تتوالى تباعًا المؤشرات الإيجابية بشأن قرب التوصل إلى اتفاق بشأن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة. الاتفاق المنتظر ولادته خلال أيام، كما تُشيع المصادر الرسمية اللبنانية، يأتي في أعقاب جولات دبلوماسية “باردة”، تولاها المبعوث الأميركي الخاص، زادت من حرارتها رسائل ميدانية متلاحقة أطلق شرارتها الأمين العام لـ “حزب الله”، تأتي “رسالة المسيّرات”، و”معادلة ما بعد كاريش” في مقدمتها، بالتزامن مع إجماع “نادر” للمرجعيات السياسية الرسمية اللبنانية حول الملف الخاص بالثروة البحرية من النفط والغاز. ورغم أن أسهم التفاؤل مرتفعة، مع الكشف عن مقترح خطّي سلّمه هوكشتاين إلى الحكومة اللبنانية، ويتضمن مسودة اتفاق بشأن تثبيت الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة، دون أن يلحظ أي تنازلات كانت “إسرائيل” تطالب بها لبنان، على غرار الاعتراف لها بمنطقة أمنية، إلا أن النهاية “السعيدة” للملف تبقى غير مؤكدة، في ظل أخذ ورد، بانتظار تبلور ملامح الرد اللبناني الرسمي حول المقترح، والرد المقابل عليه، والذي لاحت بعض مؤشراته مع عودة رئيس حكومة الاحتلال يائير لابيد إلى رفع السقف الكلامي تجاه لبنان، وتأكيده التوجه نحو استخراج الغاز من حقل كاريش، بصرف النظر عن مآل المفاوضات، وهو عامل يفسر بدوره استمرار التحفّظ اللبناني في كشف تفاصيل ما يجري وراء الكواليس، والصورة النهائية لـ “الانتصار المائي للبنان”.
وبخصوص صورة وشكل هذا الانتصار، ترى مجلة “نيوزويك” أن الاتفاق المنتظر، ووفق بنوده المسرّبة، يعكس استجابة الجانب “الإسرائيلي” لكافة المطالب اللبنانية، لا سيما الموافقة على اعتماد الخط 23 في ترسيم الحدود البحرية، وهو الخط الذي قدّمه لبنان إلى الأمم المتحدة. وعلى الرغم من تسريع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لوتيرة الحل التفاوضي بين لبنان و”إسرائيل”، بعد تهديدات “حزب الله” الأخيرة باستهداف منصات الغاز على الشاطئ الفلسطيني المحتل، تعتبر المجلة أن الصيغة الأولية للاتفاق لن تسهم في تعزيز المصالح الأميركية، كونه سوف يفسح المجال أمام حصول لبنان، المعادي لـ “إسرائيل”، على مئات الأميال البحرية وثروة هائلة من احتياطيات الغاز الطبيعي، ناهيك عن تعزيز موقف “حزب الله” في المعادلة السياسية اللبنانية.
هذا، وتعتبر دوائر بحثية صهيونية، أن الاتفاق المتبلور مع لبنان، بخصوص حدوده البحرية الجنوبية، يزيد من وطأة المخاطر المحدقة بـ “إسرائيل”، معتبرة أن حكومة يائير لابيد ترتكب “أكبر خطأ تاريخي” من خلال اتباعها “دبلوماسية التمنّي” مع لبنان. وتعيب وجهة النظر تلك، على معسكر المدافعين عن الاتفاق داخل ائتلاف بينيت- لابيد، انطلاق هؤلاء من تصور مفاده أن منح لبنان احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي سوف يعطي الأخير “شيئًا ما ليخسره” في حالة نشوب صراع مع “إسرائيل”، وأن “حزب الله” لن يرغب في بدء صراع يمكن أن يلحق ضررًا شديدًا بالاقتصاد اللبناني. ويحذر أصحاب وجهة النظر تلك من أن “إسرائيل” ستكون مكبّلة في الرد على هجمات “حزب الله” مستقبلًا، بالنظر إلى دخول شركة “توتال” الفرنسية على خط الاستثمار في حقول الغاز اللبنانية، معربين عن مخاوفهم بأن المجتمع الدولي سيكون في موقع الضغط لكبح جماح أي استهداف “إسرائيلي” لتلك الحقول. وبحسب هؤلاء، فإن ما سُرّب من بنود الاتفاق بشأن الحدود البحرية اللبنانية “الإسرائيلية” يرقى إلى الموافقة على التنازل عن أراض وأجزاء من الجغرافيا التابعة لـ “السيادة الإسرائيلية”، على نحو سوف يرفع من شأن المطالب المستقبلية من الفلسطينيين وغيرهم في أي مفاوضات مستقبلية مع تل أبيب. أكثر من ذلك، يشير المحاضر في جامعة إرئيل الاستيطانية، يوجين كونتوروفيتش، إلى أن الصفقة المزمعة مع لبنان تشكل تنازلًا بلا أثمان، لا سيما وأنها لا تشمل إبرام “معاهدة سلام” مع “إسرائيل”، ولا تلحظ اعترافًا رسميًا لبنانيًا بها، على غرار الانسحاب الأحادي الجانب من غزة في العام 2005، الذي أفضى إلى تقوية “حركة حماس” في غزة. ويضيف مدير مركز الشرق الأوسط والقانون الدولي بجامعة جورج ميسون، أن الحصيلة النهائية للاتفاق تقوم على “قبول الجانب الإسرائيلي بإعادة رسم حدوده (البحرية)” نزولًا عند رغبة الجانب اللبناني، وفق معادلة “الأرض مقابل الهدوء المؤقت”.
