في العشرين من صفر من كل عام، تعود إلينا الذكرى، ذكرى العزاء والولاء لسيد الشهداء وآل بيته (ع)، تعود لتشق في أرواحنا سبيلًا للطمأنينة والروحانية التي كلما غابت عنا، جمعنا ما تبقى من أرواحنا المتعبة وتجهزنا لإحيائها بعد انتظار، بعشق وحب وشوق لا يعرف معنى للتوقف ولا سبيلًا للنهاية، فهذه الحكاية التي بدأت منذ ألف وأربعمئة عام، كتب لها الخلود الأبدي، وكتبت لنا الرحمة في الدنيا والشفاعة في الآخرة.
ذكرى الأربعين توحد الأمة بأجمعها
شهدت مدينة كربلاء المقدسة ليل الجمعة-السبت أكبر تجمع بشري في العالم، لإحياء ذكرى الأربعينية، إذ حضر ما يزيد عن 21 مليون زائر إليها، أتوا من كل حدب وصوب من كل قارة ودولة ومدينة، لإحياء مصيبة أهل البيت (ع) بعد انقطاع لسنتين بسبب جائحة كورونا.
صغارًا وكبارًا، شيوخًا وأطفالًا، لم يمنعهم أي ظرف أو حال عن تلبية النداء وتجديد البيعة لسيد الشهداء (ع)، لم يكترثوا لحالهم، ولا لمرضهم، ولا لفقرهم ولا لأي أذى قد يلحق بهم، جاؤوا وقد سار بهم العشق نحو سيده، نحو رحمة الله الواسعة.
إلى جانب ضخامة الحشود المشاركة، كان الملفت لهذا العام أجواء الهدوء والارتياح العام، إذ لم يسجل أي خرق أمني خلال ذكرى الإحياء، رغم هذا البحر البشري الهادر، وفق ما أفادت السلطات العراقية، وقد توافد الزوار من 80 بلدًا تقريبًا، توزعوا بين 15 مليون زائر عراقي و5 ملايين زائر أجنبي، معظمهم من الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وقد كان من الملفت أيضًا لهذا العام الانسيابية والسلاسة في حركة الزائرين، بالإضافة إلى وجود قوى أمنية عراقية بأعداد كبيرة في كربلاء، عملت على تأمين الزيارة والمشاركة في عمليات التموين ونقل الزوار من وإلى كربلاء المقدسة.
فضلًا عن ذلك، فإن مواكب العزاء والضيافة كانت في أتم الاستعداد لاستقبال جموع الزائرين المتوجهين إلى كربلاء، وقد عملت على تقديم كل وسائل الراحة من توفير الطعام والشراب والمبيت وأي شكل من أشكال الخدمة كل حسب اختصاصه وطريقة تقديمه للخدمة، وقد كانت هذه الخدمات تتوّج بصيحة عظيمة تتربع على عرش قلب كل زائر “هلا بزوار أبو علي ..”.
الأربعينية: تجديد التمسك بمبادئ مدرسة عاشوراء
لذكرى عاشوراء والأربعينية وقعٌ في نفوس المسلمين عمومًا والشيعة خصوصًا لا يشبهه أي حدث آخر، كيف لا، ومن هذه المدرسة بدأ كل شيء، واستمر وامتد حتى وصل إلينا؟
معها وبها سُطّرت معاني التضحية والشهادة والكرامة والذود عن الدين المحمدي الأصيل، بها حفر تاريخ الأمة في سجلاته أعظم معركة عرفها بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الغرق في ملذات الدنيا ومتاهاتها، والفوز بحب المعشوق الأعلى والدار الآخرة.
إن انتماءنا لهذه المدرسة يحتّم علينا مسؤولية دينية وشرعية كبيرة، ونحن مسؤولون عنها في الدنيا والآخرة، فهذا الانتماء لا بد أيضًا من أن يترجم في تفاصيل حياتنا، ومواقفنا وكيفية تعاملنا مع القضايا الفردية وقضايا المجتمع والأمة، أن نقف وقفة حق ومنطق وبضمير واع وحي مع كل مظلوم ومضطهد ومحتاج وضعيف، وأن نبدأ بإصلاح أنفسنا ومن ثم مجتمعنا وأمتنا.
لم تكن عاشوراء معركة فقط للدفاع عن النفس وحق الوجود والعرض والكرامة، فإلى جانب هذه القضايا المقدسة، ثمة معان أخرى لها تمتد في الروح البشرية والإنسانية بشكل عميق جدًا.
فالنفس التي وصلت إلى مقام العشق والشهادة والتضحية، لا بد أنها تربت وتدربت وتعلمت وتأقلمت حتى وصلت إلى هذا المستوى من جهاد النفس الحقيقي. ولا بد لنا أن نتذكر دائمًا أن من نحيي ذكراه المقدسة اليوم قد خرج لطلب الإصلاح في أمة جده رسول الله (ص)، وليس لشيء آخر أو غاية دنيوية. وفي ذكرى الأربعينية نسأل الله سبحانه أن نكون قولًا وفعلًا من الموالين المحبين الماضين على خطى سيد الشهداء (ع)، سفينة نجاتنا ورحمة الله الواسعة فينا.