مرّ عام على ذلك اليوم الذي أفجعنا فيه البخاري، سفير خيمة تلاقي السياديين جدًا، بقراره المفاجىء بالرحيل عن لينان، تاركًا عياله، متخلّيًا عن سائر غلمانه وجواريه، هاجرًا إلى دار أهله، منتظرًا أن تقوم الدنيا ولا تقعد مراضاة له ووقوفًا على خاطره.
ذهب، ولكن اقتصرت قيامة الدنيا على بعض المنابر الافتراضية التي تدعوه للعودة، وعلى رجل مسنّ تمدّد أرضًا وغطّى نفسه بالعلم السعوديّ اعتراضًا، بالإضافة إلى بعض ردّات الفعل الفنيّة التي حاولت تطييب خاطره بالهجوم على كلّ من يعاديه البخاري في البلد، لاعتبارات فنية مهنية تتعلّق بالمصالح والأسواق التي جلّ زبائنها من آل سعود، وحاشياتهم.
نستذكر اليوم هذه الحادثة كمدخل إلى حديث يطول عن نشاط البخاري في البلد بعدما كبّر عقله وعاد من دون أن يُنادى، وحرصًا على واجبنا كمواطنين بالإشارة إلى نشاط السفراء وتفانيهم في العمل الدبلوماسي، حدّ تجاوزهم لجميع الاعتبارات المنطقية والأخلاقية والسياسية والدبلوماسية. والبخاري خير مثال على هذا التفاني، والدليل على ذلك أنّه عاد وحيدًا ما إن تبيّن له أنّ الفريق الذي أفنى في تمويله وتجهيزه وتحريضه وإداراته في البلد، سرح كالفأر ما إن غابت القطّة عن الخيمة، وما إن ابتعد ظلّ المنشار عن حركته اليومية. المهم أنّه عاد ليدير بنفسه الماكينات والحملات الانتخابية المعادية للمقاومة بعدما تأكّد أن الصبيان يأخذون ماله ولا يجتهدون في تنفيذ أوامره.
عمليًا، أدار البخاري العمل الإنتخابي من ألف قانونه إلى ياء نتائجه، وتولّى كذلك إحياء حفلات توبيخ وتقريع بعدما اكتشف المسكين أنّ جبال تفانيه تمخّضت عن فئران متناحرة، وأنّ كلّ ما بذله لم يكفِ لتحقيق ثقل وازن في المجلس النيابي، وبعدها توجّه إلى المملكة ليُوبّخ ويُقرّع بدوره على الفشل الذريع ذي التكلفة العالية.
وعاد! عاد أكثر إصرارًا، فمن صفاته أنّه رغم الهزائم المشهودة والمتلاحقة لا يتخلى عن طموحاته، أو هو مجبر على مواصلة تولّي الملف اللبناني. لا ندري. لكنّه عاد وعينه على قصر بعبدا.
كمكوك الحايك كان يجول بين الأطراف، المنبطحة في خيمته طبعًا، كي يعيد ويكرّر المواصفات التي تشترطها بلاده في رئيس الجمهورية، خاتمًا في بعض المرات حديثه بالمحاضرة في أهمية الحرص على سيادة لبنان، وناسيًا في البعض الآخر هذا التفصيل الذي لا ينطلي على أحد، حتى أولئك الذين يصفّقون له قائلين بلهجته “طال عمرك”.
الآن، على أعتاب الساعات الأخيرة قبل الفراغ الرئاسي، القلب ينظر مشفقًا نحو البخاري. جهد سنينه لم يثمر، ولم يستطع بأي طريقة أن يفرض مرشحًا له لرئاسة الجمهورية. ينتظره الكثير من التقريع في الرياض، ويلزمه جهد أسطوري ليحقّق شيئًا يُذكر في بيروت.
الإشفاق من شِيَم الكرام، ونحن أجمل أهل الكرم والكرامة، فكان لا بد لنا من ذكر البخاري في هذا اليوم المرتبط بذاكرة “حرده”، واستذكار مآثره في الخيبات التي تعرّض لها، والهزائم التي مُنِي بها، تقديرًا منا لجهوده في مختلف المجالات.. وللتقدير تتمّة.