حسين سبيتي – خاص الناشر |
بدايةً، من المفيد التّذكير بأنَّ اللّعبة الأكثر شعبيّة، أو كما كانت تسمّى لعبة الفقراء، مثلها مثل أيّ حدث يخضع لتأثير إعلاميّ ضخم ويتابعه الملايين، وهي أداة لا يمكن فصلها عن أحقر ما ابتدعه البشر، “السّياسة”.
منذ مدّة تُنشّط الفيفا في دعاية “الحرب على أوكرانيا” حملات تضامن واسعة وشعارات تطالب بالسّلام. قرارات الفيفا المتعلّقة باللّاعبين المحترفين مع أندية روسيّة وغيرها من أشكال الحملة الإعلاميّة ضد روسيا، وغيرها الكثير من المفاهيم المستحدثة علينا نحن كمجتمع عربيّ، خاصّة في ما يتعلّق بالشّذوذ الجنسيّ. وهذه أمثال بسيطة عن تداخل كرة القدم مع السّياسة والقيم الاجتماعيّة وغيرها من الجوانب الحياتيّة التي تمسّ بنا كبشر بشكل مباشر، وقد تؤثر على وعينا السّياسيّ وقيمنا ومفاهيمنا الاجتماعيّة.
نسخة كأس العالم الحاليّة هي النّسخة الأولى التّي تقام على أرض عربيّة. وكعادة المستعمرات النّفطيّة، تمتاز أحداثها بالبذخ، حيث تقدّر كلفة استضافة المونديال بحوالي الـ ٢٢٠ مليار دولار أمريكيّ (لا يقتصر المبلغ على التنظيم فقط إنّما على إعادة تأهيل البنى التّحتيّة في قطر). وهي كلفة ضخمة جدًا مقارنة بالنُّسخ السّابقة. ولا يمكن لعاقل أنّ يصدّق أنَّ مثل هذه المبالغ تُدفع دونَ أنّ يكون لها مردود سياسيّ.
المونديال الحاليّ هو تتويج للدّور القطري في عالمنا العربي. نموذج مليء بالترف اللّيبرالي مع المحافظة على الحد الأدنى من الشّعارات النضاليّة. وهو الدّور الذّي سُمح لقطر بأدائه برضا أميركا و”إسرائيل”. هذا يعني أنّ قطر خلال الحرب على سوريا كانت تمدّ فصائل مسلحة بالمال والعتاد، هي نفسها تلك الفصائل كانت تتلقى الغطاء الجويّ والدّعم الطبيّ من “إسرائيل”. وفي ذات السّياق، قطر تُعد الواجهة السّياسيّة لحركة حماس، أكبر فصيل مقاوم موجود في فلسطين حاليًا. هذا يعني أن تستشهد شيرين أبو عاقلة برصاص الاحتلال وفي المقابل يفتح تلفزيون الجزيرة -الوسيلة الاعلاميّة التي كانت تعمل لديها أبو عاقلة- الهواء للمتحدّثين باسم جيش العدو ومحلّليه السّياسيّين، وتنقل دعاية الاحتلال بحجّة المصداقيّة الإعلاميّة. وهذا يعني أنّ تصدّر قطر للغرب صورة المُنفتح الذّي سمح باستقبال الإعلامييّن والمشجعين الصهاينة، وأنّ تصدّر لنا، نحن شعوب المنطقة، صورة المقاومة والرّفض الشعبيّ للتطبيع الذي يُمارس على أرضها. هذا الدّور القطريّ شكّل على مدار أعوام حالة من التّناظر، وخلق نموذجًا مقابلًا لنموذج المقاومة الحقيقيّة. نموذج مليء بالشّعارات النضاليّة ومغطّى بزخم هائل من الشّعارات الدينيّة والفتوى من مشايخ البلاط. نموذج جذّاب للأفراد السّاعية لكلفة أقل شيء يشبه تضامن المؤثّرين على مواقع التّواصل الاجتماعي مع القضية الفلسطينيّة طلبًا للشّهرة أو لإرضاء الذّات.
ما تريد قطر تثبيته برعاية الغرب هو أقرب لفرض هيمنة على وعي شعوبنا. فهي تجمع التّناقضات تحت جناحها وتزرع في وعي أمّتنا أنّ النّضال والمقاومة دون تضحية أو دم، ولا يفرض عليك أعباء باهظة الثّمن بل إنّه مجرد رفع علم هنا أو هناك، وأنّه ممكن أن يكون حريّة شخصيّة. صورة طبق الأصل عمّا يمارسه الغرب من دعاية وبروباغندا على شعبه. ورغم أنّنا لا نمتلك هذا التّرف، إلّا أنّه يصبح قابلًا للتّحقيق إذا ما قرّرت الجهة الراعية أنّه سيتحقق.
