جورج بشور – خاص الناشر|
تعبْتُ منَ التّفكيرِ الدّائمِ بمصيري ومصيرِ عائلَتي في هذا البلد، فبلدَتي تَئنُّ من أوجاعِها، وأنا أراها تنزِفُ أمامي وما مِن مُعيل!
بحثْتُ عن حلولٍ كثيرة، ولم أفكّرْ يومًا أنّ الحلَّ الأنسبَ لي سيكونُ الرّحيلَ إلى ما لا رجوع إليه. كيفَ أترُكُ وطني، وأنا اللّبنانيُّ الأصيل، ابنُ طرابلُسَ المتألّمة الّتي مزّقَتْها يَدُ الغَدرِ واقترَعَ على ثيابها المتآمِرون؟ باعوها بفلسَيْنِ وباعوني معها.
سمِعْتُ بموت الكثيرِ قبلي غرقًا، إلّا أنّ الألمَ “بنّجني” ولم أعُدْ أكترثُ له وقد باتَ صديقي المُقرَّب والّذي لا يفارِقني. الدَّمعَةُ واقِفَةٌ عندَ بابِ مُقلَتَيَّ، وأنا أنظُرُ إلى نفسي، أحزُمُ أمتِعتي بصمتٍ كي لا يشعُرَ أحدٌ ويكشِفَ مُخطَّطي الجهنّميّ.
نعم، أصبحتُ شرّيرًا غيرَ مُبالٍ بما سيقالُ عنّي وعن عائلتي وعن أولادي وأسرتي.
أصبحتُ إبليسَ، يترُكُ والِدَيهِ متألّمَيْنِ، وبأنانيةٍ مُطلقةٍ، لا يفكِّرُ إلّا بنفسِهِ.
أصبحتُ بدوري مُتآمرًا، يبيعُ كلَّ ما لدَيه ليُنقِضَ نفسَهُ وعائِلَتَهُ من “قرف” هذا الوطن المُشتّت.
حزَمْتُ أمتِعَتي… وتوجّهْتُ نحوَ الميناء، تُرافِقني زوجتي وولدايَ الصّغيران: عُمَر (3 سنوات) وسالي (7 سنوات)، وحقيبتنا المملوءة ثيابًا وضوء القمر. نسيرُ إلى الأمام، وقد رميْنا خلفنا ماضينا الأليم، طامحينَ إلى الحياة الجديدة في تركيا الأبيّة، موطن الكراماتِ والعيشِ الكريم. صَعِدَ عمر وسالي، ثمَّ صَعِدَت زوجتي. استدرْتُ، فرأيْتُ أفواجَ النّاسِ القادِمةِ صوبَ قارِبِنا، وأعدادهم كبيرة! لم أكتَرِث، لأنَّ قلبيَ مُطمَئِنٌّ؛ بِعْتُ كُلَّ ما أملِكُ كي أرحل من هنا: بيتي، سيّارَتي ومجوهراتِ زوجتي، كي أتمكّنَ مِنَ السَّفر وتوفيرِ العيشِ اللّائقِ لأسرتي. لم أودِّعْ أحدًا، رَحلْتُ دونَ سماعِ دعواتِ والدتي وهي تقولُ لي: “الله يجبر بخاطرَك يا ابني. الله يوفقك ويبعد عنّك ولاد الحرام…”، ولا صوتَ والدي وهو يعطيني الوصيَّة: “دير بالك عَ حالَك وعالأولاد…”. خانَتْني دمعَتي، لكنَّني صمَّمْتُ على المضيّ دونَ تردُّد وفي داخلي الأفكارُ والمشاعرُ في معركةٍ ضاريةٍ.
إنّها السّاعَةُ الثّانيَة عَشَرَة من منتَصَفِ اللَّيْلِ، مَوعِد الإقلاعِ، والوفودُ ما زالَتْ تدخُلُ القارِبَ الّذي تخطّى حمولَتَهُ بأضعاف! لم ألُمْ أحدًا منهم، فالجميعُ مستسلمونَ مثلي، ولا يحقُّ لي أن أمنعَ أحدًا منهم من نيلِ حُرّيَّتِهِ المسلوبة.
