شكل انتخاب عبد اللطيف رشيد رئيسًا جديدًا للعراق، في الثالث عشر من الشهر الجاري، محطة مفصلية على خط أزمة حكم متواصلة في العراق، عكستها حالة الانسداد السياسي المستعصي خلال ما يقرب العام منذ إجراء الانتخابات البرلمانية الأخيرة أواخر العام 2021، وتفجّر الوضع الأمني بصورة وجيزة، ولكن دموية، خلال الصيف الماضي. وبعد مراوحة سياسية طال أمدها في ظل عدم قدرة قوى “الإطار التنسيقي”، و”التيار الصدري” خلال الأشهر الماضية على فرض إرادتهما حكوميًا، وصرفها لناحية حسم هوية المرشح لرئاسة الحكومة، جاءت استقالة نواب “التيار الصدري”، وما تلاها من توترات أمنية في الشارع، حملت نتائج معاكسة للـ “الصدريين”، وأفضت إلى ضيق هامش خياراتهم في معادلة الحكم لصالح خصومهم “التنسيقيين”، بعدما مالت كفة الأكثرية البرلمانية إليهم.
خطوة أولى لإنهاء حالة المراوحة السياسية
ومع تسلّم الرئيس العراقي الجديد مهماته بصورة رسمية، تم تكليف محمّد شيّاع السوداني، وهو مرشح قوى “الإطار التنسيقي”، لرئاسة الحكومة الجديدة، على أن يعرض تشكيلته الوزارية على البرلمان خلال مهلة لا تتعدى الثلاثين يومًا. التطور الأخير، سبقه عودة مجلس النواب إلى استئناف جلساته أواخر أيلول/ سبتمبر الفائت بعد توقف دام نحو شهرين، وإعادة تجديد الثقة برئيس البرلمان محمد الحلبوسي بعد إعلان استقالته مؤخرًا.
في الإطار العام، يشير موقع “ستراتفور” إلى أن تكليف السوداني يشكل الخطوة الأكثر تقدمًا على صعيد وضع حد للتأزّم السياسي الحاصل منذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة. كما أنها تحمل دلالات على نية القوى السياسية الفاعلة تنحية الخلافات في ما بينها بعد تغيّر خارطة التحالفات مع استقالة كتلة “التيار الصدري”.
بدورها، تعتبر صحيفة “نيويورك تايمز” أن انتخاب رئيس جمهورية جديد في العراق يشكل الخطوة الأولى نحو الخروج من حالة المراوحة السياسية. على الصعيد ذاته، رجّح موقع “ميدل إيست آي” أن تتركز أولويات العهد الجديد على تمرير الموازنة الاتحادية، وإيجاد حلول للأزمات الاقتصادية والمعيشية، على رأسها أزمة البطالة، فضلًا عن إطلاق مشاريع تطوير البنية التحتية والخدماتية للبلاد.
وكمؤشر على ارتفاع أسهم مساعي خروج العراق من عنق الزجاجة على المستوى السياسي، قيام تحالف “إدارة الدولة” الذي يضم قوى “الإطار التنسيقي”، إضافة إلى أطراف سياسية كانت حليفة للصدر، من المكونين السني، والكردي، وفي طليعتها “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني” إلى جانب “تحالف السيادة” برئاسة خميس الخنجر.
موقف التحالف السياسي الجديد من الصدر
ووفق بعض الباحثين المتخصصين في الشأن العراقي، فإن أي حكومة جديدة، لن يُكتب لها النجاح دون تأييد ضمني من قبل الصدر، الذي ظل متمسكًا في الفترة الماضية بمطلبه بالإبقاء على مفوضية الانتخابات وقانونها، توازيًا مع السير نحو انتخابات برلمانية مبكّرة. ويرى هؤلاء أن الصيغة التي خرج بها الإعلان عن “تحالف إدارة الدولة”، الذي ضم معظم الكتل البرلمانية بعد انسحاب الصدر، تستبطن خشية من رد فعل الأخير، ووجود تسوية خلف الكواليس معه قبل ذهابها نحو تشكيل الحكومة الجديدة، خصوصًا وأنها أعقبت جولات تفاوض بين قوى التحالف الجديد، من ناحية، وبينها وبين “التيار”، من ناحية ثانية.
في المقابل، يرى “معهد دراسات الشرق الأوسط” أن “الإطار التنسيقي”، وحلفاءه ماضون في الوقوف خلف السوداني ودعمه لتشكيل حكومة جديدة، مشيرًا إلى أن الصدريين يرون أن الأخير لا يعدو كونه واجهة لرئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي. وينقل المعهد عن مصادر سياسية “معتدلة” داخل “الإطار” تحذيرها من مغبة استفزاز الصدر حكوميًا، مع تشديدها على أهمية مواصلة الحوار بين “الإطار” والقيادات السنية، والكردية على رأسها رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود برزاني. وتتساءل تلك المصادر عمّا إذا كانت تلك القيادات قد تخلّت بالفعل عن تحالفاتها مع الصدر، ملمحة إلى وجود تباينات داخل “حلف إدارة الدولة” حول نهج التعامل مع الصدر في ملف تشكيل الحكومة.