مع بداية ما يسمّى بالرّبيع العربيّ، وتأزّم العلاقة بين سوريا وقطر، بعد مدة لا بأس بها من علاقة كانت تُوصف بالجيّدة، قام بعض السّوريين بطباعة شعار تلفزيون الجزيرة على حاويات النفايات، وكُتب تحته عبارة “التّحريض مستمر”، إشارة للدّور الذّي لعبته المحطّة القطرية آنذاك في تأجيج الأوضاع السّوريّة واللّعب على الوتر الطّائفيّ، وهو الدّور الذّي تتقنه قطر ولم تتخلَّ عنه. فالسّعودية اليوم تتحوّل شيئًا فشيئًا نحو الانفتاح وتغيير السّلوك الاجتماعيّ بشكل كليّ. وهذا ما يفرض عليها أن تكون نقيض القيم الإسلاميّة، وهذا ما يعمل عليه محمّد بن سلمان في محاولة للّحاق بركب الإمارات، حتى لو كان الثّمن بيع الكعبة. ومع غياب دور الأزهر برعاية السّيسي، ستصبح قطر واجهة للإسلام السّنيّ العربي، وهذا واحد من أوجه الاستفادة لقطر من المونديال. وقد أعطت انطباعًا بأنّها تحاول تمثيل الإسلام والمسلمين أمام الغرب، وهو ما يفسّر رفضها دعاية الفيفا للشذّوذ الجنسيّ كونه موضوعًا غير قابل للمسّ عند المسلمين، والتّهاون فيه يعني خسارة التّأييد الإسلاميّ.
على ما أذكر، مرّت العلاقة بين قطر من جهة والإمارات والسّعودية من جهة أخرى بأزمتين حقيقيتين. الأولى بعد أزمة التّسريب الصّوتيّ لحمد بن خليفة مع معمّر القذافي وهو كان حجّة لقطع العلاقات عام ٢٠١٤، والثّانية عام ٢٠١٧ لأسباب مختلفة استمرت حتّى المصالحة عام ٢٠٢١. فقطر تُعتبر اللّاعب البديل لدورهما في المنطقة، وقد مزجت بين السّياسة الناعمة والصّلبة، فحافظت على علاقتها مع إيران وضربت النّفوذ السّعوديّ داخل المجتمع الاسلاميّ بتشكيل ثنائيّة مع تركيا، بحيث يتشابه البلدان بالسّياسة الخارجيّة والبُعد الدّينيّ والإيديولوجيّ، وتجمع بينهما رعاية حركة الإخوان المسلمين التّي لطالما شكّلت اليد السّياسيّة الصّلبة لقطر في البلدان العربية من ليبيا وتونس وصولًا لسوريا وفلسطين. أمّا مصر فكانت دائرة الصّراع الفعليّ بين الطّرفين مع وصول حركة الاخوان المسلمين للحكم عام ٢٠١٣، والانقلاب عليه بعد سنة بتوجيه من السّعودية والإمارات.
بعد أعوام قليلة من نكسة عام ٦٧، وتراجع الحركة القوميّة بقيادة الرّئيس عبد النّاصر لحين وفاته، دخلت منطقتنا عصر النّفوذ السّعودي، وشهدت أكبر حركة استعمارية غير مباشرة برعاية الولايات المتحدة. وشيئًا فشيئًا كانت السّعودية تتربّع على العرش العربي متسلّحة بالنّفط والدّين. أمّا الدّور القطريّ فبدأ يظهر عام ٢٠٠٣، وقد مرّ بمرحلتين أساسيّتين؛ ما يسمى بالرّبيع العربيّ عام ٢٠١١ وحاليًا المونديال، وهو قد وصل الى الحدّ الذّي يمكن أن يهدّد دور السّعودية ومعها الإمارات، وهذا يعني أنّ الأزمة الثّالثة آتية نتيجة الصّراع الحتميّ بين ما تسعى إليه هذه البلدان الثلاث، وستكون الأزمة طلاقًا لا رجعة فيه، وقد تكون السبب بتفكك الاتّحاد الخليجي ونهاية مستعمرات النفط فيه.