوات التحالف وحلفائه، من جهة، وقوات الجيش واللجان من جهة ثانية. فقبل أيام، كان رئيس المجلس السياسي الأعلى في اليمن مهدي المشاط يستقبل وفدًا عمانيًّا رفيعًا، مثنيًا على الجهود الدبلوماسية التي تتولاها مسقط لوقف الحرب. وفي وقت لاحق، عاد وأكد على أهمية وقف كافة أشكال الحرب والحصار على الشعب اليمني، ومن بينها حل أزمة رواتب القطاع العام، واعادة فتح مطار صنعاء وميناء الحديدة دون قيود، ووقف الاعتداء على اليمن، سياسيًّا واقتصاديًّا، محذرًا من تجاهل دول التحالف، وداعميه الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة تلك المطالب.
مسيّرات صنعاء: رسائل لدول الخليج والمجتمع الدولي
تأسيسًا على ذلك، ثمة من يشير إلى أنّ لجوء حركة “أنصار الله” إلى استخدام وسيلتها الفضلى لإزعاج التحالف، وتحديدًا من خلال سلاح المسيرات، يشكل اختبارًا لموقف المجتمع الدولي، وبخاصة معسكر الدول الداعمة للتحالف، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، من الحركة، وردود فعله المحتملة إزاء سقف مطالب “أنصار الله” الذي يوصف بـ “المرتفع” من جانب المعسكر المذكور. في المقابل، لم يعد خافيًا أن ما تقترحه السعودية، كمقدمة لحل سياسي لحرب اليمن، يُنظر إليه من جانب “أنصار الله” على أنه تنازلات جوهرية، لا ترقى إلى ما تطالب به، سواء على مستوى رفع الحصار، أو حلحلة أزمة الرواتب، وقضايا أخرى متصلة بإعادة فتح مطار صنعاء، وميناء الحديدة.
وفي هذا الاتجاه، يوضح “مركز دراسات الشرق الأوسط” أنّ تمسك الحركة بعدم رفع الحصار عن تعز، إضافة إلى أوراق أخرى من قبيل الاحتفاظ بحق شن ضربات سواء بالصواريخ والمسيّرات ضد دول التحالف، أو التلويح بتحريك الجبهات، يأتي في هذا السياق، معتبرًا أن الأمر يؤهلها لممارسة ضغوط أكبر على خصومها، ويمنحها نفوذًا أوسع في أي مفاوضات سلام في المستقبل، ذلك أنّ الوضع الحالي، سياسيًّا وميدانيًّا، يعطي “أنصار الله” اليد العليا، أكثر من أي صيغة حكم تشاركية أو تحاصصية، وذلك في ضوء ما يوفره لها من سلطات على صعيد إدارة الموارد الاقتصادية، والمؤسسات السياسية في العاصمة اليمنية صنعاء.
ويشدد المركز على أن تهديد صنعاء باستهداف السفن التي تقوم بشحن النفط، من الموانئ اليمنية، دون إذنها، يأتي بدافع حثّ سلطات ما يعرف بـ “المجلس الرئاسي”، المعيّن سعوديًا، إلى تقاسم عائدات النفط مع حكومة عبد العزيز بن حبتور في العاصمة، مضيفًا أن هجوم مسيرة تابعة لأنصار الله على ميناء الضبة في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي يمكن عده إنذارًا موجهًا إلى دول الخليج، مفاده أن الحركة لا تزال قادرة على استهداف منشآت حيوية عن طريق سلاح الجو المسير.
وبحسب مصادر غربية، فإن إحجام المجتمع الدولي، والدول الكبرى، المنشغلة بتداعيات الحرب في أوكرانيا، عن التدخل عسكريًا في اليمن، يصب في صالح الحركة التي تضع في حسبانها استئناف الخيار العسكري باعتباره الوسيلة المثلى لدفع الطرف الآخر للقبول بما تنادي وتطالب به. وتشير المصادر نفسها، إلى أنّ الحركة تنطلق من قناعة بضرورة العودة إلى التصعيد الميداني، شارحًا أن هذا النوع من التكتيك سبق أنا افادها في جولات تفاوضية سابقة. لذا، فإن تحذير قيادات عسكرية وسياسية من حركة “أنصار الله” في الأسابيع الأخيرة لدول التحالف، والشركات الأجنبية، لا سيما السعودية والإمارات، التي تتهمها صنعاء بسرقة الموارد النفطية اليمنية، يعد مؤشرًا على تصعيد مرتقب في اليمن.
