بلغت مرحلة انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ذروتها، وفرضت نفسها في كل ميادين الحياة الخاصة قبل العامة، ولم يعد الغرض منها مقتصرًا على “التواصل الاجتماعي”، بل تعدى حدود هذا المصطلح بأشواط عديدة.
منصات وصفحات وحسابات لا نهاية لأعدادها، ولا لأهدافها، تزداد يومًا بعد يوم في ظل ما يدور على وجه هذا الكوكب من أحداث تتسارع هي بدورها بوتيرة غير مسبوقة.
ولأن الإنسان بطبعه فضولي فقد سعى إما لكسب المعرفة والعلم والمهارة من هذه الوسائل، وإما لنشر الجهل والفساد والغباء عبر هذه الوسائل التي لا تعد. والجدير بالذكر أن الفئة الثانية هي الأشد خطرًا وضررًا على الرأي العام بشكل عام لأن محاربة الجهل إشكالية قديمة المنشأ وعلاجها أمر يتطلب الكثير من النظريات والإشكاليات وربما سنوات ضوئية!
منصات الخراب الاجتماعي
حققت وسائل التواصل الاجتماعي خروقات هائلة في الحياة الإنسانية، وهذا ما يؤكد عليه العديد من الباحثين والنقاد الاجتماعيين، نظرًا للتأثير الهائل الذي تحدثه في مجريات الحياة. ومع انقسام مستخدميها بين مفيد للبشرية، وعبء عليها، فإن الطرف الثاني أثبت حجم الخطورة التي يمكن احداثها في المجتمع. والمقصود بها تلك الفئة المهتمة بنشر الشائعات والكذب وجعل وسائل التواصل الاجتماعي منابر للآراء الفارغة المعاني والمبادئ، والتحليلات الخزعبلية، والتعليقات السطحية التي وللأسف تشعل في الكثير من الأحيان، كالنار في الهشيم، المنابر المشابهة لها في جدالات عقيمة لا فائدة من وجودها أساسًا.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، وفي رصد إعلامي لمهتمين بمشروع ” ROOTED AND TRUST”، لمكافحة الأخبار الزائفة المرتبطة بفيروس كورونا، بدأ في تشرين الأول 2020 حتى 31 كانون الأول 2020، اي ما يقارب الشهرين ونصف تقريبًا، تم خلاله رصد المنصات الاجتماعية والمجموعات في مختلف المناطق اللبنانية، تم رصد 1800 شائعة تنوعت مصادرها وطبيعتها!
هذه النتيجة الصادمة هي مثال عما تشهده وسائل التواصل الاجتماعي من “حضيض”، من شأنه إحداث كوارث لا تحمد عقباها، وهذه العواقب لا تقف عند حد معين او جانب معين، فهي تطال جميع أفراد المجتمع لا سيما المراهقين منهم، ولها تأثيراتها السلبية على الجوانب المادية والنفسية للأشخاص. ومن ناحية أخرى فإن ميادين الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والصحية والأمنية وغيرها قابلة للتبدل والتغير والخراب بسبب “اشاعة” فبركها جاهل وصدقها جهلاء كثر، لا سيما وأننا نعيش في كنف بلد، تصنف فئة كبيرة من مستخدمي مواقع التواصل نفسها فيه على أنها من جماعة المحللين السياسيين والاقتصاديين والعسكريين والتربويين والخبراء الماليين في آن واحد!
الوعي والإدراك: سبيل مقاومة الجهل الاجتماعي
أمام هذا الواقع المرير والموجع، تكون مهمة الإصلاح أكثر صعوبة وتعقيدًا، فهي من جهة تطلب إنشاء خط دفاع وشرح وتفسير لكل هذه الهرطقات (التي تتطلب المتابعة)، والعمل على اعداد برامج توعية من قبل المنظمات والجمعيات والأطراف المهتمة بتوعية الرأي العام ورفع مستواه الثقافي من جهة أخرى. وهنا تكون وسيلة الخراب هي نفسها وسيلة البناء والتأهيل، إذ لا بد من أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي هي المنبر الأول للتوعية حول خطورة هذا الوضع والحد من انتشار هذه المنصات والمنابر.
وعلى مقلب آخر، فإنه لا بد للقضاء من أن يتحرك بهذا الشأن، وأن يكون للقانون كلمته في مواجهة هذه الظواهر، ورغم وجود قانون لبناني يعاقب كل من يقدم على نشر الأخبار الكاذبة وأعمال المدح والذم بموجب المادتين 582 و584 بالحبس والغرامة، الا أنه من الواضح أنه يحتاج إلى التحديث والتطبيق الجدّي والفعال.
بالإضافة إلى ذلك، فإنه من الممكن أن تلعب الوسائل الاعلامية أيضًا دورها الإرشادي هنا عبر التنسيق مع الوزارات اللبنانية المختصة والجمعيات والمنظمات المهتمة.
يخوض العالم اليوم حربًا من نوع آخر، ترافق كل أنواع الحروب والمعارك الأخرى، وتعتبر وسيلة أساسية فيها، وهي لا تقل بأهميتها عن غيرها من أركان ووسائل الحروب. وكما أن ثمة وسائل ردع لكل نوع وفئة، فإنه لا بد لنا من أن نكون متحصنين مستعدين لمواجهة هذا النوع من المعارك، بكل ما نملك من وعي وحذر وإدراك، وأن نسعى جاهدين لنصون ما كتب وأنجز وتحقق يومًا بالدم والأرواح، بالصبر والبصيرة.