“فقيد الشّباب”، “الشّهيد المجاهد”، بين كِلا التّعبيرين فروقات لا تُختَصَر بالمعنى وبضعة أحرف، وفي كِلا القلبين حبُّ الحياة، وشغف الشّباب الطّامح، فهل يموت الشَّهيد؟!
إن كان الفراق مؤلمًا، فما حال من اختاره بإرادته، يدفع نفسه ثمنًا رخيصًا في سبيل الإنسانيّة اللّائق بِذَرف الدّماء، فإن كانت الجراح تؤذي صاحبها، فهنا مقام من أنبَتَت جراحهم أملًا وحبًّا وحياةً، فطابت الجراح.
إنّها مقامات الشّهادة وليس معادلة الموت والاضمحلال، وسرّها في من شَهِدوا قبل أن يُستَشهَدوا، فكان للموت عندهم طعم العبور بكلّ الوجود إلى ساحة الحريّة الحقّة، فطاب الموت وطاب الجهاد.
هي صورٌ بل زينة ورونقُ شوارعنا، إذا أمعَنتَ النّظر فيها تراها تنطق بسرّ أصحابها، تكاد لا تخلو أماكننا من نورهم، كأنّهم معنا، فكيف يموت الشّهداء؟!
ثروة المال تُنقِصها النّفقة، وثروة الشّهادة تزكو على الإنفاق، وتُنمي زهور الأمل في قلوبٍ يئست من كثرة الشّرور، لِتُبقيها في قاطرة انتظار الفجر الموعود بالعدل وحُكم الحقّ.
عندما تجرّأ تجّار المواقف الضّحلة، فكتبوا وقالوا إنّها ثقافة الموت والحزن، فهُم قد سكبوا من سواد ونتانة ألسنتهم وعقولهم في دلو العاجز عن الشّكر، والعاجز عن التّحرر من قيد أنانيته، والعاجز عن تقبّل العزّة، والعاجز عن التّضحية في سبيل الحريّة، وهيهات أن يُدنِّسوا بعار أفكارهم شَرَف المقام وأنقى التّضحيات، وأجمل الصّبر.
هي تلك الصّور إذًا، حاضرةً رغم بُعد الأجساد، لِتبقى مِخرزًا في عين الحاقد والخائن، وتبقى شعارَ أيّامنا الّتي تجري نحو النّور ولو كَرِه المعتدون.
ما صَنَعه الشّهداء يفوق حضارة المادّة بما لا نهاية، وما أثبته شموخ عوائلهم يجرف الغرس السّقيم من الجذور، ومَن لا يدين بقول هذا الحقّ فَلْيَلعق أوعية الذّلّ الّتي وَلَغَت فيها كلاب الشّرّ والباطل، عسى يلحقهم فُتات ما تأكله من نَتِنِ المنهوب والمغصوب.
إنّها لَصعوبةٌ بالغة، أن يعترف الباطل بالهزيمة في ظلّ تعتيم سلطةٍ أجيرةٍ، لكنّ ذلك ليس ببعيد، فهذا الدّم الّذي يَذمُّونه لا محالة مُنتصِر، وسيغسل سواد العقول بماءٍ نقيّ، كي يرى جموع النّاس ويُدرِكوا معنى حقارة الباطل أمام رُقيّ الحقّ ورِفعته، ولِيُدرِكوا أنّهم قد جَهِلوا طويلًا نعمة الشّهداء، وصار لزامًا أن يقوموا بواجب إرث الدّم، ورَفعِ راية الإنسانيّة العُليا.
لقد رَحَل الشّهداء كي يحيا النّاس، هُم عند ربّهم أحياء، وللنّاس أن لا يُميتوا هدير الدّم المسفوك لأجلهم ولأجل عزّتهم والحياة.
افخَروا بشهدائكم أيّها الآباء والأبناء، فأنتم وَرَثة النّصر، وأنتم بقيّة الشّهداء، حُيّيتم وحَيٌّ فينا معدِن الدّماء.