لم تترك الأزمة الاقتصادية ركنًا من أركان هذا الوطن أو قطاعًا فيه إلا ورمت بثقلها عليه. ولم تكن الأزمة وحدها سببًا في تدهور وانهيار القطاعات، بل إن تآمر السلطة الحاكمة وجشع بعض أصحاب المصالح والتجار وغياب سلطة القضاء كانت المساعد الأبرز لتفاقم الأزمة وتضاعف أثرها.
وفي هذا السياق تكثر الأمثلة وتتعدد، لعل واحد منها هو قطاع العقارات وتحديدًا السكن، الذي كان فيما مضى يعاني من أزمات عديدة، ليأتي الانهيار الاقتصادي ويفاقم هذه الأزمات ولتصبح نتائجها أكثر قسوة وتأثيرًا على اللبنانيين ولا سيما أصحاب الدخل المحدود الذين يشكلون اليوم النسبة الأعلى من الشعب اللبناني.
دولرة الإيجارات تثقل كاهل اللبنانيين
مع دخول لبنان في موجة “الدولرة ” التي شملت تقريبًا كافة القطاعات الاقتصادية الخدماتية والإنتاجية، يخضع سوق الإيجارات لهذا الأمر، مربكًا بذلك حياة اللبنانيين الذين باتوا يتلقون الضربات من كل ناحية وصوب.
وفي ظل غياب سياسة إسكانية شاملة في لبنان، ومع عدم وجود مؤشر رسمي لبدلات الإيجار أو ضرائب على الشقق الشاغرة، بات المستأجرون في وضع هش ومقلق لناحية ضمان السكن واستدامته.
من جهة ثانية، فإن هذه الإيجارات تعتبر من الأغلى عالميًّا مقارنة مع الحد الأدنى للأجور والخدمات المقدمة والبنى التحتية المتوفرة في مختلف المناطق والأحياء، مما يجعل الإيجار حقًا منقوصًا في ظل كل هذه الظروف القاهرة.
وبالرغم من كل ما ذكر، يلجأ معظم المؤجرين إلى إبرام عقود الإيجار مع المستأجرين بالدولار بدلًا من الليرة، الأمر الذي يهدد عددًا كبيرًا من اللبنانيين بفقد منازلهم ومأواهم، نظرًا لعدم قدرتهم على تسديد قيمة الإيجارات التي تفوق في كثير من الأحيان رواتبهم المحددة بالليرة اللبنانية، فالإيجارات في العديد من مناطق العاصمة بيروت تحديدًا باتت لا تقل عن 150$ شهريًا، بينما ما زال الحد الأدنى للأجور لا يتعدى الـ 20$ للمواطن اللبناني، الأمر الذي يشكل تهديدًا وعدم استقرار لحياته.
وفي حالات عديدة، يترك المؤجر القرار للمستأجر في دفع الإيجار المحدد بالدولار الأميركي أو إخلاء المنزل تمهيدًا لمنحه لمستأجر آخر، وفي كلتا الحالتين يجد اللبناني نفسه عاجزًا عن إيجاد الحل المناسب.
أين القضاء من مسألة تحديد الإيجارات؟
يعتبر القضاء المرجع الأساسي في حل المسائل العالقة بموضوع الإيجارات، وذلك عبر الاستناد إلى القوانين التي تنظم هذه المسائل ومنها سوق العقارات والإيجارات.
وبالعودة إلى موضوع “دولرة ” الإيجارات، فإن القانون ينص على أن حرية التعاقد لا تعني أن الدفع بالدولار إلزامي، حتى وإن لم يذكر العقد القيمة بالليرة اللبنانية. فلا يحق للمالك عدم قبول العملة اللبنانية حسب المادة ١٩٢ من قانون النقد والتسليف، الذي ينص على إلزامية قبول العملة اللبنانية كون الموضوع يمس بسيادة الدولة.
بالإضافة إلى ذلك فإن القانون ينص على عقوبات وفقًا للمادة ٣١٩ من قانون العقوبات، بحق من يرفض تسلم قيمة الأجر بالليرة اللبنانية، وهذه العقوبات هي: حبس من ٦ أشهر الى ٣ سنوات وغرامة تتراوح من ٥٠٠ ألف إلى ٢ مليون ليرة.
ومن ناحية أخرى، فإن مصرف لبنان هو الجهة الرسمية الوحيدة المخولة تحديد سعر الصرف، وأي تعامل بسعر صرف مختلف هو تحميل مخاطر سعر الصرف الجديد للمستأجرين، كما أن جميع الخدمات تحدّد سعرها بالليرة اللبنانية ولا يجوز إلزام المواطن بتسديد أي فرق عملة سوى على البضائع المستوردة.
وينص القانون أيضًا على أنه إذا امتنع المالك عن قبض الإيجار بالليرة اللبنانية، فمن الممكن إيداع المبلغ عند كاتب العدل وإرفاق إفادة بسعر الصرف الرسمي بتاريخ الدفع لحفظ الحقوق، ووزارة الاقتصاد مطالبة هنا بإصدار تعميم ينص على احتكام بدلات الإيجار إلى سعر الصرف الرسمي.
وفي هذا الإطار تكثر المواد القانونية التي تنص على أحقيّة المستأجر بدفع إيجاره بالليرة اللبنانية، بالإضافة إلى ضرورة تحديد قيمة منطقية للإيجار المحدد من قبل المؤجر. وفي هذا الشأن تقدّم مجموعة من المحامين باقتراحات تتضمن ضرورة “وجود قانون يفرض غرامة على كل عقد يبرم بالدولار من الآن فصاعدًا، وقانون يفرض ضريبة على الشقق الشاغرة، وربط الإيجارات بمؤشر للتضخّم أو مؤشّر لارتفاع الحد الأدنى للأجور أو متوسّط المداخيل في القطاعين العام و/أو الخاص المقدّرة بالليرة اللبنانية – ويكفل هذا الإجراء حماية للمالكين والمستأجرين معًا، وأخيرًا بلورة السياسة السكنية التي بدأ العمل عليها في المؤسسة العامة للإسكان وتقديمها إلى المجلس النيابي”.
رغم وجود هذه القوانين التي تنظم قطاع الإيجارات، إلا أن الأمر يبقى مرهونًا بمدى تطبيقها والالتزام بها، إن كان من قبل المؤجرين أو حتى القضاء في حال الاحتكام إليه، ولكن أقل ما يمكن فعله هو تسليط الضوء على “شريعة الفوضى” التي نعيشها لعلّ ضمير أصحاب السلطة ومعها القضاء، الراقدين في سبات الفساد والظلم يستيقظ للحظة من سباته القائم منذ أكثر من ثلاثين عامًا.