عوّدنا الأمريكي دومًا أنه وعند إخفاق سياساته التآمرية في الهيمنة على الأنظمة والشعوب أن ينحو بمسار الأمور نحو الفوضى عبر بيادقه المنتصبة فوق رقعة الصراعات في أي مكان من العالم. وللقارئ أن يقدِّرَ صحَّة هذا الادعاء من عدمه في قراءة بسيطة لمجريات أحداث كان العم سام خلفها ومعها وفيها وإلى جانبها في تخريب أنظمة التحرر من هيمنة الاستكبار وأدواته وقهر الشعوب وضرب ونهب مصالح البلدان والأوطان، من شرق آسيا إلى غربها إلى الخليج الفارسي مرورًا بشمال أفريقيا وكلِّ الاتجاهات فيها عبورًا فوق الأطلسي إلى أمريكا اللاتينية ومن خلفها نحو الباسيفيك، حروبٌ شُنت، وفوضى خلّاقة للفتن والنزاعات نشرت وأدّت إلى اندثار أنظمة ونشوء غيرها وتفكيك أمم وضياع مستقبل أبنائها.
تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية أسوَد قاتم وسجلَّها الإجرامي حافل على مدى ما لا يقل عن 220 عامًا من عمر نشوء هذه الولايات حيث لم تترك دولةً في العالم لم تتدخل في سياساتها وعيش ناسها ووضع اليدِ على ثرواتها وتقرير مصيرها. وفي بحثٍ بسيط حول ما نقول نجد المعطيات بالتاريخ والأرقام ما يذهل ويثير الاستغراب إلى هذا الكم من الحروب والعدوان والاقتتال والاحتلال وتزكية النزاعات وارتكاب الفظائع بما يرتقي إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية.
تسعون حربًا خاضتها الولايات المتحدة على مدى تاريخها ومنذ القرن التاسع عشر ما بين العام 1833 تاريخ أول غزوٍ لنيكاراغوا في أمريكا اللاتينية وصولًا إلى العام 2015 م ومشاركتها ودعمها لتحالف العدوان والإجرام على الشعب اليمني المظلوم وما بينهما سلسلة طويلة من الغزوات والحروب والاحتلالات ونهب الثروات وتنظيم الانقلابات على الحكومات الوطنية المعادية لهيمنتها وزرع الشقاق والنزاعات بين الشعوب ودعم الحكومات الظالمة والفاسدة في وجه مواطنيها ومؤازرة الدول المعتدية على جوارها، تُظهِرُ وبوضوح هذه العقلية الإجرامية والوحشية لدى صنّاع القرار في الولايات المتحدة الأميركية حيث إنَّه في هذه الحروب ارتكبت جرائم يندى لها الجبين وتخجل منها البشرية جمعاء لما خلَّفته من قتل ودمارٍ وتشريدٍ ومعاناة للناس.
ولبنان ذاك البلد الصغير له تجربة عميقة ومريرة مع المحاولات الأمريكية لإخضاعه تارة بالمباشر وطورًا عبر الوكلاء والأزلام، من العام 1958م ونزول القوات الأمريكية على شواطئ بيروت وتقدمها إلى داخل المدينة لمواجهة الثورة الشعبية على حكم الرئيس كميل شمعون المتماهي مع السياسات الأميركية في المنطقة آنذاك وبناءً على طلبه لمنع الثورة من السيطرة على البلاد على خلفية “سقوط حلف بغداد” إبَّان الحرب الباردة مع السوفييت والذي أنشئ في إطار التصدّي للمدِّ الشيوعي في الشرق الأوسط. واستكملت حلقات الهيمنة الأمريكية على لبنان في ما تلاها من عقود بدعم التوترات الداخلية والقوى الانعزالية في الحرب الأهلية عام 1975م والاعتداءات والاجتياحات الإسرائيلية المتكررة وفرض اتفاقية الإذعان مع العدو الصهيوني في 17 أيار عام 1983م إبَّان حكم آل الجميل ومحاولات تثبيت رؤساء للجمهورية دمى وحكومات هزيلة تنفِّذُ ما يطلب منها، حيث كانت التسويات التي يرعاها الأميركيون تؤسس لمرحلة جديدة من الصراعات والاختلافات بين القوى السياسية في لبنان. وما زالت العبارة الشهيرة للمبعوث الأميركي ريتشارد مورفي “مخايل الضاهر أو الفوضى” خلال أزمة انتخاب رئيس للجمهورية في العام 1988م محفوظة في الأذهان، بل ذهب أكثر من ذلك بالتهديد ولو بشكل موارب بتقسيم البلاد إلى دويلات. وحينها دخل لبنان في دوامة جديدة من العنف والاقتتال انتهت بـ”اتفاق الطائف” وإنهاء حالة الحرب الأهلية والانقسام القائم بين المناطق.
