عن الأمّهات.. لبؤات “عرين الأسود”

من يتابع بعين القلب “عرين الأسود”، ولا يكتفي بالمشهد الظاهر وبالتحليلات والمعطيات التي تقاس بها الأعمال الحربية، يدرك أننا أمام كتيبة استشهاديين؛ أمام عقل شديد الحدّة في قياس خياراته، وأمام قلب أسد، لا يرتجف في المواجهة وأمام مسار محدّد بدقّة، لا يستعجل ولا يتباطأ. يتحرّك بخفّة وازنة، ويدرك جيّدًا كيف يؤلِم عدوّه، وكيف يحيل تألّمنا ذخيرة تكفي لمواصلة الطريق.

نابلس وجنين أرضان محرّرتان بفعل احتضانهما لعرين الأسود، فالأرض التي يشيّد فيها الأسد عرينه هي أرض حرّة ولو حاصرتها أو تسلّلت إليها الذئاب والعناكب، والأرض التي تستحيل كهفًا يليق بسكنى الأسود هي أرض عالية محصّنة لا يستقر فيها المارقون، والأرض التي يعيش فيها ويحميها تشكيل من أسود وتصبح عرينهم، لا يمكن أن تخضع مهما طال حصارها ومهما تنوّعت أسلحة المحاصِرين.

وحين نتحدّث عن أسود في عرين، يأخذنا اللفظ إلى لبؤات أجدن تربية الأشبال، ومن بعض صفات اللّبوة حسن التربية ورفعة الرأس والعزَّة. كذا أمّهات الشهداء في عرينهنّ.

من المعلوم أنّ الأمومة هي التراب الذي تنمو فيه ورود الشهادة، وأنّ للأمّ قدرة أساسية في تشكيل روح المرء وفي صناعة ثقافته وعدّته الفكرية. في عرين الأسود، الأمهات لسن فقط المربيات اللواتي ينشأ في كنفهنّ الجيل المقاتل والمحارب، هنّ المدرَّبات بفطرتهنّ على تلقّي رصاصات الفقد بصبرٍ جميل، فيغدو أبناؤهنّ مدرّبين بفطرتهم أيضًا على استقبال رصاصات الاستشهاد بعد تحقيق أكبر عدد ممكن من الإصابات في صفوف العدو.

الشهداء ببساطة هم صنيعة أمهاتهم، ومَن لا يصدّق، فليعد إلى التسجيلات التي توثّق حضور الأمهات عند جثامين الغوالي، وفي جنائزهم، وليرَ كيف تستحيل الأمومة جبلًا يحوي ألف عرين في “مع السلامة يُمّا”.

في كلّ مرّة نقف فيها أمام عظمة أمّ الشهيد، يغلبنا العجز عن إدراك قوّة وغزارة العاطفة التي تسكبها في كلّ القلوب امرأة للتوّ طُعنت في قلبها. فالفقد في كلّ الحالات طعنة، ورؤية الغالي مسجى تحت غطاء من دمه نزيف سيتواصل في كلّ ذرّة منها حتى تلتحق به. لكنّها مع ذلك تقف صلبة، تطيل وقوفها بمواجهة الكلّ الذي يراقب كلّ سكناتها وحركاتها. تُظهر كلّ ما هو عكس ما يريده قاتلها، تبتسم حيث يريدها باكية، تتعالى على الوجع حيث يريدها منهارة، تخطب وتنصح وتنوجّه حيث يريدها وجهة للمواساة وللتعزية. بكل عزيمة تكمل المشهد الذي بدأه ابنها مشتبكًا، قل هي تواصل الاشتباك بطريقتها، بأدواتها، ولذلك عند قدمي كلّ شهيد، ينهزم العدوّ مرتين.

المشهد ليس غريبًا، فطينة أمهات الشهداء واحدة على امتداد الأرض المقاتِلة، وعلى امتداد الزمن الشاهد على الحق وهو يصارع الباطل ويصرعه، حتمًا يصرعه، فخاتمة الحكايات الخيالية بانتصار الخير على الشرّ هي الجزء الأكثر واقعية فيها. والتاريخ شاهد على ذلك، لمن يطالع التاريخ بعين الموقن بالنصر، الساعي إليه مهما اشتدّت العوائق والعواقب. وهذا النصر مرهون حكمًا بقدرة الأمومة على صناعة اليقين وبثّه في قلب الابن، ليصير مقاتِلًا يدرك أن آخر طريقه النصر، وأن الاستسلام والتنحّي ليسا خيارًا مقبولًا.

في عرين الأسود، أمهات دسسن في خبزهن كلّ ما حوَت أرواحهنّ من عاطفة وصلابة، وأرفقن كلمات الدلال بعبارات الوداع كي يكبر الصغير شهيدًا على حبّ البلاد، وكي ينمو الشبل بسرعة، فالأرض لا تنتظر.

رأيناهنّ، عرفناهنّ، عشنا معهنّ، غسلن قلوبنا بدمعهن العزيز، رفعن فوق كفوفهنّ، على مرأى العالم، حبّات أعينهنّ وفلذات قلوبهن قرابين فداء عنّا جميعًا. تغلب في المقطع نون الأمومة، فالأمومة مصنع اللغات، وما الشهادة سوى لغة لا يتقنها إلّا من به شرفٌ رفيع وعزّة.

اساسيعرين الاسودفلسطين