مع تعثر مفاوضات فيينا: خطة “إسرائيلية” لـ “احتواء إيران”؟

مع استمرار حالة المراوحة في محادثات فيينا بشأن إحياء الاتفاق النووي الإيراني، وتضارب التسريبات بشأن مراحل تقدّم تلك المحادثات بين حين وآخر، تسابق تل أبيب الزمن في مواصلة الصراخ، السياسي والميداني، للتعبير عن رفضها عودة واشنطن إلى “التزاماتها النووية” وفق الاتفاق، الموقع عام 2015، واستباقًا لأي اختراقات إيجابية في المحادثات قد تطرأ في أي لحظة. وهي إذ تنطلق في رفضها من اعتبارات متعددة يأتي “الثابت الأيديولوجي” في الموقف الإيراني المعادي للكيان الصهيوني في طليعتها، من جهة، في حين تبدو البدائل الأخرى، بما فيها الخيار العسكري ضد “الجمهورية الإسلامية”، وكأنها لا تحظى بدعم الحليف “الأميركي، ولا حتى بإجماع القيادتين السياسية والأمنية “الإسرائيلية” من جهة ثانية. أما إيران، فتجد نفسها ملزمة بالرد على تلك الخطط المعادية، ضمن حدود تراعي عدم إلحاق أضرار جانبية أو جسيمة بطاولة المفاوضات المنعقدة بينها وبين القوى الكبرى في فيينا.

وفي ضوء العجز “الإسرائيلي” المزمن عن ابتكار “خيار مثالي” لوضع حد للطموحات النووية الإيرانية، لا يبدو مستغربًا لجوء تل أبيب خلال عهد حكومة نتنياهو السابقة إلى تكتيكات “حرب الظل” ضد إيران، وتكثيف وتيرة تحركاتها ضد “محور المقاومة” في أكثر من ساحة بدءًا بسوريا، وليس انتهاء بالعراق ومياه البحرين الأحمر والمتوسط. فلطالما وفّر ذلك النوع من المواجهة “الخفية” بين طهران وتل أبيب مزايا كبيرة للأخيرة لناحية تجنيبها ردًّا إيرانيًّا قاسيًا، فيما لو كان الاستهداف لمواقع تابعة لإيران، أو حلفائها، علنيًّا.

وفي ظل حكومة لابيد- بينيت الحالية، وبالتوازي مع إعلان الأخير عمّا أسماه “استراتيجية الأخطبوط”، دخلت المواجهة “الإسرائيلية” الإيرانية مرحلة جديدة لم تأخذ شكلها النهائي بعد. الجديد في ثنايا هذا الإعلان، هو تعهد كيان الاحتلال العلني بضرب أهداف داخل الأراضي الإيرانية، في حال تعرّضه لهجمات من قبل فصائل المقاومة، المدعومة إيرانيًا. نبرة التهديد “الإسرائيلية” جاءت على لسان بينيت، في حزيران/ يونيو الفائت حين أشار إلى “معادلة جديدة” قائمة على التوجه إلى ضرب “رأس الأخطبوط”، بدلًا عن الاكتفاء بضرب أطرافه، في إشارة إلى إيران، ومن ثم عبر تصريحات لرئيس “الموساد” ديفيد برنياع في أيلول/ سبتمبر الجاري حين هدّد بأن “لا حصانة لإيران” في حال شن هجمات ضد مصالح، أو أفراد، “الدولة العبرية”.

من جهته، يشرح الكاتب في صحيفة “جيروزاليم بوست” العبريّة، سيث فرنتزمان، أبرز عناصر “استراتيجية الأخطبوط”، من خلال الإشارة إلى أن التوجه العام في تصريحات القادة “الإسرائيليين” بين شهري حزيران/ يونيو وأيلول/ سبتمبر يرسم ملامح نبرة تصعيدية واضحة المعالم في توجيه الرسائل إلى إيران، ملمحًا إلى أنها تقدم تفسيرات لحقيقة ما يجري على أرض الواقع في أكثر من ميدان. ويضع فرنتزمان الغارات المتكررة على سوريا، في إطار “المعركة بين الحروب”، الهادفة بصورة أساسية إلى ضرب الحضور العسكري الإيراني هناك.

ومن هذا المنطلق، يرى الأستاذ الجامعي في “الجامعة الأميركية للدفاع الوطني”، جودت بهجت، أن تل أبيب باتت تستشعر الحاجة إلى إجراء مراجعة لـ “استراتيجيتها الإيرانية”، شارحًا أن دوافعها لتعديل تلك الاستراتيجية تتصل باحتمال انهيار مفاوضات إحياء اتفاق فيينا، أو بتجميدها لفترة طويلة نسبيًا، إضافة إلى امكانية تطور البرنامج النووي الإيراني بوتيرة أسرع، وعجز “إسرائيل” عن “اجتراح حل قريب الأجل وناجع للمضاعفات المحتملة” الناجمة عن أي عمل عسكري ضد إيران، ملمحًا إلى أن الوقت بدأ يداهم “إسرائيل”.