وبحسب المصادر نفسها، فإن عدم انفتاح “الإطار التنسيقي” على استكمال الحوار مع الحلبوسي، والبرزاني خلال المرحلة القادمة بشأن طرح مقاربة إيجابية إزاء مطالب الصدر، فضلًا عن المطالب الخاصة بكل منهما، من شأنه أن يستجلب “ردود أفعال عنيفة محتملة” أو “تشكيل حكومة ضعيفة”.
الصدر بين السلطة و”الثورة”
ومع تواتر الأنباء حول عدم نية التحالف الجديد، عزل الصدر، ووجود تفاهمات أولية بين أطرافه بشأن مستقبل العلاقة مع الصدر من جهة، والمهام المنوطة بالحكومة والبرلمان خلال الفترة المقبلة، من جهة ثانية، قبل الشروع في إجراء انتخابات تشريعية مبكّرة، يذهب موقع “ستراتفور” إلى أن نجاح السوداني في مهمته الحكومية يعتمد إلى حد كبير على الكيفية التي سيعترض بها “الصدريون” على التشكيلة الحكومية العتيدة لخصمهم، المحسوب على ائتلاف “دولة القانون” بزعامة نوري المالكي، سواء بالاحتجاج السلمي أو عبر اللجوء إلى العنف.
ورغم التباينات بين “الصدريين”، وما يُعرف بـ “قوى الحراك” المنبثقة عن تظاهرات تشرين الأول للعام 2019، على خلفية تصنيف “التيار” كجزء من الطبقة السياسية الحاكمة في العراق، فإن مواقف الصدر المتشدّدة من السلطة السياسية، وتصوراته “الراديكالية” حول شكل النظام السياسي الأمثل للبلاد، وتحديدًا موقفه الرافض للمشاركة في أي حكومة مقبلة، يجعله صاحب سلطة تأثير واسعة على الرأي العام، وقدرة كبيرة على تحريك الجماهير، وبالتالي العودة إلى المربع الأول للأزمة. هنا، يبدو الهامش الضيق الذي يتحرك فيه الصدر واضحًا، ذلك أنه غير قادر على الموافقة على المشاركة في حكومة يرفضها، وفي الوقت نفسه لا يملك خيار التحالف مع “القوى الثورية” التي بدورها ترفضه.
في المحصّلة، يلفت محللون غربيون إلى أن مقتدى الصدر منكفئ حاليًا عن المشهد السياسي، معتبرين أن خطواته التالية لا تزال غير واضحة، والتي اقتصرت حتى الآن على إعلاء النبرة تجاه ترشيح السوداني على المستويين السياسي والإعلامي. وفي هذا الإطار، يُنظر إلى إعلان زعيم “التيار الصدري” قبل أيام تبرئه من سلوكيات بعض الجماعات المسلّحة التي لم يُسمّها، على أنها مؤشر إلى عدم رغبة “الصدريين” بالخوض في لعبة العنف مجددًا أو تأجيج التوترات في الشارع من جديد.
ماذا ينتظر الحكومة المقبلة؟
وفي حال تشكيل حكومة عراقية جديدة دون عراقيل تُذكر، يشير “معهد دراسات الشرق الأوسط” إلى أن برنامج عمل الحكومة يجب أن ينصبّ على التصدي للواقع الاقتصادي المعقّد، وتآكل مؤسسات الدولة، إضافة إلى معالجة انحلال ما يعرف بـ “العملية السياسية”. فالمسار المشار إليه، والذي نشأ عقب الغزو الأميركي للعراق عام 2003، عاين اضطرابات سياسية حادة، واختلالات بنيوية عميقة غير مسبوقة بعد انتخابات العام 2021، ولعل أبرزها عنصر الانهيار الوشيك للنظام السياسي المستند إلى أسس ما يُعرف بـ “الديمقراطية التوافقية”، عقب محاولة “التيار الصدري” خلال الفترة الماضية الدفع باتجاه نظام يرتكز إلى “حكومة أغلبية”، إضافة إلى عنصر تفجّر الاقتتال الشيعي- الشيعي في الشارع . ويلفت المعهد إلى أنه، وعلى الرغم من تأييد الشارع العراقي لقيام “حكومة أغلبية”، فإن القوى السياسية الرئيسية التي دعت إليه، لا سيما “التيار”، أخفقت في تحقيق هذا الهدف.
وفي انتظار التشكيلة المرتقبة للحكومة العراقية الجديدة، تشير صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن خبرة السوداني الطويلة في الحكومة، من خلال توليه مناصب حكومية سابقة، كوزير حقوق الإنسان، ووزير العمل والشؤون الاجتماعية، فضلًا عن شغله منصب محافظ ميسان، وانتخابه نائبًا على مدى ثلاث دورات، إضافة إلى دعمه من قبل اللاعبين السياسيين الرئيسيين في البرلمان “يمكن أن يسفر عن تثبيت حالة الاستقرار على مستوى المشهد السياسي المضطرب في العراق”.
وفي الإطار عينه، يوضح رئيس “المجلس الاستشاري العراقي للبحوث” فرهاد علاء الدين، إلى أن “الفارق بين السوداني وجميع رؤساء الحكومات السابقين هو أنه يملك سجلًا حافلًا بالعمل الحكومي”، شارحًا أن من سبقوه “امتلكوا خبرة قليلة في كيفية إدارة البلاد وتسيير شؤون الحكم”.