إذا سلّمنا جدلًا بالاستقلال المكتوبة أحداثه في الكتاب المدرسيّ عن تاريخ لبنان، وإن تغاضينا عن التعتيم الحاصل على رجالات الاستقلال المقاومين أمثال أدهم خنجر والسيد عبد الحسين شرف الدين وصادق حمزة، وإن صمتنا، مراعاة لضرورات الشراكة الوطنية، عن مسرحية راشيا واعتمدنا السيناريو الفرنسي ذا الإخراج الركيك عن الاستقلال، تعالوا نفترض أن كلّ ما سبق مقنع وطبيعي، وأن لا داعي للتدقيق في التاريخ المدوّن والموزّع، ولنقف تمامًا في حاضرنا الذي لا نحتاج إلى وثائق ولوحات في الصخر كي نثبت أو ننفي أحداثه ونطرح بعض الأسئلة الطبيعية والمنطقية.
ما هو الاستقلال؟ وهل هو حال يتمتّع بها لبنان اليوم؟
يعرّف استقلال الدولة بكونه حالتها حين لا تخضع في قراراتها وخياراتها إلى أي تعليمات أو ارتباطات خارجية لا سيّما في ما يتعلّق بقراراتها الكبرى أو ذات التأثير المباشر والكبير على حياة مواطنيها.
من الطبيعي أن تؤثر التحالفات الدولية على خيارات الدول الأعضاء في كلّ تحالف قائم، دون أن يمسّ ذلك باستقلاليتها طالما لا يخضعها ولا يجبرها على ما يعاكس مصالحها.
التعريف النظري جميل لدرجة يتمنّى المرء أن يدرك زمانًا تتحوّل فيه النظرية إلى واقع مَعيش. السؤال البديهي هنا: هل لبنان اليوم هو بلد مستقل؟
بعيدًا عن الإجابة بنعم أو لا، لنجعل الاستفهام بابًا إلى سوق بعض الأمثلة التي تمكّن من استنتاج الكلّا دون جهد:
- منعت الولايات المتحدة الأميركية لبنان من القبول بالعرض الإيراني المكوّن من هبة فيول وإنشاء وصيانة معامل كهرباء. رفض لبنان المستقل العرض نزولًا عند رغبة أميركا كي لا نقول خضوعًا للأوامر الأميركية.
- منعت السفارة السعودية عقد لقاء بين مختلف الأطراف اللبنانية في السفارة السويسرية واعتبرت الأمر تهديدًا لاتفاق الطائف. التزمت الأطراف المعنية بالرضا السعودي بعدم الحضور، ولم يتم اللقاء.
- قرّرت السعودية عبر سفيرها البخاري وضع دفتر شروط لمواصفات رئيس الجمهورية دون أن يستدعي ذلك إنشاء مجلس أعلى لمواجهة التدخل السعودي الوقح في شأن لبنانيّ سياديّ ودون أن يشعر الكثير من اللبنانيين بهذا الانتهاك الفاضح والعلني، فيما نسمع بشيء اسمه المجلس الأعلى لمواجهة الاحتلال الإيراني، بغياب أي مؤشر حقيقي أو واقعي أو حتى ظرفيّ على وجود احتلال إيراني.
- تستدعي السفيرة الأميركية بين الحين والآخر بعض أدواتها ممّن يُحسبون زعامات لينانية لتقريعهم أو لإعطائهم التعليمات المباشرة. يطأطئون للتقريع ويلتزمون بالتعليمات دون أن ينبسوا ببنت شفة.
هذه الأمثلة وغيرها تنسف أساس تعريف الاستقلال، وتضع المبتهجين بالاستقلال في زاوية لا يُحسدون عليها فيها، فلا هم قادرون على نفي الخضوع ولا باستطاعتهم إثبات الاستقلال بتغيير تعريفه ومفهومه، أو تكييفهما مع الصيغة اللبنانية.