ويضيف الباحث المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، أن النهج “الإسرائيلي” الجديد، يعكس الشروع في تنفيذ خطة جديدة لـ “احتواء إيران”، تتجلى في ترسيخ “شراكة عسكرية” اقليمية في مجال الأمن البحري، كمرحلة أولى، وقد تم تجسيدها لأول مرة عمليًا في مناورات شاركت فيها البحرين، والإمارات، إلى جانب “إسرائيل” قبل نحو عام، ومن ثم عبر إعلان وزير الأمن “الإسرائيلي”، في حزيران/ يونيو الماضي عن حلف إقليمي في مجال الدفاع الصاروخي، بالتعاون مع واشنطن، وشركاء إقليميين، لا سيما دول الخليج، كمرحلة ثانية من هذا التعاون. ويوضح أن تل أبيب تتمسّك بهذه الخطة، وإن كانت فرص نجاحها ستبقى بعيدة المنال، أقله على المدى القصير، معتبرًا أن تنفيذها ربما يسهم في احتواء أي رد فعل انتقامي، قد تُقدم عليه إيران، في حال تعرض منشآتها النووية لضربات “إسرائيلية”.

ويشير إلى أن تقديرات المؤسسة الأمنية في “إسرائيل”، تقيّم عاليًا الخطة المشار إليها، مضيفًا أن المسؤولين “الإسرائيليين” ينظرون إلى برنامج التعاون العسكري، مع دول الخليج، كإحدى مراحل الاستعداد لضرب إيران.

وبالتوازي، يجري العمل على تقريب الوجود العسكري “الإسرائيلي” من إيران، على نحو يعزز بشكل كبير من قدرات جمع المعلومات الاستخبارية، وحشد القدرات اللوجستية لتوجيه ضربات إلى داخل الأراضي الإيرانية، فيما تُسر مصادر عسكرية في تل أبيب بنجاح “الحلف الجديد”، كخطوة أولى نحو التوافق التشغيلي والعملياتي، في الربط بين أجهزة الاتصال والرصد الالكترونية العائدة لأنظمة الدفاع الصاروخي للأطراف المنضوية فيه، مشيرة إلى أن “إسرائيل” نشرت أنظمة استطلاع ورادارات داخل أراضي البحرين والإمارات لهذه الغاية.

ضمن هذه الاستراتيجية الجديدة، وعلاوة على توسيع مروحة الاغتيالات لتشمل علماء نوويين وقادة عسكريين، من الصف الثاني، بعدما اقتصرت في وقت سابق على قيادات وشخصيات من الصف الأول، إضافة إلى شن هجمات تخريبية داخل إيران، صعّدت “إسرائيل” مؤخرًا من وتيرة هجماتها ضد إيران، وحلفائها، انطلاقًا من وجود إجماع في صفوف القيادات السياسية في تل أبيب على أنه لا يمكن معالجة الملف النووي لإيران، بمعزل عن تقييد دورها الإقليمي.

فعلى الساحة السورية تحديدًا، والمصنّفة لدى الدوائر الأمنية والعسكرية “الإسرائيلية” على أنها “الخاصرة الرخوة لمحور المقاومة”، يكمن المثال الأبرز لهذه الاستراتيجية الجديدة. فقد بدا واضحًا التركيز على استهداف البنية التحتية الأساسية السورية خلال الأسابيع الأخيرة، وتحديدًا مطاري دمشق وحلب، بصورة غير مسبوقة. ووفق بعض التقديرات، فقد فاق عدد الهجمات “الإسرائيلية” داخل سوريا منذ مطلع العام الجاري 24 هجومًا، معظمها استهدف مواقع إيرانية.
وفي خلفية الهجمة “الإسرائيلية” الشرسة ضد دمشق، يحضر كلام عن استخدام طهران المطارات السورية لنقل الأسلحة إلى حلفائها هناك، وعن وجود خشية لدى تل أبيب من انشغال روسي بحرب أوكرانيا، قد يكون مرادفًا لإطلاق يد طهران داخل الجولان. ويحضر في الخلفية أيضًا، وجود نوايا لدى حكومة الاحتلال لتوسيع نطاق المواجهة مع طهران في أكثر من ساحة في إطار “خطة الاحتواء”، بدءًا من تحجيم حضورها في سوريا، معوّلة على تقارب “عربي- إسرائيلي”، إضافة إلى رهانات لا تخفيها بشأن إحداث توترات في الشارع الإيراني قد تشعل الوضع الداخلي في وجه الحكومة، وتُشغلها لفترة ما عن استحقاقات مصيرية تواجهها “الجمهورية الإسلامية”، والعالم على حد سواء.