انطَلَقَ القارِبُ بعدَما يُقارِبُ السّاعةَ مِنَ الوقتِ وسِرْنا في البحرِ حتّى بِتْنا وحيدينَ نُصارِعُ الأمواج. في المركَبِ من يغنّي، وآخرونَ يتلونَ الدّعوات على مسامِعِ الأطفالِ الغارقينَ في سباتٍ عميق، يستفيقونَ مذهولين، مُرتعبينَ كُلّما صَدَمَت موجَةٌ قارِبَنا المحشوّ وبلَّتهم.
سمِعنا صوتًا غريبًا يصدُرُ مِنَ القارِبِ، ولاحَظَ الجميع أنَّهُ توقَّفَ عنِ السّيرِ. حاوَلَ قائِدُ السّفينةِ، الّذي كانَ بدورِهِ معَ عائِلَتِهِ، أن يعيدَ تشغيلَهُ، فنجَحَ وتابَعْنا السّيرَ. إلّا أنَّ القارِبَ تعطَّلَ مرّةً أخرى وتوقَّفَ عنِ السّير. خافَ الجميعُ وسادَتِ القارِبَ حالةٌ منَ الذّعرِ والرَّعدةِ الشَّديدَيْنِ، وعلا صُراخُ النِّساءِ يولوِلْنَ ويدعينَ الله طالباتٍ النَّجدة، والرّجال يعملونَ كلَّ ما بوسعِهِم لإعادَةِ المياه إلى مجاريها. اتَّصَلَ الرّبّانُ بصاحِبِ الزّورَقِ يعلمُهُ بما حصلَ معنا طالبًا العودَةَ إلى لبنان، فجاءَهُ الرّدُّ: “أنا قابض 10000$ ممنوع ترجع، بتخربلي بيتي!”. وعلمنا عندها أنّنا محاصرون، وأنّنا بتنا عشاءَ البحرِ في هذه اللّيلة. حاولنا تبديلَ موتورِ القارِبِ، فانسابَتِ المياهُ إلى الدّاخِلِ وبدأ القارِبُ يغرَقُ، والكُلُّ يحاوِلُ الافلاتَ من الموتِ وإنقاذِ نفسِهِ.
رأيْتُ ولديَّ يغرقانِ، وزوجتي تصرُخُ كالثّكلى. لم أتمكّن من إنقاذِهِما وجرفتهما الأمواجُ العاتية. ماتَ عددٌ كبيرٌ ممّن كانوا برفقتنا، صِغارًا وكبارًا، فتعلقتُ بخشبةٍ تطوفُ على سطحِ الماءِ وأنقذْتُ زوجتي منَ الغَرَقِ.
لا نعرِفُ الوقتَ ولا السّاعةِ، ونحنُ في عرضِ البحرِ ننتظِرُ رحمة اللّه تحلُّ وتنقذُنا. زوجتي أُصيبَت بالجنون وراحَت تصيحُ وتحاوِلُ رميي عنِ اللّوحِ، وأنا أقاوِمُها باكيًا. ما الّذي حلَّ بِنا؟ أبهذه الطّريقةِ أنقذُ عائِلتي لأنعَمَ بالحياةِ الهانئة؟
ما هي إلا بضعُ لحظاتٍ حتّى سمعنا صوتًا ينده، فصرختُ بكلِّ ما تبقّى من قوّة فيَّ وغبت عن الوعي.
استيقظْتُ في المستشفى، وحيدًا في الغرفةِ، أسمَعُ صوتَ الأطبّاءِ حولي يهدرونَ مُتأسّفينَ لخسارَتي، وأنا نادِمٌ لأنَّني حملْتُ أمتعتي… وصعِدْتُ القارِبَ!