على وقع الإدانة المتواصلة من قبل دمشق للاحتلال الأميركي، ودعوتها إلى انسحاب كل القوات الأجنبية المحتلة من أراضيها، تصاعدت حدة الهجمات على المواقع العسكرية الأميركية في شرق سوريا، وتجاوز عددها الخمس هجمات منذ نيسان/ أبريل الفائت، كان أبرزها في آب/ أغسطس الماضي حين تعرض قاعدتَان تشغلهما القوات الأميركية في ريف دير الزور الشرقي، قرب حقل العمر النفطي، ضمن ما يُعرف بـ “القرية الخضراء” وفي محيط حقل شركة كونوكو للغاز، إلى قصف صاروخي. وهو قصف جاء بعد ساعات من هجوم آخر عبر طائرة مسيّرة استهدف قاعدة التنف الجنوبية، حيث تتولى القوات الخاصة الأميركية تدريب عناصر ما يُعرف بـ “مغاوير الثورة”.
مشهد الاشتباكات الأكثر حراجة منذ أشهر، والذي توالت فصوله بين أخذ ورد على مدى ثلاثة أيام، يصنّف ضمن خانة رد القوات الرديفة للجيش السوري على سلسلة هجمات متكرّرة من قبل القوات الأميركية ضدها، وقد أعقبه قصف مضاد من جانب الأخيرة لنقاط في منطقة حويجة صكر، قرب دير الزور، وفي محيط مدينة الميادين وجبل الثردة.
رويدًا رويدًا، تتكشف مفاعيل قمة طهران الثلاثية، والتي جمعت رؤساء إيران وتركيا وروسيا. واقع الأمر، أن معركة دمشق ضد ممارسات واشنطن، والتي لا تقتصر على انتهاك سيادة سوريا، والتواجد العسكري دون إذن من حكومتها، بل تتعداها إلى نهب الثروة النفطية المتركزة شرق البلاد، باتت تحظى بمؤازرة سياسية وعسكرية أكثر حدة من جانب حلفاء حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، روسيا وإيران على وجه الخصوص. والدولتان تبديان جدية في الدفع نحو مصالحة بين أنقرة ودمشق، ضمن بنود قد تشمل إعادة إدلب إلى حضن الدولة السورية، مرورًا بإخراج الجماعات المسلحة منها، وصولًا إلى إحياء “اتفاق أضنة”، أو التفاهم على نسخة “محدّثة” عنه، وهو ما يعني ضمنيًا التحاق تركيا بركب المنزعجين من الدور الأميركي شرق الفرات، مقابل حصولها على ضمانات متعلقة بالملف الكردي.
فقد سبق ذلك الحدث الميداني، واضح الدلالات بشأن التصورات بشأن مستقبل الوجود الأميركي في سوريا، وفي مطلع آب/ أغسطس تحديدًا، غارة جوية روسية ضد عناصر مسلّحة بالقرب من القاعدة الأميركية في منطقة التنف، الواقعة على مقربة من مثلث الحدود السورية مع الأردن والعراق، حيث جرى تدريبها وإمداداها على يد القوات الخاصة الأميركية. وفي وقت لاحق من الشهر نفسه، نشرت وسائل الإعلام الروسية، صورًا ومقاطع فيديو التقطتها مروحية روسية فوق قاعدتي “ديريك” و”خيمو” الأميركيتين على الأراضي السورية. كما تبعه أنباء عن استهداف جديد للقاعدة الأميركية المتواجدة في حقل العمر النفطي، في محافظة دير الزور مطلع أيلول/ سبتمبر الجاري.
وبالتوازي، كانت موسكو تخوض معركة دبلوماسية داخل أروقة الأمم المتحدة، دعمًا لحليفتها، حين أعرب الوفد الروسي الدائم لدى المنظمة الدولية عن استنكار بلاده للنهب الأميركي لآبار النفط ومحاصيل الحبوب العائدة للشعب السوري.