في المقابل، تشير دراسات غربية إلى أن عنصرين متداخلين، يحكمان استراتيجية إيران في الرد على “إسرائيل”. وبحسب “معهد الشرق الأوسط” للدراسات والبحوث الاستراتيجية، فإن طهران، في المقام الأول، تنظر إلى برنامجها النووي على أنه وسيلة لتحقيق التوازن مع أعدائها، ذلك أن توسيع العلاقات العسكرية العربية “الإسرائيلية” قد يدفع قيادة “الجمهورية الإسلامية” إلى الاعتقاد بأن الحفاظ على وتيرة تقدّم برنامجها النووي بمستوياته الحالية، سوف يترتب عنه فوائد أمنية في المستقبل، في إشارة إلى إمكانية اقتراب إيران من أن تصبح “دولة عتبة نووية”، أو حتى دولة مسلحّة نوويًا. ويلفت المعهد، إلى أنه، في حال خلُصت طهران إلى تقدير أن التعاون العسكري الإقليمي بين العرب و”إسرائيل” لمواجهتها، سيتزايد، سواء بوجود الاتفاق النووي أو عدمه، فمن المرجح أن تستنتج أن إحياء الاتفاق المذكور يمثل خطرًا أمنيًا أكبر عليها. ويحذّر المعهد، من انه، في هذه الحالة، قد تقرر طهران الرد من خلال تسريع وتيرة برنامجها النووي، وهو نهج سبق أن اتبعته سابقًا، حين كانت تُقابل الهجمات “الإسرائيلية” ضدها، بزيادة معدلات التخصيب داخل منشآتها النووية.

كذلك، يشير المعهد إلى العنصر الثاني في الاستراتيجية الإيرانية، معتبرًا أنه يتمثل بإمكانية لجوء طهران إلى إظهار اقتدارها العسكري وتعزيز موقفها الردعي من خلال تقوية حلفائها الإقليميين، وتكثيف مساعداتها التسليحية لهم. ويلمح المعهد إلى أن سعي “إسرائيل” لاحتواء البرنامجين الصاروخي والنووي لطهران، من خلال محاولة التأسيس لتواجد أمني- عسكري على مقربة من الأراضي الإيرانية، كجزء من استراتيجيتها القائمة على تحشيد الموارد العسكرية بالتعاون مع شركائها الإقليميين، يشي بتهيئة المسرح الإقليمي لخيار عسكري لاحق ضد طهران، عملًا بـ “مبدأ بيغن”، وهو مسعى يتقاطع مع رغبة بعض القيادات الخليجية في نقل المعركة إلى داخل إيران. في هذه الحالة، يحذّر خبراء عسكريون من خطورة هذا البعد العسكري والأمني في التقارب بين تل أبيب، وعدد من دول الخليج، باعتباره سوف يُقرّب المنطقة من “سيناريو الحرب الشاملة”، معتبرين أن المبالغة في تعزيز هذا البعد، قد تدفع طهران إلى إخراج خرائط “الحرب الشاملة” من الأدراج، توازيًا مع تعزيز ترسانة حلفائها الإقليميين من الأسلحة، بخاصة المسيّرات ذات القدرات الهجومية المتطورة، والصواريخ ذات المديات البعيدة. ويعزّز هؤلاء تقديراتهم بالاستناد إلى تقارير غربية تتحدث عن رفد إيران حركة “أنصار الله” في اليمن، بمسيّرات جديدة أكثر تطورًا خلال العام الجاري، ومواصلة “حزب الله” مسيرة التصنيع العسكري للصواريخ الدقيقة محليًا، بدعم إيراني واضح.

وفي ضوء نجاح إيران في تطوير مسيرات متطورة، غالبًا ما يشار إلى استخدامها في الهجمات على منشآت خليجية، وسفن إسرائيلية، على غرار المسيرة “شاهد 136″، تشير صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن حركة “أنصار الله” في اليمن، باتت تقوم بتجميع مسيرات بعيدة المدى، والتي وسعت نطاق عملها خلال الأشهر الأولى من العام الجاري، لتستهدف قاعدة الظفرة في الإمارات العربية المتحدة، وإحدى المنشآت النفطية داخل الأراضي السعودية، شارحة أن الفضل في التوسع السريع لقدرات الحركة يعود إلى حد كبير إلى المساعدة العسكرية السرية من إيران.

وتشدد الصحيفة على أن صعود “أنصار الله” كقوة قادرة على الضرب إلى ما هو أبعد من حدود اليمن، عن طريق مسيرات يصل مداها الى 1300 ميل، وصواريخ بالستية بمدى يقارب 700 ميل، ساعد على دفع عملية إعادة اصطفاف سياسية أوسع نطاقًا في الشرق الأوسط، الأمر الذي أدى ببعض الدول العربية إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع “إسرائيل” في عام 2020 ودفع دولًا أخرى للتحرك نحو التعاون العسكري والاستخباراتي السري لمواجهة إيران.

وتعتبر الصحيفة أن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تشاركان “إسرائيل” قلقها من الدعم العسكري الإيراني لحلفائها من حركات المقاومة في جميع أنحاء المنطقة موضحة أنهما تنظران إلى “إسرائيل” كشريك دفاعي جديد محتمل.

ووفق مراقبين، فإن كل هذه الاستعدادات الخليجية “الاسرائيلية” تأتي في سياق الجبهة الجديدة المتشكلة ضد “محور المقاومة”، الساعي بدوره إلى مواكبة التطورات العسكرية المتنامية للمحور المعادي له، قبل “الساعة صفر” للحرب المقبلة.

اساسياسرائيلايرانفيينا