إنّ نعتَ بعض الخصوم بعملاء السفارات أو اتهامهم بالتبعية الانبطاحية للسفارات بشكل عام ينطوي على كثير من التجنّي والتعميم المسيء، فهؤلاء ليسوا سفاراتيين، إنّهم بخاريون، نسبة إلى محرّكهم على رقعة العمل السياسي في لبنان. وتوصيفهم بالبخاريين يأتي كمضاف حتميّ إلى كونهم عوكريي النسب الوظيفي، بالإذن من سكان عوكر الأصليين.
صحيح، هم ليسوا موظفي سفارات، ولا يخضعون لإملاءات كلّ من جاء إلى البلد بمهمة دبلوماسية، فسفير عن سفير “بيفرق” في تقريش السيادة وتسعير الكرامة الوطنية. والسفير السعودي، المعروف بكونه أكثر الدبلوماسيين سخاءً على الزاحفين إلى خيمة الإذلال السيادي، وربما التعنيف الخفيّ بسائر أشكاله، يمون عليهم أكثر من سواه، حتى من أولئك الذين يتماهون في دبلوماسيتهم مع السياسة السعودية، وأحيانًا مع الإرهاب السعودي.
ضجّت بيروت بدعوة وجهتها السفارة السويسرية إلى ممثلي الأحزاب والجهات الممثلة في البرلمان اللبناني. وجرت أحاديث غير مؤكدة عن كونها جلسة تمهيدية لمؤتمر قد يُعقد في جنيڤ للحوار بين المكوّنات اللبنانية بهدف إرساء عقد تعايشي جديد بعد أن أكل الدهر “اتفاق الطائف” وأثبت عجزه عن إرساء قواعد نهائية للحياة السياسية في لبنان، أو ربما انتهت مدّة صلاحيته، أو لعله بحاجة إلى بعض الصيانات الضرورية بعد أعوام مضطربة وأزمات متراكمة.
المشكلة ليست في تحديد موقف الأطراف اللبنانية اليوم من اتفاق الطائف، بقدر ما هي خروج السفير السعودي العلني آمرًا بالطائف، مانعًا أي نقاش حوله أو أي مشروع يحاول بناء عقد جديد وفق المعطيات والوقائع التي تغيرت كثيرًا منذ التسعينيات إلى الآن.
والطامة الأكبر، أن قرار منع السفر نحو السفارة السويسرية ودعوتها جاء بقرار مبرم صادر عن المحكمة البخارية المتحدّرة من القضاء السياسي السعودي، وفي مسعى واضح لتثبيت لبنان أكثر فأكثر داخل براثن القدر السعودي، من دون أدنى مداراة لماء وجه السيادة أو مراعاة للأصول الدبلوماسية وحدود حركة السفراء في الدول.
أما الأكثر إضحاكًا في الامر، فهو أنّ يصرّح المنبطحون، وهم في حفاظ تام على وضعيتهم الخاضعة علانيةً للأمر البخاريّ، عن امتعاضهم من الدعوة السويسرية لدواعٍ سيادية، ولأن الحال السياسية في لبنان هي قضية داخلية لا ينبغي لسفارات الدول أن تدعو إلى مناقشتها حول طاولة عشاء!
أُفشل العشاء السويسري إذًا، وبأمر واضح ومباشر من السفير السعودي الذي جال كمكوك الحايك المربك بالأمس: “وثيقة الوفاق الوطني عقد مُلزم لإرساء ركائز الكيان التعددي، والبديل عنه لن يكون ميثاقًا آخر بل تفكيكًا لعقد العيش المشترك وزوال الوطن الموحَّد واستبداله بكيانات لا تُشبه الرسالة”. بقّ البحصة التي في فم رافضي الدعوة السويسرية، ومناهضي أي محاولة لتعديل الطائف. يصرّ البخاري على لبنان “الرسالة” من وجهة النظر السعودية، ويعلم صغار القوم قبل كبارهم، فحوى الرسالة التي دسّها البخاري، سابقًا أو البارحة في بريد غلمان سفاراته كي يرفضوا الدعوة.