أموال المودعين بين العودة وعدمها

بات مشهد الانهيار الكارثي في لبنان هو المشهد الاعتيادي الطبيعي العام المخيم على الاقتصاد اللبناني، حيث أصبحت معالمه تزداد وضوحًا يومًا بعد يوم، لتزداد معها المأساة والزلازل المعيشية التي أصابت صلب حياة اللبنانيين ودمرت معها مقومات الحياة الاساسية.

أتت الانهيارات إذًا بأشكال مختلفة، كان أبرزها وأساسها وأولها الانهيار المالي والمصرفي الذي تجسد بشكل خاص بقيام المصارف بإقفال حسابات المودعين وبالتالي اختفاء ودائعهم وأموالهم بين ليلةٍ وضحاها.
أموال المودعين: بين المحاكم المحلية والاجنبية
نتيجة لما وصل إليه واقع القطاع المصرفي في لبنان ومعه أموال الناس، رفع آلاف المودعين قضايا أمام المحاكم للوصول إلى أي أموال متبقية في القطاع المصرفي. وقد توزعت فئات المودعين بين محلية وأخرى خارجية.

أول مفاعيل هذه الدعاوى، ظهرت أصداؤه من الخارج، في حكم صادر عن محكمة العدل العليا في لندن في الاول من مارس من هذا العام، لرجل أعمال بريطاني يدعى ” ڤانتشي مالكيان”، بإلزام بنك عودة وبنك SGBL بدفع 4 ملايين دولار من أمواله المحتجزة في النظام المصرفي اللبناني بسبب قيود رأس المال الموجودة منذ بداية الانهيار الاقتصادي اللبناني في العام 2019.
بمقابل ذلك، فإن دعاوى المودعين المحليين لم تعطِ في معظم الاحيان النتيجة ذاتها التي توصلت إليها الدعاوى الاجنبية، فأغلبهم لا سيما منهم أصحاب الحسابات الصغيرة، لا زالوا لهذه اللحظة عاجزين عن استرداد أموالهم. ورغم قيام هؤلاء بتأسيس ما يسمى بـ “رابطة المودعين”، والتي تضم عددًا من المحامين والناشطين، وقد تقدمت بأكثر من 300 دعوى على البنوك اللبنانية منذ العام 2019 بالنيابة عن المودعين، الا أن هذا الاتحاد لم يتمكن من استرداد الاموال سوى في 12 قضية فقط!
وعلى مقلب آخر، ثمة مصادر مطلعة تشير إلى أن البنوك اللبنانية تحول أموالًا للخارج فقط للسياسيين وكبار الاثرياء، وهذه الحقيقة ليست بجديدة علينا، وثمة أيضًا علامات استفهام عديدة حول مصادر وطرق جمع هذا الاموال والثروات.

القضاء اللبناني: التورط أم النزاهة ؟
واحدة من الحقائق المرّة التي يعيشها اللبناني اليوم، هي أن الطبقة السياسية الفاسدة الحاكمة في لبنان قد تسببت في دخول الاقتصاد اللبناني واحدة من أسوأ أزمات الكساد الاقتصادي في العالم بسبب قبضتهم الاستغلالية وسرقتهم وتسببهم بتدمير الموارد ، رغم أن لبنان يعاني من واحد من أكبر ثلاثة انهيارات مالية شهدها العالم في آخر 170 سنة.

وتعقيبًا على ذلك، قام القضاء اللبناني منذ الشهرين تقريبًا بتجميد أصول 5 بنوك لبنانية كبرى وأعضاء مجلس ادارتهم بسبب شبهات فساد في معاملات تمت بينهم وبين مصرف لبنان، ليقوم بدوره المدعي العام اللبناني بالسعي لتجميد أصول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشركائه في البنوك السويسرية والفرنسية والالمانية والبلجيكية ولوكسمبورغ بسبب اتهامات متعلقة باختلاس حاكم المصرف لـ 330 مليون دولار من أموال المودعين بمساعدة شقيقه.

هذه الخطوات التي أقدم عليها القضاء اللبناني مؤخرًا تجعل هذا الاخير في موضع تساؤل وتحليل وتطرح علامات استفهام عديدة حول حقيقة دوره وموقعه من كل ما يحصل بين السلطة والشعب، فهذه الخطوات وإن دلت بمكان ما على بعض من النزاهة المتبقية في هيكلية القضاء اللبناني، لكنها تثير التساؤل: هل سيتمكن فعلًا هذا الاخير من مواجهة إمبراطورية الفساد الكبرى وحيتان المال والسرقات؟ وهل ستكون هذه المحاولات أشبه بتلك التي يعول عليها لإحداث أي خرق في جدار هذه السلطة الفاسدة، حيث أقل ما يمكن تحقيقه حينها هو تبيان فسادهم للرأي العام أكثر فأكثر، أم أن كل ما حدث ليس سوى بروباغندا إعلامية في محاولات لتشتيت الرأي العام عن تقاعس القضاء وبالتالي تآمره في العديد من الاحيان؟

في جميع الاحوال، وفي كل السيناريوهات المطروحة، وبعد أحداث الاقتحامات الاخيرة للعديد من المصارف من قبل المودعين، فإن الامر يشير إلى قناعة لدى المودعين بأن اللجوء إلى القضاء لن يأتي بنتيجة لأن القضاء اللبناني هو جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة، الامر الذي دفعهم إلى السعي لاسترداد حقوقهم بأنفسهم وبأي وسيلة متاحة.

بين اليأس والامل تنعقد آمال اللبنانيين في استرجاع ودائعهم المنهوبة، منهم من فقد الامل نهائيًّا بحدوث أمر كهذا، والبعض الاخر بانتظار معجزة من الممكن أن تحصل وتعيد حقوق الناس إليها. ولأن القضاء اللبناني هو الجهة الوحيدة التي يعول عليها في حل هذه القضية وغيرها من القضايا، فإنه لا زال لدى اللبنانيين بقايا أمل يخمد من حين لآخر ويعود ليظهر مجددًا، مع تمنٍّ بأن يكون قد تبقى فعلًا بعض من عدالة الارض في الجسم القضائي اللبناني ليسترد حقوق الناس المنهوبة. ولكن إن كانت عدالة الارض قد ماتت للأبد فيهم، فإن عدالة الرحمن يومًا ما، لا محالة آتية.

اساسي