حرب الذاكرة

ناصر علي – خاص الناشر |

سريعة باتت عجلة الزمن، بأحداثها المتقلّبة، وأخبارها الّتي اجتازت حدود الأمكنة، فتُسعفنا الآلة والحداثة لترفع عن كاهل ذاكرتنا مشقّة الأرشفة، لكن يجب أن نحذر من أن تُدخِلنا فيما سيَصُحّ أن نطلق عليه سِمة الحرب، فتكون الذاكرة هنا الهدف، ويُسَخّر لنسفها آلاتٌ برصاصٍ مُلوّن، ويمكن أن يُستخدم فيها التّدمير الذّاتي، وهذا الأخطر.

لم يعد الخبر حكرًا على العشيرة والجماعة أو حتّى القوميّة والمحلّ، بل أضحت العولمة أسهل الممكن برابطة العالم الافتراضي الذّي آمَنَ به الملحدون ولو من دون الحواس! فهُم رغم عجزهم عن تفسير ذاتيّة هذا العالم إلّا أنّهم سبقوا بالشّرّ إلى ساحات الميادين المتاحة لهم، ونقلوا روث النّزاع إليها رغبةً منهم في كسر الإرادة، وتحقيق مطامعهم التسلّطيّة، وأدركوا أنّ للفكر قدرة جبّارة يُمكن إخضاعها وحرفها من دون تكبّد خسائر بشريّة وسفك الدّماء، فينشط “الهاكر” ومن لفّ لفّه في تحصيل انتصارات الوهم على الوهم ومن دون ارتدادات واضحة الظهور لأنّها من نوع اللامرئيّات، وللاستهزاء واللّا يقظة دورٌ فعّال وأولويّ وتنازل مجّانيّ لصالح الخصم في سبيل تحقيق أهدافه وغلبته.

من لم يُؤمِن بعد، يكفيه غفلةً فـ”من نام لم يُنَم عنه”، وحتّى الحرب يا صاح تخطّت حدود الزّمان والمكان، إنّها الذاكرة وأيّة ذاكرة، هي ماضيك وحاضرك ومختصر المستقبل، هي تاريخك ومجدك وعزّة إنسانيّتك الّتي لا تنحني إلّا لموجِدها الأوحد، فيشمل العصف نمط عيشك وثقافتك وأفكارك والشّريان الأساس في تغذية الروح الإنسانيّة فيك، حتّى مشاعِرك صيدٌ ثمينٌ في قبضتهم، ويا لوفرة صيدهم.

بتنا نفهم لماذا عرّفوه بـ”الصندوق الأسود”، فالخبايا والخبث والمكر لا تحتاج لونًا بل سرّها في خفائها، وإذا ما اتحدت ألوان الطّيف سيعجز الضوء عن إظهار ذلك المكنون. لنقلها بالشكّل الجليّ إذًا: من لم يملك تاريخًا مدوّنًا ومدوّيًا سيبتلعه سواد صندوقهم، ومن ينسى الهدف الّذي رسمه سيتخبّط بين جدران فقدان الذاكرة المُسكِر حدّ الموت، ولن يكون هناك بَشرٌ، بل ما تُظهره أفلامهم حول المستقبل خير دليلٍ على ما يخطّطون له من شرٍّ محدقٍ.

من ينسى الدّم الّذي جرى في سبيل المقدّسات هو جبان ومتخاذل، من ينسى الآلام والشّدائد لحفظ الكرامة وصناعة المستقبل الجميل هو الضعيف بعينه، من ينسى الفتوحات والجهود وقرونًا من السّعيّ والجهاد هو خائنٌ وعميل، من لا يثبت على المبدأ والأصل لا يستحقّ أن يُسجّل في عداد الأحياء.

كلّ ما حولنا يدفعنا ولو قهرًا نحو التقدّم والتّطوّر، والبناء الّذي يُبنى لأجل السَّكَن لا يمكن أن يقوم من دون الأساس المتين والثّابت والصّيانة المستمرّة، وهذا يجب أن يكون جليًّا لدى أصحاب الفكر والرّأي ليدفعهم إلى صون التاريخ بمهنيّة وكتابة الحدث بواقعيّةِ وتجرّدِ الحقيقة، فما هو غير الحقيقة يمكن اعتباره انحيازًا ووجهة نظر لأنّ الحقيقة هي الأصل وما دونها يبقى في سرب الأوهام.

الحرب اليوم قائمة على نسيان التّاريخ بجميع أنواعه، تاريخك وتاريخ عدوّك، تاريخ الأجداد والذاكرة القريبة، والعمل يجري على ترقيع الأخطاء بصورٍ مقلوبة، وحجب الضوء حسبما تقتضيه المصالح بالتّصغير والتّكبير والاقتطاع والتلفيق. كلّها متاحة في قوانين الفساد والتغليف المزيّف والوسائل فوق التصوّر في خدمة هذا المشروع الشّيطانيّ القديم حيث المعركة الأصل.
حتّى ذكرياتك دوّنها وراجعْها فلعلّك تأخذ من ماضيك عِبرةً تنفعك في خوض غمار المستقبل، ومن لم ينتفع بالتجارب لا ينتفع بشيء بعدها.

حَفِظ الخالقُ كلّ ذاكرةٍ ثبتت وأرّخت وهي اليوم في عالم الظلام كمصباحٍ بنورٍ جليّ توقظ أذهان التائهين الّذين إذا ما استيقظوا أفنَوا الظّلم والظّلام.

اساسي