بايدن ينقذ ابن سلمان من جديد
وسط هذا الجو العابق بتصعيد محتمل على الساحة اليمنية، تتجه الأنظار إلى الولايات المتحدة والسعودية. فداخل واشنطن، كان المشهد قبل نحو أسبوع، ينذر بتوتر جديد على مستوى العلاقات الأميركية السعودية، حيث كان الكونغرس يستعد لطرح التصويت على مشروع قرار لإنهاء الدعم العسكري الاميركي المقدم للرياض في حربها على اليمن، سواء على المستوى الاستخباري، أو على المستوى اللوجستي وخصوصًا لناحية خدمات الصيانة وتوفير قطع غيار للمقاتلات الحربية. مشروع القرار، يقف وراءه السيناتور بيرني ساندرز، وهو أحد أبرز وجوه الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي، المعارض بشدة لحرب اليمن، والداعي إلى ضرورة تبني ادارة الرئيس جو بايدن مقاربة أكثر تشددًا حيال الرياض، وذلك على خلفية تلك الحرب، التي حصدت أرواح عشرات الآلاف، من بينهم أكثر من 11 ألف طفل. غير أنه، وبفعل ضغوط مارسها البيت الابيض لوقف طرح المشروع على التصويت تحت قبة الكونغرس، من ضمنها التهديد بفيتو رئاسي يعيد تكرار سيناريو العام 2019 حين تم كسر قرار مشابه، تراجع ساندرز موضحًا أنه ينوي اجراء مشاورات مع ادارة الرئيس جو بايدن خلال الفترة المقبلة بهدف التوصل الى صيغة توافقية بين الكونغرس والادارة في هذا الصدد. وبحسب مراقبين، فإن معارضة الإدارة الأميركية لمشروع القرار، تنطوي على “انقلاب سياسي” بالنظر الى ان شخصيات اساسية فيها كانت قد اعربت قبل تولي بايدن الرئاسة عن تأييدها وقف الدعم الاميركي العسكري لحرب السعودية في اليمن.
في هذا السياق، شكك المبعوث الاممي السابق الخاص إلى اليمن، جمال بن عمر، في صدقية مزاعم الإدارة الأميركية بشأن التداعيات السلبية لمشروع قرار ساندرز على الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة في اليمن، موكدًا أن لا تقدم يذكر أصلًا يتم احرازه على صعيد هذه الجهود. ووفق المنطق عينه، يرى ناشطون حقوقيون أميركيون أنه آن الأوان لوقف دعم واشنطن العسكري للحملة الجوية السعودية في اليمن، في ظل فقدان أي آلية لضبط أي تصعيد مستقبلي، بعد انتهاء صلاحية الهدنة بين صنعاء والتحالف منذ شهرين.
من جهتها، تشدد الباحثة في شؤون الشرق الأوسط في “معهد كوينسي” آنيل شلاين، على أنه كان يتعين على واشنطن وقف الدعم التسليحي والاستخباري للرياض منذ عدة أعوام، مضيفة أن ادارة الرئيس بايدن تنطلق من مزاعم بشأن حرصها على عدم تعكير صفو الجهود الدبلوماسية لتجنب القيام بمثل تلك الخطوة. وتلمح إلى أن مبادرة صنعاء شن هجَمات عبر المسيرات، لم يصل إلى حد شن هجمات خارج الحدود، ما يجعل الإدارة الاميركية تتمسك برهاناتها على امكانية تنشيط الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة.
بدوره يوضح الناشط في الشأن التشريعي، والمتخصص في سياسات الشرق الاوسط حسن الطياب أن تمرير مشروع ساندرز كان من شأنه ان يساعد في دفع السعودية للعودة إلى طاولة المفاوضات لحل الازمة في اليمن، معربًا عن استغرابه قرار الاخير سحب مشروع القرار الذي كان من المقرر عرضه على التصويت في الكونغرس. ضمن الإطار نفسه، يذهب موقع “ذي انترسبت” إلى أنّ معارضة البيت الأبيض لمشروع قرار ساندرز، المعروف بـ “قرار سلطات الحرب”، يمثل “مسألة دستورية تواجه الكونغرس”، في إشارة إلى تعلّق الأمر بصلاحيات الحرب لكل من الكونغرس، والبيت الأبيض، لافتًا إلى أنّ الأمر “يمثّل هدية لمحمد بن سلمان، باعتبار أنّه قد يشجعه على مواصلة حربه”، في ضوء منح واشنطن مؤخرًا الحصانة القانونية لولي العهد السعودي أمام القضاء الأميركي.
ماذا اقترحت السعودية على “أنصار الله”؟
أما على الجانب السعودي، فقد أشيع مؤخرًا عن محادثات يجريها مسؤولون سعوديون في الكواليس مع حركة “أنصار الله”، ترافقت مع زيارة علنية لوفد دبلوماسي عماني التقى قيادات من الحركة قبل ايام للبحث في ترتيبات ميدانية وسياسية معينة، منها ما بات معروفًا، وسبق أن تم التباحث حوله في جولات تفاوضية سابقة، كملف الحصار، والرواتب، ومنها ما لم يكشف عنه بعد، وقد يكون متصلًا بشكل الحكم في “يمن ما بعد الحرب”. وبحسب ما أعلن عنه نائب رئيس وفد صنعاء المفاوض، ونائب رئيس حكومة صنعاء لشؤون الدفاع والأمن، الفريق جلال الرويشان، فإن صنعاء جدّدت مطالبها، وضمنها وقف الحرب، ورفع الحصار، وخروج الأجانب من اليمن، مضيفًا أنّ زيارة الوفد العماني حملت نقاطًا إيجابية تتعلق بحلحلة الجانب الاقتصادي، عبر صرف المرتبات، وإبداء رغبة مبدئية من دول التحالف في التوصل إلى حلّ وسلام في اليمن. وبانتظار اتضاح صورة ما يعرض على الحركة وما قد تكون بصدد الموافقة عليه او رفضه، سوف تبقى عين المراقب للشأن اليمني تترقب جوابًا على ذلك، وسط ترجيحات بأن تكتب حروف جواب “أنصار الله” بلسان الميدان مرة اخرى.