من واقع داخلي مأزوم مصحوب بانخفاض تاريخي في سعر صرف الجنيه الاسترليني، ومخاوف من معدلات تضخم كارثية، بالتزامن مع عودة لغة الحرب إلى أوروبا من بوابة أوكرانيا، احتل ريتشي سوناك، وهو وزير مالية سابق، من أصول هندية، صدارة المشهد السياسي في بريطانيا مع فوزه بانتخابات زعامة حزب المحافظين، ليتبوأ بالتالي منصب رئاسة الوزراء، خلفا لليز تراس. بالنسبة للبعض، يعيد صعود الرجل “الملون”، المستشار المالي والخبير المصرفي، إلى المنصب الرسمي الأرفع في بلاده، إلى الأذهان تجربة الرئيس الأميركي السابق، ذي الاصول الافريقية، باراك أوباما. وبالنسبة لكثيرين، تبدو التجربة من أصلها منفصلة تمامًا عن الجذور العرقية والثقافية للرجل، وملتصقة أكثر بحقيقة واحدة بطلها شخصية ثرية أخرى، بثروة تقدر بنحو مليار دولار، تشق طريقها بنجاح إلى “جنة” السلطة.
ورغم ذلك، يبقى أن المناخ السياسي العام السائد داخل الولايات المتحدة عشية وصول اوباما الى سدة الحكم، بدءًا بمجتمع منقسم على نفسه، وأزمة اقتصادية لم يشهد لها العالم مثيلًا منذ عشرينيات القرن الماضي، بالتزامن مع أضرار جانبية لحقت بصورة “النموذج السياسي والأخلاقي” للنظام السياسي الأميركي، على المستويين الداخلي والدولي، يتشابه بالفعل إلى حد كبير ما تعايشه بريطانيا اليوم مع تولي سوناك دفة القيادة. وكما وجد النظام السياسي لأميركا ضالّته في تجديد الدور، والزعامة الدولية “البيضاء” لواشنطن بـ “ثوب ملون” يقيها “عورات” تدخلاتها العسكرية في الشرق الأوسط، مثّله المحامي وعضو الكونغرس الشاب، وخريج جامعة هارفرد العريقة آنذاك، يكاد ينسحب المشهد نفسه في لندن هذه المرة، في سياق مشابه وإن بهالة أقل، بالنظر إلى التفاوت الكبير في الحضور الدولي للبلدين.
فالواقع البريطاني، الذي يئن تحت ضغط ضعف الأداء الاقتصادي، والانهيار الوشيك لقطاعات بكاملها بانتظار خطة الحكومة الجديدة للجم تداعيات ارتفاع فاتورة الطاقة، وتكاليف الإنتاج، وأزمات اجتماعية متلاحقة، يكتنفه تضرر السمعة المالية الدولية للبلاد بسبب سياسات الحكومة السابقة في مقاربتها الاقتصادية والضريبية، إلى جانب وجود “أزمة قيادة” انسحبت على البلاد، والحزب المحافظ في آن معًا بعد سقوط حكومتين محسوبتين على الحزب نفسه في ظرف أقل من شهرين. هو زمن بريطاني صعب توارى معه منذ وقت ليس بقليل عصر “القادة التاريخيين” لإمبراطورية قيل يوما إنها “لا تغيب عنها الشمس”.
وعلى ما يبدو، فإن علامات الأزمة التي أصابت المنظومة السياسية في لندن، صبّت في صالح السياسي الطموح، وخريج جامعتي “أوكسفورد”، و”ستانفورد” ذائعتي الصيت. ومنذ الساعات الأولى لإعلان فوزه بالزعامة، انهالت على سوناك رسائل التهنئة من قادة العالم، خلافًا لحجم الثناء الدولي الضئيل الذي نالته تراس.
ومنذ ما قبل أن يتسلم الوافد الجديد إلى داونينغ ستريت مهامه بصورة رسمية، بدت مهام الانقاذ العاجلة، وما أكثرها، تداهم جدول أعمال الحكومة الجديدة. فمع معدل تضخم سنوي لامس حدود 10.1% خلال شهر أيلول/سبتمبر الماضي، وهو المعدّل الأعلى في 40 عاما، والمطلب المزمن لإسكتلندا بإعادة الاستفتاء على الانفصال عن لندن، ومشهد الوحدة الهشة التي باتت تطبع علاقات المملكة المتحدة مع ايرلندا الشمالية عقب الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، لا تبدو المهمة سهلة على الزعيم البريطاني الجديد.
