من سوريا، إلى العراق وأبعد، تُحيك إيران استراتيجيتها الإقليمية المضادة للرد على المحور المعادي لها، فيما أصبح الخطاب الرسمي الإيراني المتشدد حيال كل من الولايات المتحدة و”إسرائيل” أكثر اتساقًا مع الميدان، وجنوحًا باتجاه تحشيد طاقات ما تسميه إيران “محور المقاومة”، الذي يضم “حزب الله” اللبناني، وفصائل “الحشد الشعبي” العراقي، إضافة إلى حركة “أنصار الله” اليمنية، والمقاومة الفلسطينية، وبعض التنظيمات المسلحة الناشئة في سوريا.
وفي هذا السياق، جاء ما كشف عنه القائد العام السابق للحرس الثوري الإيراني اللواء محمد علي جعفري، منتصف حزيران/ يونيو الفائت، حين أقرّ بأنّ “ضرباتنا لـ”إسرائيل” تضاعفت في الآونة الأخيرة، وستستمر مستقبلًا”، موضحًا أن بعض تلك الضربات “كان داخل الكيان الصهيوني، وبعضها في دول أخرى”.
كما رفع جعفري سقف التحدي في وجه التصعيد “الإسرائيلي” ضد بلاده، كاشفًا أنّ “”إسرائيل” تلقت قبل وبعد اغتيال القائد في الحرس صياد خدايي، ضربات إيرانية” لم يتم الإعلان عنها. وليس بعيدًا من كلام جعفري، يحضُر اليمن كإحدى ساحات المواجهة الإقليمية مع “المشروع الأميركي- الإسرائيلي”.
في المقابل، وفي خضم تقييم خياراتها في التعامل مع طهران، تلفت تقديرات المؤسسة الأمنية “الإسرائيلية”، إلى أن “فيلق القدس”، التابع لحرس الثورة في إيران، عزز جهوده منذ اغتيال اللواء قاسم سليماني، في أكثر من ساحة إقليمية، لا سيما اليمن، من ضمنها إنشاء بنية تحتية لتصنيع صواريخ دقيقة ومسيّرات أكثر تطورًا، وذلك لمضاعفة حجم الضرر الذي يمكن أن يلحق بـ “المحور الأميركي- الإسرائيلي”، في حال نشوب أي مواجهة بينه، وبين طهران، توازيًا مع تصاعد وتيرة الأعمال العسكرية ضد القوات الأميركية في المنطقة.
وتتقاطع تلك المعطيات، مع ما تداولته تقارير إعلامية “إسرائيلية” مع حلول الذكرى السنوية الأولى لاغتيال سليماني، حول تأهب في صفوف الجيش “الإسرائيلي” لاحتمال تصعيد إيراني كنوع من الرد على الاغتيال. وعلى نحو أكثر تحديدًا، تسود مخاوف مزمنة في تل أبيب من عملية الرد المحتمل، حيث تُطرح سيناريوهات عدة، كأن تحاول طهران توجيه ضربة للأراضي المحتلة من إحدى دول الدائرة الثانية مثل العراق أو اليمن، كاشفة عن مناقشات داخل أركان قيادة المؤسسة العسكرية حول احتمال أن تستخدم إيران البلدين في توجيه تلك الضربة عبر أسلحة مختلفة مثل صواريخ وطائرات من دون طيار ووسائل أخرى يتم تشغيلها عن بعد.
وبحسب قناة “i24news” العبريّة، فإن “الجيش الإسرائيلي يعتقد أن الإيرانيين يستعدون لمثل هذه العملية في الوقت الحالي”، معربة عن خشية “إٍسرائيل” من احتمالات تنفيذ عمليات ضدها انطلاقًا من أراضي اليمن.
وانطلاقا من تلك التقديرات، فقد أحدث الجانب الإيراني تغييرات جوهرية في ما يُعرف بـ “استراتيجية نشر الأسلحة الإيرانية” في المنطقة، تتجاوز ابتداع مسارات جديدة لتلك الأسلحة لإيصالها إلى الحلفاء الإقليميين لطهران، نحو التركيز على أولوية التوجّه إلى دعم الإنتاج المحلي الذاتي للصواريخ والطائرات من دون طيار داخل عدد من بلدان المحور الإقليمي المعادي لتل أبيب، بدءًا من سوريا والأراضي الفلسطينية، وليس انتهاء باليمن ولبنان. وهو ما أقر به وزير الأمن “الإسرائيلي” قبل نحو أسبوعين حين صرّح بأن “إيران بدأت مؤخرًا في بناء صناعات عسكرية متطورة في اليمن ولبنان”، داعيًا إلى “وقف ذلك”.
