محزنٌ واقع التثقيف السياسي لدى البعض من الأحزاب “اللبنانية” حين تشاهد أو تسمع أو تقرأ اللغة والحديث والموقف والتحليل الذي يصدر من أفواه المحازبين وحتى كوادر الأحزاب وبعض مسؤوليها على برامج “التوك شو” وما يخوضون من مشادات كلامية تكاد تصل أحيانًا إلى حد التضارب والتعارك تنتفخُ فيه الأوداج والعضلات دفاعًا وذودًا عن فخامته وسيادته ونيافته وسعادته، أو معارك دونكيشوتية على صفحات التواصل الاجتماعي حيث لغة التخاطب هابطة وسوقيَّة المستوى ومليئة بالشتائم والتنمُّرِ والاستخفاف والأكاذيب وتخلُص منها إلى نتيجة واحدة لا ثاني لها: للأسف هناك ضحالة في الوعي للقضايا الوطنية لدى جمهور هذه الأحزاب ومحازبيها يعيد إنتاج ثقافة التقوقع والانعزال والنَّحنُ وهُم والخوف من الآخر وخطوط التماس وشحن النفوس بالطائفية البغيضة.
تجد لدى الكثيرين من المحازبين وما يسمى بالكوادر سطحيةً في الفهم وهزالًا في المعرفة السياسية لمجريات الأحداث المحلية والدولية والموقف الصحيح والمناسب منها، وترى لديهم استسهالًا للحديث الفتنوي والخطاب المتوتِّرِ المتشنِّج والمتعصِّب. ومن أهم أسباب هذه السطحية والهزال والاستسهال هي المدرسة التثقيفية السياسية البالية لدى هذه الأحزاب إن وجدت. ورغم “عراقة” البعض منها لم ترتقِ بمستواها في الإعداد السياسي والوطني لمحازبيها ومناصريها وحتى لكوادرها في الصفوف الأولى، بل أبقت على لغتها الخشبية الصدئة منذ عشرات السنين في تكرارٍ لم يعد يلائم تحديات المرحلة أو تطلعات جيل ما بعد الحرب نحو بناء مجتمع وطني متكافل متضامن على الأقل في القضايا ذات الإجماع الوطني، بل تذهب هذه المدرسة البائدة إلى التركيز على قضايا خلافية لا عمق فيها ولا أفق يبني وطنًا للمستقبل يختلط فيه النكد والكيد السياسي بالأنا في انعكاسٍ لمزاجية الموقف المتذبذب لدى هذا الزعيم أو ذاك وأهوائه الشخصية، ولا تجد عدَّادًا قادرًا على إحصاء ومواكبة تذبذبه وتبدلاته.
أولئك المحازبون ترى التخبط شعارهم في تكرارٍ لخطاب قياداتهم، هذا الخطاب الذي حين تستمع إليه تفهم أسباب هذه الضحالة والسطحية لدى محازبيهم. خطابات علاها الغبار وعفى عليها الزمن وراحت في طي النسيان. ترى اجترارًا لكلام وموقف وخطاب الزعيم الخالد والقائد المفدى والرئيس الأمجد حتى لو كانت تفاهات في السياسة أو طعنًا في وطنية الآخرين في سفسطائية وديماغوجية لا تنتهي تودي بهذا الجيل من الشباب إلى إضاعة بوصلة القضايا الوطنية من عيشٍ مشترك وكرامة البلاد وسيادتها والإنسان فيها. ثقافة سياسية ممجوجة مجترَّة ضحِلة لا تقدم جديدًا يُذكر بل تؤخِّر بِناء وعيٍ ثقافيٍّ سياسيٍّ شبابيٍّ واعد، شبابٌ نريدُ له أن يكون مؤهلًا لإدارة هذا الوطن مستقبلًا كلٌّ من موقعه الحزبي أيًّا كان.
عادةً الأحزاب ولتحقيق أهدافها تعمل على تثقيف عناصرها وكوادرها ثقافة وطنية وسياسية وأيديولوجية صحيحة تعطي استمرارًا وتطورًا وارتقاءً لهذه الأحزاب بعيدًا عن الخطاب الشعبوي والشخصاني والتحريضي، وكلما ارتقى خطابها وموقفها وكان أكثر اتزانًا ووضوحًا واستقرارًا كلما رأينا ديناميكية حزبية ترتقي بهذا الحزب أو غيره وتشكِّل له رافعةً تبقيه في حالة صعود نحو القمَّة أو توازنًا في الأداء والمكانة دون تراجع أو انكفاء. وتعكس هذه الحالة قوَّة ذاك الحزب وحضوره السياسي وفاعليته في القرار الوطني وتعاظم دوره على مستوى التفاعل والتأثير في مجريات الأحداث الوطنية الجارية وليس على هامشها. وما الحضور الجماهيري والبرلماني والثقافي والجامعي والنقابي وغيره إلا واحد من تجسيدات هذه القوة التمثيلية للحزب وطنيًّا وللجمهور والبيئة التي يعمل فيها وصوابية هذه الخيارات من عدمها.
المدرسة الثقافية الطائفية والمناطقية والشعبوية وخطابها واحدةٌ من عدوى الغباء السياسي التي طالت “نُخبَ القوم” من رؤساء أحزاب ومنظريها السياسيين ومسؤوليها الإعلاميين ووزرائها ونوابها والقضاة السائرين في ركابها ونقابييها وجامعييها ومن لف لفَّهم، هذا كله نتاج مدرسة الانعزال وأحلام الكانتونات والتقوقع خلف السواتر والخطابات الشعبوية التحريضية على الشركاء في الوطن. والطامّةُ الكبرى تراها أكثر وضوحًا وحضورًا لدى الأحزاب ذات الهوية العلمانية والتوريث العائلي أو المنسلخة عنها قوات وفيالق وكتائب وهنا فليندب النادبون.
نصيحتنا “أيُّها القوم” ارْتَقُوا فَإِنَّ القَاعَ قَدِ ازْدَحَم.