وفور الإعلان عمن سيخلف رئيسة الحكومة السابقة، ليز تراس والذي كثيرا ما يتفاخر بأصوله الآسيوية، كان مشهد الاحتفالات في صفوف الجالية الآسيوية، في الحي الهندي في ساوث هول، شمال غربي لندن، والذي يعد أحد أكبر أحياء الجالية داخل المملكة المتحدة، منقطع النظير، خصوصا وأنه تزامن مع احتفالات “عيد الديوالي”، أو “عيد الأنوار” لدى الطائفة الهندوسية، وهذا ما عده بعض أبناء تلك الطائفة “فألًا حسنًا” عما ينتظر مستقبل المملكة المتحدة في ظل ما يرونه “مرحلة ضبابية”.
الحدث الذي تفاعل معه الإعلام العالمي باعتباره منعطفًا تاريخيًا، شخصه الإعلام البريطاني من زاوية المهام السياسية والأجندة الاقتصادية المرتقبة، بعد تأجيل عرض موازنة الحكومة الجديدة. من جهتها، علّقت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية ذات الميول الليبرالية على هذا التطور معتبرة أنه “يحقق اختراقًا نوعيًا لصالح التعددية” في المجتمع البريطاني، و”علامة فارقة” بالنسبة للبريطانيين من أصول هندية.
في المقابل، ينظر إلى أن ثروة الرئيس الجديد للحكومة، وتعليمه العالي في جامعات بريطانيا العريقة، تضعه في خانة “الطبقة المخملية”، وتجعله أقرب إلى أن يكون أحد وجوه “النخبة المتنفّذة” المألوفة في الواقع السياسي للمملكة المتحدة، أسوة بأسلافه في داوننغ ستريت، علمًا أنها سمات مفتاحية قد تكون هي ذاتها أداته لإقناع مواطنيه ببرنامجه الحكومي، أو القوة الدافعة وراء سقوطه. هذا الواقع الملتبس لصعود سوناك، يفسر نوعًا ما حالة الفتور الذي تعيشه بعض أوساط الجالية الهندية، والتي تعتبر أن الخلفية الطبقية والعرقية للرجل، ليس وحدها كفيلة بجعله خير من يعبّر عن تطلعات وآمال هذه الجالية. وفيما يخص موقف عموم البريطانيين، فإن غالبية الآراء تميل إلى تشبيه سوناك بمن سبقوه في زعامة الحزب والحكومة، وتعلق آمالها قبل كل شيء على انعكاسات ملموسة للتغيير الحكومي على الوضع الاقتصادي، والمسائل المرتبطة بالأجور، والسكن، وغلاء المعيشة.
تحت سطح هذا المشهد المشحون بالحماسة والتفاؤل لدى أبناء ثاني أكبر مجموعة اثنية في البلاد، والمقدر عددهم بنحو 1.5 مليون نسمة، متركزين في إنكلترا ومقاطعة ويلز، يبدو مفهومًا أن الخلفية العرقية أو الدينية للساكن الجديد في داوننغ ستريت، وهو مشهد غير مألوف بطبيعة الحال، لن تنسحب بالضرورة على تبنيه مشروعا سياسيا “راديكاليا مغايرا” لمصالح النخبة المتنفذة في المملكة المتحدة، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، كأن يتبنى نهجا اقتصاديا معاكسا لتلك المصالح، أو السير في مشاريع خارجية خارج السياقات التاريخية المعهودة للحلف “الانجلوساكسوني”، والخطوط العريضة لمعسكر الرأسمالية الغربية. وفي هذا الإطار، هناك من قابل تولي سوناك المنصب الحكومي الأرفع، بتشكيك مرتبط بخلفيته الاجتماعية البعيدة عن الطبقة العمالية، وبثروته العائلية الهائلة، على خلفية زواجه من ابنة أحد أغنى رجال الأعمال الهنود، إضافة إلى امتلاكه وزوجته أكشاتا مورتي، حصة من أسهم شركة والد الأخيرة “إنفو سيس”.
ورغم ما سبق، فإن ذلك لا يحجب من سيرة الرجل خبرته الواسعة في عالم التمويل والمصارف، بفضل عمله سابقًا لدى “غولدمان ساكس”، فضلًا عن تسلمه حقيبة المالية خلال فترة وباء كورونا في حكومة بوريس جونسون. وإذا كان انتخاب سوناك قد يترك آثارًا ايجابية لدى طبقة ابناء المهاجرين داخل المملكة المتحدة، كونه يعطي مؤشرًا واضحا حول اتساع هامش التمثيل السياسي في المجتمع البريطاني، إلا أنه من غير المرجح أن يفضي إلى تلاشي النظرة العنصرية تجاه المهاجرين، أو المواطنين من أصول غير بريطانية، التي تبقى مستوياتها مرتفعة بين الأكثرية البيضاء، والأقلية الملونة، أو في تبني الحكم الجديد سياسات هجرة “أكثر تسامحا” داخل مجتمع لا يزال في عداد الشعوب الأوروبية التي تتعاطى مع مسألة الهجرة بحساسية شديدة.