استقلال أم جلاء؟ الجلاء أم التحرير؟
يطيب للبعض تسمية عيد الاستقلال بعيد الجلاء، كما دُوّن على لوحة نهر الكلب. والجلاء هو خروج جيش أجنبيّ محتل من اقليم أو منطقة جغرافية تابعة لدولة أخرى. ولكن، هل يتحقّق الاستقلال بالجلاء؟ بحسب التجربة اللبنانية، بكل أسف، لا.
واقعًا، غادرت الكتائب الفرنسية لبنان. هل يمكن لعشاق فرنسا في لبنان نفي الدور الفرنسي في مفاصل السياسة اللبنانية؟ كلا. وإن غاب هذا الدور في مرحلة ما أو ضعفت وتيرة ظهوره، فذلك خاضع للتوازنات الدولية وليس لإرادة لبنانية بمنع التدخل الفرنسي.
عام ٢٠٠٠، اندحر جيش الاحتلال وعملاؤه عن لبنان. تمّ تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة بفعل ضربات المقاومة الواضحة والتي لا يمكن لمدوّني التاريخ التنكّر لها أو اسقاطها من الكتب لأنّها تشكّل جزءًا حيًّا من ذاكرة أجيال لم تزل على قيد الحياة. هل يمكن القول إن لبنان استقلّ بالجلاء وبالتحرير؟ في الواقع، يقودنا السؤال إلى إجابتين مختلفتين بحسب أي لبنان نحن نتحدّث عنه، وإذا تناولنا اللبنان الذي يتلهّف للحضن الصهيوني، سنلمح تأثير الدور “الإسرائيلي” في خياراته وأمنياته وحتى خطابه وسلوكه اليوميّ.
لقد أنجزت المقاومة مهمة إجبار الصهاينة على الانسحاب، لكنّها لا تستطيع إجبار المتصهينين على التمتّع بالاستقلال والكفّ عن الارتماء في الحضن الصهيوني بمختلف الأشكال والأساليب. من هنا، يمكن الاستنتاج بسهولة أن المستقلين هم من قاتلوا الاحتلال الفرنسي فأجبروه على جلاء جيشه، ومن قاتلوا الاحتلال الاسرائيلي وطردوه مهزومًا ذليلًا. هل يكفي هذا للحديث عن استقلال لبناني؟ كلا، فهذا الأمر ليس محلّ إجماع وطني، وبالتالي يصبح الاستقلال أقرب إلى كونه وجهة نظر من كونه حال سياسية سيادية متحققة ونهائية.
بكلام آخر، الجلاء الفرنسي لم يحقّق الاستقلال لأنّه كان حاجة فرنسية فرضتها ظروف مختلفة وأبرزها المقاومة التي تمّ اسقاطها عمدًا من الرواية التاريخية. أما التحرير، وإن حقّق هزيمة الصهاينة ومنعهم من تثبيت وجودهم ومشروعهم داخل الأراضي اللبنانية، إلّا أنّه لم يتمكّن من إخراج المشروع الصهيوني من قائمة أحلام بعض النفوس اللبنانية، فبقيت مرتهنة له بشكل مباشر، أو مرتهنة لصانعيه وأدواتهم من الولايات المتحدة الأميركية إلى فرنسا وبريطانيا وصولًا إلى السعودية.
بين الجلاء والاستقلال والتحرير وكل الأحداث التي عشناها في السنوات العشرين الأخيرة على أقلّ تقدير، ثبت أن لا سيادة لبنان الرسمي مسألة لا تتغيّر بتغيّر الوقائع والظروف الوطنية. تبدو وكأنّها شرط أساسي في عقد تأسيس، بخلافه ينتفي العقد ونتائجه.
بكل الأحوال، الاحتفاليات تعمّ الأراضي اللبنانية والسماء صافية والطقس جميل. كلّ عام وصنّاع السيادة والاستقلال والحرية والحياة بخير، فلولاهم لما أمكن أن يحتفي بشيء أحد، حتى أولئك الذين مرّغوا مفهوم الاستقلال في وحل السفارات.