وعن الحسابات الداخلية الأميركية و”الإسرائيلية”، يرى محللون غربيون أنه ليس من قبيل الصدفة محاولة تمرير الاتفاق بشأن الحدود البحرية مع لبنان، عبر الوسيط الأميركي، في ظل حكومة تصريف الأعمال برئاسة لابيد، وقبيل موعد الانتخابات البرلمانية المقبلة في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، وذلك خوفًا من أن تطيح أي هجمات لـ “حزب الله” ضد المنشآت “الإسرائيلية” بحظوظ لابيد في تلك الانتخابات، علمًا أنه المرشح المفضل لدى إدارة بايدن لتولي الحكومة المقبلة. ومع ذلك، ثمة من يشير إلى عراقيل قد تعترض طريق لابيد في توقيع الاتفاق مع لبنان، تتصل بـ “الواقع الدستوري” في “إسرائيل”، ذلك أن “المحكمة العليا الإسرائيلية” يحق لها الطعن في قرارات حكومة تصريف الأعمال، لا سيما حين يتعلق الأمر بقضايا حيوية بالنسبة لتل أبيب، كالمسائل المتصلة بإبرام الاتفاقيات الدولية. كما أن “الدستور الإسرائيلي” يتطلب الحصول على تأييد الأغلبية المطلقة في “الكنيست”، وإجراء استفتاء عام على أي إجراء يتصل بترسيم حدود الكيان. وبحسب تقديرات محللين “إسرائيليين”، فإن حكومة لابيد غير قادرة على السير في أي من الخطوات المشار إليها، لذا فمن المرجّح أن تمرر الاتفاقية في الخفاء، دون الكشف عن محتواها أمام الجمهور “الإسرائيلي” إلا بعد مرور بعض الوقت. ويجزم هؤلاء أن مجريات المفاوضات مع الجانب اللبناني، عبر الوسيط الأميركي، تسير في اتجاه ما يمكن اعتباره “تنازلًا حدوديًا تحت ضغط منظمة إرهابية”.
في المقابل، تذهب صحيفة “الغادريان” إلى أن إعلان لابيد عن عزم حكومته التوجه نحو استخراج الغاز من حقل كاريش، يُنذر بتأجيج التوترات مع “حزب الله”. في هذا السياق، يرى مدير برنامج الخليج وسياسة الطاقة في “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”، سيمون هندرسون أن “الجانب الإسرائيلي لا يرى في مسألة تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة له، مادة للتفاوض مع الجانب اللبناني، غير أنه يمكن القول إن الإسرائيليين يمارسون الاستفزاز من خلال المضي قدمًا في سياسة الاستفزاز” للطرف الآخر. ويشير هندرسون إلى تخبّط الطرف “الإسرائيلي” وعدم انضباطه على صعيد إدارة ملف الحدود البحرية، في ظل حكومة تصريف الأعمال الحالية. وضيف هندرسون أن ما يجري ليس سوى “لعبة خداع ذات طابع جيوسياسي”. ويستعرض هندرسون مواقف الأطراف الفاعلة في الملف، والتي لا تميل إلى التصعيد، معتبرًا أن “حزب الله” لا يستعجل المواجهة العسكرية، فيما تريد “إسرائيل” انتزاع ما تراه “حقًا لها”. ويبقى الأهم، وهو موقف الولايات المتحدة، التي “لا تريد حربًا في الشرق الأوسط، قبل حلول موعد الانتخابات النصفية للكونغرس”.