تسيطر الفخامة على المشهد. تنتزع منه روحه الرياضية والتشكيل الذهني الأوّل لفكرة “لعبة الفوتبول”. ملاعب تغالي في تجهيزاتها الفاخرة. فنادق تقدّم الرفاهية للحاضرين بشكل يحوّلهم إلى “روبوتات” مدلّلة. عشب يفصح عن كونه اصطناعيًّا لشدّة ترتيبه فيحرم الناظر متعة توهّم مشهد طبيعي. استعراضات تدعّي تقديم النموذج العربي والإسلامي فيما هي في مضامينها وحتى شكلها لا تمتّ إلى العروبة والإسلام بصلة، مع حفظ بعض التفاصيل التي جاءت كلفّ بعض جوانب السمّ بغلاف من عسل، وتغطية “اسرائيلية” للحدث، من قلب الحدث! الثقل الذي يحدثه في العين مشهد الإسراف والبذخ السالب من الأشياء بساطتها وصورتها الأولى، يمسي مزيجًا من الاشمئزاز، والعتب، ولو في غير أهله.
لطالما شكّلت مباريات كرة القدم وجهة اهتمام معظم الناس حول العالم، واعتبرت من الألعاب الأكثر شعبية، نظرًا لكونها لعبة الفقراء التي لا يحتاجون للمال أو للمظاهر لممارستها أو مشاهدة بطولاتها المحليّة والدولية، كذلك بسبب كون الكثيرين من نجومها من “الفقراء” الذين تدرّبوا ولعبوا في أزقّة الأحياء الشعبية الفقيرة، بل الأكثر فقرًا.
٢٢٠ مليار دولار هي التكلفة التي دفعتها قطر لإنجاز تجهيزات وتحضيرات استضافة كأس العالم ٢٠٢٢. هذا البذخ الذي شوهد بالأمس في الحفل الافتتاحي لم يبد ملائمًا للعبة؛ بدا الأمر أشبه بعمل استعراضي ضخم تمرّ خلاله المباريات كإضافة أو كتفصيل غير أساسي في سياق العرض الفاخر، الفاخر جدًا.
الرقم عال جدًا مقارنة بالمبالغ التي دُفعت في كلّ الدول التي سبق واستضافت الحدث نفسه، ففي روسيا عام ٢٠١٨ بلغت التكاليف ١٤ مليار دولار وكانت كافية لتقديم البطولة بالشكل الملائم والطبيعي، فيما لم تتجاوز هذه التكاليف مبلغ ٣٤٠ مليون دولار في الولايات المتحدة الأميركية عام ١٩٩٤ وفي فرنسا عام ١٩٩٨. وسبب ارتفاع التكلفة في قطر إلى هذا المقدار الهائل لا يكمن فقط في كونها أنشأت البنية التحتية الكاملة للبطولة من الصفر فقط، بل في رغبة قطر بإدهاش العالم بمشهد يوحي بالثراء والفخامة، فسلبت اللعبة صورتها الأجمل: البساطة، وانتزعتها من رتبة الألعاب الشعبية إلى رفّ الاستعراضات الخاصة بالأغنياء فقط.
كلّ هذا قد يجد له المرء عذرًا إذا أراد. فليس لدى قطر تاريخ عريق يمكن أن تبهر به العالم كدولة، وهي لا تمتلك شخصية معنوية بملامح متناسقة فتترنّح بين القليل من المظاهر العروبية والإسلامية والكثير من التشكيلات الثقافية الهجينة التي تتوخى تقليد الغرب، فلا تصبح غربية تمامًا، وتفقد بالمقابل ما تبقى من صفاتها المشرقية. دولة حديثة عائمة على عائدات البترول والأموال الطائلة لن تقدّم أكثر من مشهد يوحي بالتباهي بالغنى. الأمر، بمقياس ما، قد يكون مفهومًا.
أما ما لا عذر فيه، فهو التباهي باستضافة الصهاينة وفرض وجودهم كمشهد طبيعي. هنا تتخطى الأشياء فكرة التطبيع. تتخطاها بشاعة وخيانة. تصبح اشتراكًا مباشرًا وفعليًا في كلّ ما فعل الصهاينة بنا.
يغطي الإعلام الصهيوني المباريات والفعاليات المرتبطة بالبطولة من أرض يقال إنّها عربية. الفكرة بحدّ ذاتها تؤلم مهما بلغ وعي المرء عن دور قطر ونظامها في استباحة دمنا. وإن كان لا يمكن اثبات ذلك بالنسبة إلى اليد الإسرائيلية، فهو مثبت بالنسبة إلى اليد التكفيرية التي دمّرت سوريا. الفكرة تهين كلّ عربيّ مهما بلغت درجة فهمه للأنظمة المرتبطة وظيفيًا وعضويًا بالكيان الصهيوني، ومهما بلغ يقينه أنّها تزول بزوال الكيان الصهيوني الذي يشكّل نواتها ككيانات وُجدت على هوامشه كي تدعمه وتنصره وتطبّع معه وتستضيفه على أرضها، وإن أنشدت ألف قصيدة في حبّ فلسطين.
بالمختصر، المشهد بشع، بكل المعايير التي استباحها المنظمون في سعيهم الحثيث لإبهار الغرب، سواء من الناحية المادية المتعلقة بالتكاليف أو من الناحية الأخلاقية والتي تتمثّل في المجاهرة بالخيانة إرضاء له. ولا يفوق هذا المشهد بشاعة إلّا حقيقة الدور القطري في محاولة الإجهاز على سوريا كعرين عربيّ يحفظ معالم الهوية القومية للبلاد.
والمشهد مسيء، يحتلّ المرتبة الثانية في الإساءة من بعد مشاركة قطر في العدوان على اليمن قبل أن يجري استبعادها من التحالف المعتدي عام ٢٠١٧ لأسباب تتعلق بخلافاتها مع السعودية.
والمشهد مقزّز، كتلقائية مرور السيّاح “الإسرائيليين” في الشوارع المحتفية بالحدث، كالتعاطي مع “الصحافيين الصهاينة” وكأن وجودهم بين الناس أمر طبيعي، كنفاق قناة الجزيرة وهي تحذّر الجماهير العربية من اعطاء التصريحات للقنوات “الإسرائيلية” لأن ذلك يسمّى تطبيعًا وكأنها لا تستضيفهم بشكل شبه يوميّ في برامجها. المشهد قطريّ جدًا، إلى الدّرجة التي تجعل المرء يشيح بوجهه اشمئزازًا وعتبًا ربّما على كلّ قطريّ ممن حفظوا قطرة من الشرف العربي. عتبٌ يمكن تداركه سريعًا وإسقاطه، فالعتب في غير أهله خطيئة.
لذلك، لذلك كلّه، ولأجل فلسطين التي تتاجر باسمها قطر في المحافل، ولأجل سوريا المنتصرة على سموم قطر، ولأجل اليمن العزيز المجروح بارتكابات قطر وسواها، لأجل دمنا الذي خضّب الأرض كي لا يمرّ عليها “صهيوني” بأمان، لأجل عيوننا المشبعة بالعزّ فلا تبهرها الأضواء الفاخرة، لأجل قيمنا وتقاليدنا وهويّتنا وثقافتنا، لأجل كلّ هذا وأكثر، لم تكن خسارة المنتخب القطري بالأمس خسارة عربية في مواجهة فريق غير عربي، بل كانت خسارة الغنيّ الخائن، خسارة لا تُحزن أحدًا، أبدًا.