الواقع، أن وجهة النظر تلك تجد من يؤيدها انطلاقًا من خلفية “الثري الملون”. وما تذهب إليه المديرة التنفيذية السابقة لمنظمة EqulaityTrust، الناشطة في المجالين الإغاثي والحقوقي، زبيدة حق، يؤيد هذه الفرضية إذ ترى أن “مسألة مشاعر الفخر التي قد يثيرها انتصار سوناك (في نفوس أبناء الجالية الهندية)، ينبغي أن توضع في نصابها الصحيح”، مشيرة إلى أن دلالاتها الإيجابية على صعيد التمثيل السياسي لمختلف فئات الشعب البريطاني لا يمكن انكارها. من جهة أخرى، تلفت حق إلى أن ما وصل إليه سوناك لا يعني أن مجتمع بريطانيا يوفّر قدرًا كبيرًا من مستويات الحراك الاجتماعي لأبنائه، أو أن مسألة انعدام المساواة العرقية فيه لم تعد قائمة، وذلك في ضوء انتماء الأخير إلى “الطبقة المخملية” في هذا المجتمع، وبعد الحملة العنصرية الشرسة التي وقع ضحيتها سوناك نفسه لدى ترشحه لزعامة “المحافظين” في وجه تراس قبل أسابيع قليلة.
وفي السياق نفسه، يجزم محللون بأن ظاهرة العنصرية داخل المجتمع البريطاني عميقة، ولا يمكن أن تتلاشى بين ليلة وضحاها لمجرد انتخاب رئيس حكومة من أصول مهاجرة، لا سيما أن سياسة “حزب المحافظين” الذي بات يتزعمه سوناك، معروف بنهجه التقليدي المعادي للمهاجرين، والمتشدد في سياسات اللجوء، على غرار ما شهدنا إبان حكومة جونسون الذي دعا إلى ترحيل لاجئين إلى دول افريقية، مثل روندا.
وفي أحسن الأحوال، تنحصر مهمة الرجل وفق البعض بترتيب البيت الداخلي لحزب المحافظين على خلفية احتدام الصراع بين عدد من اجنحة الحزب، ولا سيما بين أولئك المحسوبين على رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، والمعارضين له بعد تنحيه عن زعامة الحزب والحكومة قبل أن تخلفه تراس. أما، وقد كان وصول سوناك إلى المنصبين مفروشًا بالتزكية، فهو أمر يصب، وفق مراقبين، في اتجاه اعادة اللحمة الداخلية لـ “المحافظين”.
مهمة أخرى لا تحتمل التأخير في معالجتها تنتظر الحكومة الجديدة، وتتعلق ببرنامجها الاقتصادي والاجتماعي. فمن جهتها، تعتبر الرئيسة التنفيذية لمعهد Runnymede Trust للبحوث المتخصصة في قضايا المناصرة الحقوقية والمساواة العرقية، أن انتخاب سوناك لحظة تاريخية حاسمة لدى أبناء الجالية الهندية، موضحة أن غالبية البريطانيين بدورهم “سيترقبون الإجراءات العاجلة التي سوف يتخذها من أجل التغلب على العاصفة الاقتصادية”.
وبالفعل، لا يبدو دخول سوناك، المعروف في عالم الاقتصاد والأعمال، والذي سبق أن شغل خلال مسيرته السياسية مناصب حكومية ووزارية، بعيدًا عن الهم البريطاني بالعمل على معالجة التحديات الناجمة عن الأزمة الاقتصادية الحادة التي باتت تهدد قطاعات اقتصادية وعمالية عديدة، وهو مشهد يعيدنا إلى مشهد دخول اوباما إلى البيت الأبيض في عز الأزمة المالية العالمية، قبل أن ينجح إلى حد كبير في لجم تداعياتها على الاقتصاد الأميركي. وكأنه قدر تخطّه الرأسمالية للقادة، في دورات أزماتها المزمنة.
رئيس “ملوّن” آخر على سدة حكم دولة كبرى أخرى، للإمساك بزمام أزمة. فإن نجح ينجح ومعه النموذج الغربي في الحكم، وإن فشل يسقط وحده، لتعلو من جديد لهجة العنصرية، ويعيد النموذج البحث عن حلول بنسخة “ترامبية” متجددة في بريطانيا، شهدنا نسختها الأميركية مسبقًا بعد انقضاء عهد أول رئيس، من أصول افريقية. فهل ينجح سوناك في مهمته “الانقاذية” ؟ وكم سيطول عهد “التعددية” و”الانفتاح الثقافي” في بريطانيا قبل أن تبدأ العنصرية “ثورتها المضادة”؟