ما أشبه اليوم بالأمس. وفي نسخة مطوّرة ومنقَّحة طالعتنا في الأيام الأخيرة مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى “باربارا ليف” في لقاء نظّمه «مركز ويلسون» عن السياسة الأميركية في لبنان في تبشيرٍ واضحٍ وصريحٍ بالفوضى والانهيار وفي تحريضٍ مكشوف على مقاومته وبتهديدٍ مبطَّن وخطير للقيادات والقوى السياسية وللنوَّاب قائلةً إنَّ “الوضع في لبنان قد يزدادُ سوءًا مع فراغٍ غير مسبوقٍ في السلطة” وإنها ترى “سيناريوهات كارثية وتفكك للدولة وفقدان للأمن وهجرة جماعية ومبشِّرةً بضغط شعبي في الشارع” يبدو أنهم سيقومون بتمويله وتنظيمه كالعادة.
واستكمَلَ التهديدات كل الدائرين بالفلك الأمريكي في لبنان من سفراء وسياسيين وقوى وأحزاب وقنوات فتنة وتحريض وأبواق إعلامية في التحذير من “أنَّ الأمور ستتطوَّر من سيئ إلى أسوأ “. وعلى ما يبدو أنَّ مشروعهم في الإمساك بالوضع السياسي قد فشل فشلًا ذريعًا وأنَّ خططهم في الهيمنة على المؤسسات الدستورية قد ذهبت أدراج الرياح وأن ما صرفوه من أموال طائلة ودعمٍ إعلامي غير مسبوق لما يسمى بمجموعات شينكر من التشرينيين الغوغائيين والفوضويين -هناك سعي لاستنهاضهم مجدَّدًا وفي القريب العاجل بنسخة مطوّرة تُنتجُ حاليًّا وأكثر تدريبًا- كلُّه لم يُحدِث تغييرًا ولا إذعانًا لدى القوى المقاومة والمناهضة للسياسات الأمريكية ولم توصل تمثيلًا يعتدّ به إلى مجلس النواب ليكون رأس حربة مشروعهم في اختراق المؤسسات وإرباكها وتطويعها، بل هم في مواقع الوهن والضعف ولأجل ذلك نسمع منهم ونقرأ هذه التهويلات بالفوضى.
هذه هي سيرة الولايات المتحدة في قهر الشعوب والهيمنة على قرارها الحر وفرض الإذعان، وعند الإخفاق يبدأ التبشيرُ بالفوضى وإزهاق الأرواح. في القرن الماضي كانت المكسيك والبيرو وهاييتي وبنما ونيكاراغوا والدومينيكان والصين وتركيا وتشيلي وهندوراس وغواتيمالا وكولومبيا وإيران وكوبا وغرانادا ولاووس والفليبين وفييتنام والحربان العالميتان الأولى والثانية وجرائم العصر في هيروشيما وناكازاغي وحديثًا في أفغانستان والبوسنة ويوغسلافيا والعراق والسودان والصومال وسوريا وليبيا واليمن خيرَ دليل ومثال.