انطلاقًا من توصيف للمرحلة الراهنة يفيد بأن معركة الإرادة الممتدة بين معسكر الاستعمار وذيوله ومعسكر المقاومة، وصلت لمراحل حاسمة، وانطلاقًا من الأهمية الجماهيرية لكل معسكر مقاوم يحترم جمهوره ويعمل للصالح العام، مما يعني أن الجمهور رقم وازن في معادلة اتخاذ القرار، ناهيك عن حتمية توفر البيئة الحاضنة للمقاومة باعتبارها أهم سلاح للمقاومين، يمكننا أن نطالب ببعض المراجعات بهدف تحرير العقل المقاوم من بعض الموروثات الغريبة على بيئته والتي تسللت إلى مفاهيمه أو تشكلت نتاج تقديرات خاطئة أو كانت صالحة في توقيتها وتجاوزها الزمن وتجاوزتها مستجدات الأحداث والموازين.
الهدف هنا يتعلق بأمور نلمس أنها ارتدت ثوب الرسوخ والثوابت رغم حقيقتها المرنة التي تجعلها من المتغيرات، وأمور قد تستخدم في غير محلها بما يتناقض مع المصلحة.
وما نقوله هنا ليس املاءات لا نمتلك سطوتها ولا أحقيتها، وليست مطالب تفترض امتلاك كامل الصواب، ولكنها مراجعات ومقترحات لإعمال العقل تخضع للمناقشة والنقد والتبني والرفض، ولكن الواجب والمسؤولية يحتمان عرضها.
أولا: مصادرة النقد
حيث تتعامل قطاعات ليست بالقليلة من الجماهير مع مفهوم النقد الذاتي باعتباره تمردًا أو انشقاقًا أو تشويهًا للمقاومة، دون الفصل بين مستويات النقد وعدم التفرقة والتمييز بين النقد البناء والقائم على رصد ومتابعة وحرص وبين النقد الانطباعي والقائم على الانفعالات العاطفية والنقد المغرض الذي يردد دعايات الأعداء المستخدمة في الحروب النفسية ومؤامرات التشكيك وشق الصفوف.
هنا نحن نعاني من مفهوم تسرب من بيئة غريبة على المقاومة، وهو مفهوم القطيع الذي يهدف للسير دون عقل أو مناقشة أو حتى محاولة للفهم، وهو يتناقض مع المقاومة القائمة على إعمال العقل والوعي والاختيار الذاتي لخيار المقاومة والذي يكفل الصمود وتحمل التبعات ولا يجعل المقاوم يضعف أو ينحرف مهما كانت التحديات.
ولعل بعض الكتابات التي تبرر الأخطاء بدعوى تماسك الصف ووحدته وتتعامى عن السلبيات وتحرص على الجمود، هي المسؤولة عن كثير من المحطات الصعبة والتي يظهر بها بعض الوهن الجماهيري حيث تنقسم الاراء ويترك الباب مفتوحًا لنفاذ الدعايات المضادة.
وهنا من الواجب التزام الموضوعية والتبيين والمتابعة أولًا بأول للمستجدات وبيان الفوارق بين المراحل وأن هناك تعديلات مطلوبة في كل مرحلة والتمييز الدقيق بين الثوابت والمتغيرات، وهو ما يضع الجمهور دومًا في موضع المسؤولية والمشاركة.
وينبغي ايضًا في هذا العنوان أن نفرق بين حرية النقد البناء القائم على اطلاع وبين المزايدات، ونؤكد على احترام القيادات ووضع كامل الثقة بها واحترام احتفاظها بهامش من السرية والغموض البناء دون تخوين وهجوم على الآراء التي تقترح وتطالب.
ثانيًا: أهل مكة أدرى بشعابها
هذا المثل من أكثر الأمثلة التي يساء استخدامها، ورغم صحته في العموم، إلا أن استخدامه بشكل عشوائي وتعميمي، يقود إلى الجمود، وقد يسئ إلى المصلحة العامة عندما يقود إلى فصل وفجوة بين القيادات والجماهير ويصور أن القيادات في برج عاجي تعلم ما لا تعلمه الجماهير، وقد يفتح الباب للتشكيك. وهنا لا بد من التأكيد على أن “أهل مكة” هم القيادات السياسية والعسكرية وأيضًا الجماهير، ولا بد من إطلاع الجماهير على أكبر قدر -مسموح بكشفه- من المعلومات وفلسفة التوجهات والتحالفات وقطع الطريق أولًا بأول على دعايات الخصوم والأعداء.
ثالثًا: معنويات الجماهير
وهو ملف حساس وبحاجة فعلية إلى الخبرات والتقدير الصائب لإذاعة بعض الأخبار أو توجيه الانتقادات وبحاجة فعلية إلى التمتع بفضيلة “لكل مقام مقال”.
ولكن يتوجب هنا التأكيد على أن معنويات جمهور المقاومة لها ضوابط تختلف عن التعبئة الجماهيرية في أوساط أخرى، حيث لا يمكن ولا يصح حشد الطاقات الجماهيرية عبر الشائعات أو الأخبار المفبركة، أو الأوهام والتضليل والأكاذيب والإحالة على مجاهيل.
لكن حشد طاقات جمهور المقاومة يجب أن يستخدم الوسائل النبيلة التي تتسق مع نبل المقاومة، عبر الحقائق والمكاشفة وبيان حقيقة التحديات والصعوبات.
وبالتالي فإن المصلحة تقتضي عدم نشر الأكاذيب والتبريرات غير المقنعة، ولكن تقتضي الاعتراف بالسلبيات والمخاطر والأخطاء والحشد للتعاضد والتكاتف لمواجهتها.
نحن بحاجة لتحرير العقل المقاوم من بعض الموروثات التي لا تتسق مع نبل المقاومة وطبيعتها وطبيعة جمهورها الذي وصفه سيد المقاومة بـ”أشرف الناس”.