حراكاتٌ مشبوهة في بيروت وما خفي منها أعظم

يعيش لبنان مخاضًا عسيرًا تفرضه الاستحقاقات المتعددة وعلى مختلف المستويات الدستورية منها والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية. وتمرُّ البلاد بحالة من انسداد الأفق والجمود السياسي وسلسلة من العقد العصية على الحل مما يضع البلاد والعباد في ظروف صعبة ودقيقة وحساسة تنذر بمخاطر جمَّة تجعل الوضع القائم عرضة للاهتزاز الأمني واستعادة لسيناريوهات سبق أن شهدناها وما زلنا منذ سنوات عدّة، خصوصًا وأن بعض دوائر السياسة والقرار الغربي ومبعوثيها تبشرنا بذلك صُبح مساء.

في ظلِّ هذا الوضع القائم تضجُّ فنادق بيروت وبعضُ الضواحي بالمؤتمرات المنعقدة فيها ذات الطابع الدولي أو الإقليمي أو المحلِّي. وملفتٌ هذا العدد الكبير منها إلى جانب تلوّن وتعدُّد جنسيات المشاركين فيها، ما بين أورو-أمريكي، وأفرو-عربيّ وطبعًا مع نكهة لبنانية يطيبُ بها المؤتمر ويحلو، وتجمعُ المؤتمرين من شواطئ عُمان على الخليج الفارسي مرورًا بجبهات اليمن عروجًا إلى العراق وصولًا إلى كردستانه في الشمال، يستكمل الجمع خليطه فتحضر ليبيا والصحراء الغربية ودول القرن الإفريقي.

تتعدُّد العناوين البراقة والمواضيع المغلّفة بالإنسانية والمواطنية والمدنية والانتماء والديموقراطية والحوكمة الرشيدة والتي تُناقشُ في هذه المؤتمرات وخلف جدران القاعات المغلقة، وعلى مائدتها أطباقٌ متنوِّعةٌ من حقوق الإنسان إلى الحرب وضحاياها وفئاتها الضعيفة والجندرة وحقوق المرأة إلى الأمن والسلام العالمي وحسن الجوار وتشارك الثروات الطبيعية وغيرها من الشعارات الكاذبة المزيفة، لكن أخطرها اليوم ما يدور حول قضية النازحين السوريين ومخيماتهم والمحاولات الحثيثة الجارية في البحث الدائم عن سبل وطرق لإدماجهم في نسيج المجتمع اللبناني اجتماعيًّا وتربويًّا وإنتاجيًّا من قبل المجتمع الدولي وواجهته الأمم المتحدة ومؤسساتها ومعها مجموعة المنظمات غير الحكومية المتلوِّنة ارتباطاتها وانتماءاتها في واحد من خطط استمرارية الحرب والتآمر على سوريا في سياسة تعتمد العصا والجزرة ترغيبًا وترهيبًا لحكومة لبنان ورئاستها الهزيلة، هذه القنبلة الموقوتة التي أضحى فتيل اشتعالها في مليمتراته الأخيرة مضافًا إليها قضية اللاجئين الفلسطينيين وظروفهم الصعبة والقاسية واللا إنسانية في مخيمات اللجوء التي ضربت عميقًا في جذور الأزمة اللبنانية، عملٌ حثيث وجهدٌ أمميٌّ ودوليٌّ متواصل في محاولة لإحداث خرقٍ أو ثقبٍ في الجدار السميك الرافض لهذه المشاريع المشبوهة.

مشاريع وبرامج وخطط واستراتيجيات وتمويلٌ يسيلُ له لعاب المقتاتين على آلام الناس ومعاناتهم. لقاءات وحوارات وأوراق عمل وأبحاث، تغلَّفُ بورقٍ لمّاعٍ يعكس صورة ذاك البائس على ورقة الدولار الأمريكي. منظمات دولية من جنسيات وألوان شتَّى، حركة مبعوثين نشطة بأسماء ومهام مختلفة، اجتماعات وورش تدريب تعقد هنا وهناك تكشفها حجم الحجوزات في الفنادق وجنسيات نزلائها، ظهر بعضها في وسائل الإعلام وأخرى لم تُرَ لها صورة ولم يسمع لها خبر مما يثير القلق والريبة من أهداف منظِّميها ومموليها والقائمين عليها، وأيضًا انسلال مشبوه لأفراد من حملة الجنسية المزدوجة وما أدراكم بهؤلاء، وما تسرّب من معطياتها التحريضية أكثر قلقًا وريبةً. ويمكن للباحث والمراقب والمتابع إحصاء عشرات المؤتمرات وورش العمل التي عقدت في الأيام القليلة الماضية وما سيُعقدُ منها في القادم من الأيام وسنشهدُ نتائجها وارتدادات أهدافها في القريب العاجل.

إنَّ هذا الحراك الدولي في لبنان وتجاهه ليس بريئًا كليًّا ويجدر التوقف عنده والتمعن فيه وما يطرحُ من خلاله وفي حلقاته الضيقة من أفكار مشبوهة تزيد من أزماته ومشاكله وأقساها أعباء النزوح السوري وتكلفته الباهظة اقتصاديًّا مترادفًا مع أزمات معيشية خانقة فاقمتها سرقة مدخرات اللبنانيين في البنوك، ضياعٌ وفساد في الإدارات والوزارات، تدهورٌ في قطاع التعليم الرسمي وتردٍّ في الاتصالات، ارتفاع في أسعار المواد الحياتية الضرورية وانقطاعٌ للماء والكهرباء وفقدان للدواء نتيجة للحصار الأمريكي الظالم وجبن الطغمة السياسية الحاكمة في لبنان مترافقة مع عربدة إسرائيلية يومية، كما وتعيدنا إلى أيام القلاقل والفوضى وأيضًا إلى مزيدٍ من الشرذمة والانقسام في الشارع ظاهرها اجتماعي وحياتي وباطنها ما خفي أعظم، ولطالما كان المبعوثون والقناصل والسفراء في الماضي البعيد والقريب منه وفي يومنا الحاضر منغمسين في أزمات البلاد وصراعاتها السياسية والطائفية ومحرضين عليها في الغرف المظلمة للسفارات.

لبنان في هذه الأيام فوق صفيحٍ ساخن بدأت تهتزُّ طبقاته وتنذرُ بما هو أسوأ أمام تداعيات أزماته المختلفة وانسداد أفق الحل فيه والتي تشكِّلُ أرضية خصبة نحو الاشتباك المتعدد الوجوه والساحات والشوارع. هي ليست نظريات وهمية حول المؤامرة بل هي وقائع ودلائل وقراءة في الأحداث والمعطيات، ولكم في مواقف الأفرقاء المختلفين الدوليين منهم والمحلّيين ممن يدورون في فلك السياسة الغربية والرجعية العربية خير دليلٍ وبرهان.

اساسيبيروتلبنان