كنّا لا نزال نلملم جراحنا وأشلاء شهدائنا من تحت الركّام والحطام على إثر عملية “تصفية الحساب” في تموّز من العام 1993 حين أقدم العدو الصهيوني على شنِّ عدوانٍ واسع على جنوب لبنان بهدف سحق المقاومة فيه ومنعها من استهداف المغتصبات الصهيونية في الجليل الفلسطيني بأمرٍ من إسحاق رابين رئيس وزراء العدو الإسرائيلي آنذاك والذي قتل فيما بعد على يد متطرفٍ صهيوني خلال احتفالٍ عام، حينها واجهت المقاومة بشراسة واستشهاد قلَّ نظيره وردَّت كيد العدوان إلى نحره.
ساء البعضُ أن تخرج المقاومة من تلك الحرب مرفوعة الرأس حاصلة على تقدير ومحبة وثقة جمهورها أنها تحميهم وتدافع عنهم، مسقطة أهداف العدوان وفارضة شروطها ولو بتفاهم غير مكتوب (تفاهم تموز) وواضعة أول معادلة لتوازن الردعِ مع هذا العدو: لا استهداف للمدنيين والقرى والبلدات الآمنة، لا ردّ بالكاتيوشا على مستوطنات العدو، والسلام.
هذا الإنجاز وقع كالصاعقة على رأس منظومة لبنانية – سورية عفِنة كانت تدير السياسة والاقتصاد والأمن في البلاد حيث عملوا كل ما بوسعهم لتوهين وتخفيف وطأة وهج هذا الانتصار محاولين وضع المقاومة بوجه ناسها وأهلها الذين كانوا ما زالوا ينتشلون جثث أحبائهم من تحت البيوت المدمّرة، ومتخذين قرارًا دُبِّر بليل التآمر بمحاولة فاشلة لإدخال الجيش اللبناني للانتشار في القرى والبلدات حتى مناطق التماس مع العدو الإسرائيلي في الحزام الأمني من المنطقة المحتلة، مراهنين على المواجهة والاشتباك بين الجيش والمقاومة، ولكن أسقطت أوهامهم بتدبيرٍ من الله وحكمة المخلصين وصبرهم.
على ما يبدو أن التفاوض مع العدو الإسرائيلي وأمام كاميرات الصحافة هو غيره في الغرف الخلفية حيث تعمل قوى التخاذل والهزيمة على ترتيب تفاهمات سريّة مع العدو بما يحفظ لها سلطتها ودورها وبقاءها على رأس الشعوب المسحوقة، وهذا ما كان في لقاءات أوسلو من تفاوض غير متكافئ بين من ألقوا السلاح الذي دفعت ثمنه الجماهير من دمائها وتعبها وتشريدها في المنافي وعدوّ مستعلٍ على المتخاذلين، خرجت جماهير المقاومة في الضاحية الجنوبية لبيروت لتعلن رفضها لما سمّيَ بـ”اتفاق أوسلو الخياني” ولتعبّر عن سخطها من هذا الانهزام والتخاذل ممن يفترض أن يكونوا مؤتمنين على قضية فلسطين وشعبها، ولتؤكّد رفضها هذا الاتفاق الخياني ولتجدد استمرارها في حمل قضية فلسطين واحتضان شعبها ومقاوميها.
تظاهرة ذاك اليوم كانت عادية شارك فيها الناس رجالًا ونساءً كبارًا وصغارًا وهتفت لفلسطين، سارت في الطرقات، لم تمارس الشغب ولا العدائية أو التخريب، حدد مسارها من الانطلاق وحتى النهاية بالتنسيق مع القوى الأمنية، ولكن أولئك القابعين في زوايا غرفهم السوداء ووفقًا لإملاءات أسيادهم لم يرق لهم ذاك الشجب والاعتراض على المسارات الخيانية بحق الشعوب ولو بأسلوب راقٍ في التعبير، فأوعزوا إلى زبانيتهم المندسين بين عناصر الجيش والأمن الداخلي في محاولة لجر المقاومة إلى صدام وفتنة مع الجيش بإطلاق النار على المشاركين في التظاهرة، وباتوا يسقطون الواحد تلو الآخر، تسعةُ شُهداء وعشرات الجرحى، شبابٌ وشابات لهم أحلامهم وآمالهم، لهم أهلٌ وعائلات، أمهات وآباء وزوجاتٌ وأطفال، قتلوا في الشارع فقط لأنهم رفضوا الهزيمة أمام العدو، قتلوا بدمٍ بارد بطلقات في الرؤوس والصدور، ذنبهم حبَّهم لفلسطين وللقدس وللقضية الإنسانية للشعب الفلسطيني، لم يرموا حجرًا ولم يطلقوا هتافًا عدائيًّا بوجه سلطةٍ أو نظام. خرجت الضاحية بأمها وأبيها لأجل فلسطين وشعبها وأطلقت الرصاصات الغادرة عليها بعيونٍ وقحة وقلوبٍ متحجِّرة ذات نهارٍ عند جسر المطار.
تداركت قيادة المقاومة تداعيات المجزرة – الجريمة وعملت على رفع شهدائها وجرحاها من الطريق. عادت الجماهير إلى “باحة الشورى” لتسمع قرار قيادتها مدركةً حجم المؤامرة عليها، عادت هاتفةً بملء حناجرها: “يا شورى يا أفاضل نريدُ أن نقاتل”. أطلَّ عليهم سيدهم وقائدهم أنيس المجاهدين وحبيبهم وهو دامي القلب مهدِّئًا من ثورتهم وغضبهم مؤكِّدًا لهم وبكل صبرٍ وبصيرة: “نعم سنقاتل.. ولكن سنقاتل أسيادهم ..”، وهذا ما كان.
تسعة وعشرون عامًا على الجريمة البشعة ودم الشهداء المظلومين “نزار قانصوه، محمد عبد الكريم، عبود عبود، سمير وهب، سكنة شمس الدين، صباح حيدر ، مصطفى شمص، حسن بزّي وعلي طويل” ما زال يسوء وجوه قاتليهم، وما زلنا نردد إلى اليوم ونقول: “المجدُ لأيلول الشُّهداء.. بدمائهم دون مذلَّة غسلوا عار السلم العربي”.