النفاق السياسي في الرقص على دماء الأبرياء

دائمًا كانت العلاقة بين أبناء جنوب لبنان وقوات اليونيفيل عرضة للاهتزازات وتمر بفترات غير مستقرة فيها من المدِّ والجزرِ وفقًا لارتفاع منسوب التوتر والعدوان الإسرائيلي على القرى والبلدات الجنوبية، وما كان ينتظره اللبنانيون من القوة الدولية أن تمارس فعل الحماية لهم ولعائلاتهم العزل وضمان حياة آمنة من القتل والتشريد والتنكيل والاعتقال، وهذا ما لم يكن يومًا منذ قدومهم إلى لبنان تنفيذًا لقرار مجلس الأمن ذي الرقم 425 في العام 1978م عقب الاجتياح الإسرائيلي للجنوب وصولًا إلى نهر الليطاني في عملية سميت بــ “سلامة الجليل”.

بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م واحتلال العاصمة اللبنانية “بيروت” ظهرت على سطح هذه العلاقة ما اختمرته في عمقها الكثير من الشكوك والريبة والهنات والأنَّات، حيث اكتفت تلك القوات بالتفرج على أرتال الدبابات الإسرائيلية تعبر نقاط تمركزها دون حسيب أو رقيب مكتفية فقط بتسجيل الأعداد والأرقام وتواريخ العبور والعودة دون أن تأتي بأي رد فعلٍ في منع هذا العدوان أو وقفه، مع أنها كانت لا تتوانى في رفع السلاح بوجه الجنوبيين وتقفل نقاط العبور إلى منطقة سيطرتها وحواجزها بوجه المدنيين وسياراتهم وحركتهم اليومية حين ترى ذلك مناسبًا ولأتفه الأسباب والتي كان منها تجاوز الوقت المحدد للبقاء خارج المنطقة الدولية مما كان يدفع بالبعض منّا للنوم في سياراتهم عند تلك الحواجز حتى تسمح لنا إنسانيتهم بالعبور أو انتظار طلوع شمس اليوم التالي، ناهيك عن التفتيش الدقيق لسيارات العابرين وقلبها رأسًا على عقِب. وبعد عدوان تموز وآب 2006 ازداد عديد هذه القوات إلى ما مجموعه 9923 جنديًا لحفظ السلام من 48 دولة عضو في الأمم المتحدة حول العالم، وبقيت ممارساتها وسلوكياتها هي ذاتها بل ارتفعت وتيرتها أكثر في استفزاز المواطنين والتطفُّل على شؤونهم وبيوتهم.

في هذا السياق لا يُنسى كثيرٌ من التفاصيل في هذه العلاقة رغم مرورها بمراحل شديدة التوتر والاستفزاز، ومما هو على هامش هذه العلاقة من الأمور الجيدة والمفيدة والأساسية والحيوية لحياة الجنوبيين اليومية في المنطقة التي تقع تحت السيطرة الدولية في إطار المشاريع المشتركة بين تلك القوة والمجتمعات المحلية وما فيها من بلديات واتحاداتها وجمعيات أهلية ومؤسسات تربوية رسمية وخاصة وحتى مراكز حكومية خدماتية. ولكن لا نسقِطُ من الذاكرة أبدًا الكثيرَ من الدموع والآلام التي شابت تلك العلاقة على مدى 44 عامًا سببتها رعونة ونزق وانفعالية الكثيرين من ضباط وجنود تلك القوة الدولية على مختلف جنسياتهم وأدَّت إلى سقوط ضحايا بريئة بين المدنيين، وفي بعض تلك الأحداث قضت على عائلات بأكملها (حادثة طريق عام ميس الجبل 2007 كمثال). ويمكن القيام ببحث بسيط لنجد لائحة طويلة من الأحداث الدامية التي ارتكبت فيها تلك القوات الدولية فعل القتل وبشكل مباشر وكثيرًا ما كان متعمَّدًا وبدمٍ بارد سقط ضحيته مدنيون أبرياء عجزة رجال أو نساء، فقط بسبب تقدير خاطئ من عسكري هنا أو ضابط هناك أو لخلفية حاقدة دينية أو إثنية لدى البعض منهم.