وبالنتيجة، فقد باتت تشكل إيران “تهديدًا معقدًا” للجانب “الإسرائيلي” بالنظر إلى حضورها الإقليمي المتزايد، بدءًا من غزة، والشاطئ الفلسطيني وصولا إلى الحُديدة على الشريط الساحلي اليمني البالغ طوله 2500 كيلومتر، على طول البحر الأحمر، ناهيك عن التطور المتسارع في البرنامج النووي الإيراني. هذا بالضبط ما يقصده الباحث في “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات”، بحنام تالبلو، حين يشير إلى ضرورة إعادة تعريف الدور الإيراني وأدواته في “حرب الظل” ضد تل أبيب، معتبرًا أن ما أدخلته “الجمهورية الإسلامية” من تعديلات في استراتيجيتها الإقليمية، خصوصًا لناحية نقل تكنولوجيا تصنيع الصواريخ الدقيقة والمسيّرات، لا ينبغي أن يشكل مفاجأة للدارسين لما وصفه بـ “شبكة التهديد الإيراني”.
وإلى جانب التهديد “غير المباشر” الذي بات يمثّله الدور الإيراني الرافد لحركات المقاومة ضد تل أبيب، حذّر الرئيس السابق لفرع إيران في لواء الأبحاث في جهاز “أمان” التابع لكيان الاحتلال، مايكل سيغال، في أيار/ مايو الماضي من أنّ البحرية الإيرانية التابعة لحرس الثورة تحتفظ بوجود “سري” مباشر في البحر الأحمر، من خلال مجموعة من السفن، مشيرًا إلى أن بعضها ينفذ مهام استطلاعية واستخبارية، فيما يعمل بعضها الآخر كقواعد أمامية للقوات الإيرانية.
ونبّه إلى أن إيران تعمل باستمرار على تحديث تكتيكاتها البحرية غير المتكافئة، وتصدير خبراتها ومعداتها العسكرية إلى وكلائها وشركائها، مثل حركة “أنصار الله” في اليمن. ولفت إلى أن اليمن أصبح أكبر مختبر قتالي لإيران، لاستخدام تكتيكات الهجوم عبر القوارب السريعة، والطيران المسيّر، المعزز بأنظمة توجيه دقيقة، مضيفًا ان نطاق عمل تلك الأسلحة المتوفرة لدى الحركة قد يطال الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وبحسب “مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية”، فقد دأبت حركة “أنصار الله”، بدءًا من العام 2017 على استخدام أسلوب مهاجمة ناقلات نفطية وأهداف بحرية أخرى، باستخدام طائرات مسيّرة، حيث نفذت 24 هجومًا من هذا النوع.
ولفت المركز إلى دور “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، إلى جانب “حزب الله” اللبناني في تدريب عناصر الحركة وإمدادهم بترسانة متزايدة من الأسلحة والتكنولوجيات العسكرية الحديثة.
ومن هذا المنطلق، تولي التقارير “الإسرائيلية” اهتمامًا ملحوظًا بما أعلنه رئيس المجلس الرئاسي في اليمن مهدي المشاط عن امتلاك قواته صواريخ تطال أي نقطة في البحر الأحمر، وهو ما فهمه قادة أمنيون “إسرائيليون” على أنه تلميح لإمكانية صنعاء استهداف ميناء ايلات، الحيوي بالنسبة إلى تل أبيب، في إطار ما تعكف صنعاء على التهديد به مؤخرًا تحت عنوان “معركة تحرير الأقصى”.
وقبلها، شدّد رئيس حكومة صنعاء عبد العزيز بن حبتور على أن بلاده لن تسمح بتحول البحر الأحمر إلى بحيرة “إسرائيلية”، وصولًا إلى تحذيرات متوالية من قبل قيادات حركة “أنصار الله” لتل أبيب، من مغبة ممارسة أي دور مشبوه على الساحة اليمنية.
وتبني تلك التقديرات الاستخبارية “الإسرائيلية”، هواجسها بشأن الساحة اليمنية، استنادًا إلى تغير تكتيكات “الحرب المفترضة” لدى إيران، بعدما كانت ترتكز بصورة أساسية على سلاح الصواريخ مقابل التفوق الجوي “الإسرائيلي”، ليدخل سلاح جديد إلى المعادلة القائمة، ألا وهو سلاح المسيرات، بما يحمله من مزايا عسكرية وتكتيكية إضافية للمحور المناهض لتل أبيب.
وبحسب الدوائر الأمنية “الإسرائيلية”، فقد استعرضت إيران تلك المزايا منذ مطلع العام الجاري، بصورة عملانية من خلال هجمات نفذت عبر مسيرات استهدفت السعودية، والإمارات على غرار هجوم 20 آذار/ مارس الفائت على محطة توزيع المنتجات البترولية لشركة “أرامكو” في جدة، وسلسلة هجمات أخرى استهدفت منشآت لشركة “أرامكو” في جيزان، وينبع، إضافة إلى ضرب منشأة صناعية وقاعدة الظفرة الجوية في أبو ظبي انطلاقًا من اليمن، فضلًا عن مسيّرات أخرى نفذت مهام استطلاعية وهجومية ضد أهداف أميركية، وإسرائيلية. أما في اليمن، فقد تم الكشف، خلال العرض العسكري الذي نظمه الجيش اليمني خلال فعاليات الذكرى السنوية الثامنة لـ “ثورة 21 سبتمبر”، عن صواريخ ومسيرات جديدة، تم تصنيعها محليا، بدعم تقني من إيران.