هي مستجدات لا يمكن قراءتها بعيدًا عن سخونة المشهد الأوكراني التي انسحبت على واقع العلاقات بين واشنطن وموسكو، حيث تبدو التفاهمات الميدانية القائمة بينهما على صعيد إدارة التفاعلات العسكرية على الساحة السورية مهدّدة، بفعل الغارات الروسية الأخيرة على التنف. وبدا واضحًا، أن الحرب الدائرة في أوكرانيا، تركت آثارها على المواقف الروسية من القضايا الدولية والإقليمية بصورة أكثر حدة. ولم تسلم الحالة السورية من معاينة تلك الآثار، حيث عكف الروس على “التصعيد الناعم” في مواقفهم تجاه الأميركيين و”الإسرائيليين” على حد سواء، بدءًا بنشر منظومات صاروخية في الشمال السوري، وتعزيز انتشارهم العسكري شرقًا، وتحديدًا في مطار القامشلي، في مؤشر يمكن عدّه تصعيدًا موازيًا لتصعيد واشنطن في الشرق الأوكراني. وإذا كانت غارة التنف عرفت طريقها إلى واشنطن، فإن ما أُشيع عن إطلاق إحدى بطاريات صواريخ الدفاع الجوي الروسية صاروخًا باتجاه إحدى الطائرات “الإسرائيلية” في سماء سوريا في شهر أيار/ مايو الماضي، أوصل تحذير موسكو إلى من يعنيهم الأمر في المؤسسة الأمنية لتل أبيب، باعتراف وزير الحرب بيني غانتس نفسه، حين تحدث علانية عن الحادثة، مبديًا استهجانه من التعاطي الروسي المستجد مع الطيران “الإسرائيلي”.
من جهتها، لا تبدو إيران بعيدة عن عودة الزخم الميداني في مواجهة “الحلف الأميركي- الإسرائيلي” ضد دمشق. وفي هذا السياق، تشير تقارير غربية إلى تنامي الدور الإيراني في بعض محافظات الشرق السوري، خاصة في الحسكة، إلى جانب “قوات الدفاع الوطني”، بعضها على مقربة من طريق M4 الحيوي. يسجّل هنا، نجاح طهران في كسب تأييد بعض العشائر العربية، والدفع باتجاه تشكيل “مقاومة شعبية” في معركتها ضد قوات “قسد”، والقوات الأميركية، على حد سواء، وذلك على خلفية سخط قطاعات واسعة من سكان تلك المناطق من نهج “قسد” في الحكم والإدارة، وإجراءاتها “التمييزية” بحق أبنائها من العشائر. فخلال الأسابيع الأخيرة، زارت وفود عشائرية من الحسكة طهران، في ظل تحشيد تتولاه القوات الرديفة للجيش السوري وحلفائه في تلك المنطقة، لمئات العناصر في إطار توافق إيراني- روسي- تركي على رفض الوجود الأميركي فيها، والتمهيد لترتيبات سياسية وأمنية تتعلق بـ “الملف الكردي”. وتشير المصادر الغربية، إلى أن توجيهات القيادة العسكرية لتلك القوات تقضي بتسريع الجهود لبدء “معركة تحرير الحسكة”، وطرد الوجود العسكري الأميركي منها، على أن تصل تباعًا خلال الأيام المقبلة تعزيزات عسكرية، قوامها أسلحة متوسطة وثقيلة عبر حدود المحافظة مع العراق، علمًا أن لعشائر الحسكة صلات قربى مع عشائر الجانب العراقي من الحدود.
وفي أوج تحشيد دمشق وحلفائها ضد القواعد العسكرية الأميركية على أراضيها، تزامنًا مع العراقيل التي يضعها الغرب أمام الحل السياسي للأزمة السورية، وعودة النازحين إلى بلادهم، ومن بينها رهانه على استخدام “الورقة الكردية” ضد الحكومة السورية، تلفت المصادر نفسها إلى أن عين إيران على الحسكة، من أجل تأمين خط إمداد بديل لقوات “محور المقاومة” في الشرق السوري، عن معبر القائم قرب دير الزور، في ظل تعرضه لغارات أميركية متكررة، بسبب المزايا الجغرافية للمحافظة، التي تقع على مقربة من منطقة سنجار وربيعة وتل عفر العراقية التي ينتشر فيها جزء من قوات “الحشد الشعبي”.
ووفق “مركز دراسات الشرق الأوسط”، فإن التوتر الذي شهدته مناطق شرق الفرات وخاصة دير الزور خلال الفترة الأخيرة بين القوات الأميركية في حقل العمر وقوات حليفة للحكومة السورية، مدعومة إيرانيًا، منتشرة على ضفاف نهر الفرات، لن يكون الوحيد، وسط تكهنات بأن نشهد ازديادا في الهجمات التي تستهدف دوريات وقواعد التحالف الدولي وحلفائه من قوات “قسد” في المنطقة. وبحسب المركز، فإن إيران باتت تتحرك بشكل فاعل وشبه معلن ميدانيًا، ضد واشنطن، بغية تكرار “التجربة العراقية” في سوريا، ودفع القوات الأميركية للانسحاب، في الحد الأقصى، أو تقليل نشاطها وحضورها هناك، في الحد الأدنى. الأمر المؤكد، هو أن استراتيجية دمشق وحلفائها الجديدة ضد القوات الأميركية في الحسكة، ستشكل تهديدًا حقيقيًّا لطرق امداد وتحرك قوات التحالف الدولي في المحافظة.