حتى تاريخ كتابة هذه السطور أُحصيَ سقوط المئات من الضحايا اللبنانيين الجنوبيين الأبرياء، قتلى وجرحى بسبب إطلاق نار من جنديِّ أممي هنا أو رعونة سائق دبابة أو آلية هناك أدت إلى مقتل مواطن بريء رميًا بالرصاص أو سحقًا تحت جنازير الدبابات ودهسًا تحت إطارات الآليات المدرعة. مواطنٌ كان يسعى في كسب قوت يومه وعياله أو حراثة أرضه ورعاية ماشيته لا لذنب اقترفه إنما لسوء حظه حيث كان في الزمان والمكان الخاطئين، وكانت تلفلف تلك الحوادث وتجمع أشلاؤها وتبكي الناس ضحاياها بصمت وحزن، وتتسلَّحُ هذه القوات الدولية بالحصانة الممنوحة لجنودها وفقًا “لاتفاقيات مبرمة مع الدولة اللبنانية” أبرزها اتفاقية “سوفا” والتي كثُرَ الحديث عنها هذه الأيام والتي تمنح اليونيفيل الصلاحيات الاستثنائية في التحقيقات الجنائية وفي عدم السماح بالتحقيق مع جنودها أو محاكمتهم في الحوادث التي يتسببون بها أو الجرائم التي يقترفونها وفقًا للقانون اللبناني وتجعلهم فوق المحاسبة والقانون. ولطالما تمنَّعوا عن التعاون في تلك التحقيقات في انتقاص واضحٍ وصريحٍ للسيادة على الأراضي اللبنانية كافة وحتى خارج بقعة عملياتهم في الجنوب حيث يحضرون فرق التحقيق الخاصة بهم ويجرون تحقيقاتهم المستقلة بمعزل عن السلطات اللبنانية.

هذه الضحايا اللبنانية البريئة لم نجد بواكي عليها طوال تلك السنوات ولم نجد مواسيًا لأهلها وعائلاتها، بل لم نرَ موقفًا مستنكرًا أو مستفسرًا عمَّا حصل ولماذا من كل الجوقة النادبة واللاطمة على حادثة “العاقبية”، لكنَّ النفاق السياسي جذوره ضاربة في عقول وأرواح الكثيرين في هذا الوطن الهجين بما يحتويه من نماذج تتلون كالسحالي في كلّ لحظةٍ وآنٍ وتتبدل مواقفها وفقًا لحجم شراء الذمم ولزوم الحدث ومكانه وزمانه.
ما بين رئيسٍ ووزيرٍ ونائبٍ وخفير ورجل دينٍ أجيرٍ أو قاضٍ مرتشٍ فاسدٍ وصحفيّ صبيّ من صبية السفير، كلُّهم يمارسون طقوسهم الملعونة فوق الجثث على الطرقات لا يفوتهم حفلُ ندبٍ وعويلٍ على إنسانية الرجل الأبيض القادم من الغرب وكأنَّ لون دمائه لا تشبه لون دماء أبنائنا وأحبَّتنا، ويطبِّلون ويزمِّرون في طقوسٍ جنائزية ومآتم تقيمها بعض أشباه الدول المتباكية على القانون الدولي الإنساني وشرعة الأمم المتحدة، وهم لا يفوِّتون فرصة في نحرِ الأوطان وقطع رؤوس الشعوب، يطالبون بتحقيقٍ شفافٍ لحادثةٍ عرضيَّةٍ في زمانها ومكانها، دولٌ فيها تقتل النَّاس لأتفه التهم والأسباب وتسحق جماجمهم وحقوقهم كبشر.

كم من الأبرياء سيسقطون حتى تستفيق ضمائر هؤلاء؟ وإلى متى هذه الاستباحة والتمييز بين الضحايا؟ وكم سيستمرُّ هذا النفاق السياسي في الرقص على الدماء، دماء الأبرياء؟

اساسي