وعلى مدى الأسابيع الأخيرة، انشغلت الأوساط السياسية والعسكرية “الإسرائيلية” بمناقشة دلالات زيارة القيادي في حركة “أنصار الله”، ورئيس وفد صنعاء المفاوض محمد عبد السلام إلى بيروت للقاء أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصر الله. وقد جاءت تلك الزيارة على وقع تنامي العلاقات الأمنية بين تل أبيب، وعدد من العواصم الخليجية، كالمنامة، وأبو ظبي مع ورود أنباء عن عزم “إسرائيل” تزويد الإمارات بنظام “سبايدر” للدفاع الجوي.
وفي ضوء ما تروجه تلك الأوساط عن رغبة صنعاء في وضع قيادة الحزب في أجواء المحادثات السياسية حول اليمن، وآفاق الهدنة، يبدو المناخ السائد مرشحًا لتصعيد اقليمي مرتقب تكون فيه يد الحركة على الزناد من جديد باتجاه ما تصفه صنعاء بـ “تحالف العدوان”، وهو تحالف يرى محللون ان حضور “إسرائيل” فيه سوف يتكشف أكثر مع مرور الوقت، بانتظار اتضاح الصيغة النهائية للترتيبات الأمنية في البحر الأحمر التي يتم الاعداد لها بين مصر، والسعودية، واسرائيل، وأطراف اقليمية أخرى فاعلة في منطقة القرن الافريقي.
ومع تواتر الحديث عن اتساع نطاق الاستهداف “الإسرائيلي” لمحور المقاومة في أكثر من حيز جغرافي، طرح موقع ” ميدل ايست آي” تساؤلًا مفاده: هل أقدمت “إسرائيل” على استهداف معسكر تابع للحوثيين خلال الحرب على غزة؟
في الخلفية، يحضر تصريح القائد السابق للجيش “الإسرائيلي” آفيف كوخافي حين أشار أوساط آب/ اغسطس الماضي إلى غارة على هدف يزعم أنه مصنع صواريخ دقيقة، على أراضي “دولة ثالثة”.
وتزامنًا، نقل الإعلام “الاسرائيلي” عن مصادر أمنية تأكيدها أن البلد المستهدف هو اليمن، بدعوى خوف تل أبيب من “التهديد الحقيقي” الذي باتت تشكله حركة “أنصار الله”.
وفي معرض البحث عن إجابات عن هذا التساؤل، تشير صحيفة “جيروزاليم بوست” العبريّة، إلى أن اسرائيل تعمّدت الكشف في أكثر من مناسبة خلال الأعوام الأخيرة عن امتلاكها أسرابًا جديدة إضافية من مقاتلات إف- 35 ، بهدف استعراض قدراتها العسكرية، وإيصال رسائل لمن يعنيهم الأمر حول استعدادها لمواجهة “مجموعة معقدة من التهديدات الإيرانية على امتداد ساحة معركة كبيرة محتملة من حدود العراق إلى اليمن”، في إشارة إلى ما يروّجه الجيش “الإسرائيلي” عن الحملة الجوية التي ينفذها على أهداف إيرانية مزعومة سواء داخل “الجمهورية الإسلامية”، أو خارجها.
وتحذّر الصحيفة من دور “حزب الله” في اليمن، مضيفة أن الحزب يرغب بتوثيق أكبر للعلاقات مع صنعاء، في ضوء قرار طهران بتصدير تكنولوجيا عسكرية متقدّمة إلى حلفائها، ضمن “استراتيجية التشبيك” بين كافة ساحات المقاومة في المنطقة.
وتشير الصحيفة إلى أن “حزب الله” بدأ في الآونة الأخيرة يولي اهتمامًا أكبر بالملف اليمني، على المستويين السياسي والميداني، سواء على خلفية دوره الكبير في مساعدة الحركة على تسريع وتيرة التصنيع العسكري، واستخدام تكتيكات الطيران المسيّر، أو بسبب ما أُشيع حول دوره في التوصل إلى الهدنة في اليمن.
ومن بوابة إظهار استعداداتها للمواجهة مع “إسرائيل”، يلفت الكاتب إلى عودة طهران إلى التصعيد في مياه خليج عمان، مستشهدًا بواقعة استهداف إحدى السفن عبر مسيّرة إيرانية في تموز/ يوليو الفائت، مبديًا تخوّفه من أن يكون الحرس الثوري الإيراني، قد عمد إلى تزويد الحركة اليمنية بطائرات مشابهة، وبمديات بعيدة يمكن أن تطال العمق “الإسرائيلي” وتهدّده بصورة غير مسبوقة في أي حرب مقبلة، قد يكون من الصعب تفاديها في حال أخفقت مفاوضات فيينا “النووية”.
في هذا الوقت، تبذل “إسرائيل” مساعيَ حثيثة لتطويق إيران، والتلويح بضربة جوية ضد منشآتها النووية، فيما تبدو الأخيرة أقرب إلى محاصرة “الدولة العبريّة” بجدار ناري، قوامه أكثر من مليون صاروخ.