إصلاحات غورباتشوف.. انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط الحرب الباردة

كل شيء له بداية، له نهاية. لا أحد، بغض النظر عن الصفات الشخصية التي قد يمتلكها، يتمتع بخلود شخصي. في سن 92، غادر هذا العالم أول وآخر رئيس لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ميخائيل غورباتشوف.

رحل الرئيس السوفياتي الاخير ميخائيل غورباتشوف، والامين العام الاخير للحزب الشيوعي السوفياتي، الذي أنهى الحرب الباردة دون “إراقة الدماء” (قصف البيت الابيض او المبنى الحكومي وسقوط العشرات بين قتيل وجريح). اما على الصعيد العالمي فقد أخفق في منع انهيار الاتحاد السوفياتي.

وعلى الرغم مما قيل ويقال عن سلبيات كثير من سياسات غورباتشوف وتوجهاته التي ثمة من يجزم بأنها كانت في صدارة أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، فإنه يظل من الثابت أن غورباتشوف لا يمكن أن يكون وحده المسؤول عما حل بالبلاد من مصائب وكوارث يتابع العالم حتى اليوم تبعاتها.

بدأ حفل وداع ميخائيل غورباتشوف فورًا بعد انتهاء “البرق” بشأن وفاته – لم يتم وضع التابوت مع جثة المتوفى بعد امام العامة، وبدلًا من صف من الزهور، كان هناك طابور طويل من الناس قد حصل بالفعل، اصطفوا وكأنهم أرادوا أن يبصقوا على السكرتير العام السوفياتي الأخير، يرسلوا له الشتائم، ويتمنوا له أن يحترق في الجحيم. كل أولئك الذين لم يكن لديهم الوقت للقيام بذلك خلال حياته، يريدون اليوم اللحاق بالركب – الديمقراطية اللامحدودة للإنترنت التي تسمح لأي شخص بالقيام بذلك، إن لم يكن في شكل مقال أو تعليق على Twitter أو في قناة Telegram، في شكل وجه مبتسم: إصبع مرفوع بحسب ما كتبت صحيفة ” كومرسنت” الروسية. واضافت الصحيفة: ومع ذلك، حتى خلال حياته كانت الشتائم كثيرة وكبيرة وحتى انه نال نصيبه من البصاق أكثر بكثير مما لم يجمعه جميع قادة الكرملين مجتمعين.

وصل غورباتشوف إلى السلطة في عام 1985، حيث قام بإطلاق موجة إصلاحات سياسية واقتصادية هدفت إلى تحديث الاتحاد السوفياتي الذي كان يعاني من أزمات اقتصادية حادّة. وكان غورباتشوف من أنصار التقارب مع الغرب وقد فاز في عام 1990 بجائزة نوبل للسلام.

اراد الزعيم السوفياتي ان يبني آنذاك مجتمعا مثاليًا في بلاد السوفيات والعالم. كان طوباويًا عظيمًا، كان يعتقد اعتقادًا راسخًا أن كل شيء سينجح. وكان يكرر دائمًا “نحتاج فقط إلى نبذ العقائد القديمة وتسليح أنفسنا بـ “تفكير جديد””. إن وفاة الرئيس الأول والأخير لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في العام الذي رسمت فيه الحياة خطًا أخيرًا تحت يوتوبيا التاريخية له أمر رمزي تمامًا. تم استبدال المدينة الفاضلة العظيمة بعكسها وسارت الرياح بعكس ما تشتهي السفينة الاصلاحية.

بين 1990 و1991 تولّى غورباتشوف منصب رئيس الاتحاد السوفياتي قبل أن يضطر في النهاية إلى الاستقالة في 25 كانون الأول/ديسمبر، في خطوة أدّت لانهيار الاتحاد السوفياتي. وكان غورباتشوف آخر زعيم من حقبة الحرب الباردة لا يزال على قيد الحياة. فعلى الرغم من حرص غورباتشوف الشديد في الماضي حول كل ما يتفوه به عن بوتين علنًا، لا بل إشادته به لتوطيده أركان الدولة الروسية بعد الفوضى التي اندلعت تحت حكم الرئيس الأسبق بوريس يلتسين، إلا أنه عام 2011 وجه له انتقادات لاذعة. وفي حديث عام في الولايات المتحدة قال الزعيم الراحل إن “استخدام أساليب سلطوية كسياسة للمستقبل خطأ”، في إشارة إلى سياسة سيد الكرملين حينها.
وأضاف: “أينما ذهبت ترى أنه حيثما يكون لديك قادة يحكمون لمدة 20 عامًا أو أكثر… يكون الهدف التمسك بالسلطة…”. وأردف قائلًا “أعتقد أن هذا شيء يحدث الآن في بلدنا”.

كذلك، كرر بعدها الانتقادات. ففي مقابلة إذاعية، انتقد بقاء بوتين في الرئاسة لثلاث فترات، قائلًا “أنصحه بالمغادرة، قضى فترتين كرئيس وفترة كرئيس للوزراء، وأحاط نفسه بتكتلات سياسية”.

إلى ذلك، توترت العلاقة بين الرجلين عندما اعتبر بوتين انهيار الاتحاد السوفياتي كارثة، حيث قال في ديسمبر 2021 إن انهيار الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود كان نهاية “روسيا التاريخية”، مضيفًا أن الأزمة الاقتصادية التي أعقبت ذلك اضطرته للعمل كسائق سيارة أجرة.

من جهته، أعلن المساعد السابق لوزير المالية الأميركي، بول روبرتس، أن الولايات المتحدة وعدت الرئيس غورباتشوف، بالفعل، بعدم توسع الناتو شرقًا. وقال روبرتس الذي كان يعمل في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، في حديثه لوكالة “نوفوستي”: “كان خطأ غورباتشوف ينحصر في سوء فهمه لواشنطن. يمكن للرئيس الأميركي أن يعقد اتفاقية يرفضها خليفته، حتى لو كانت هناك وثائق موقعة. وفي ظروف غياب مثل هذه الوثيقة كان نظام كلينتون الفاسد قادرًا على الإعلان أن الاتفاقات بشأن عدم توسع الناتو إلى حدود روسيا لم تكن موجودة أبدًا”.

وأضاف أن إدارة الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن، توسع نطاق الحرب الباردة الجديدة التي شنتها إدارة بيل كلينتون مكان الحرب التي أنهاها غورباتشوف وريغان. وقال: “إن تسامح الكرملين مع النوايا الغربية العدوانية المعلنة ضد روسيا تثير الدهشة. كيف يمكن لأحد في الكرملين أن يصدق كلام واشنطن؟”

وأمضى غورباتشوف القسم الأكبر من العقدين الماضيين على هامش الحياة السياسية في روسيا، وقد دعا، بشكل متقطّع، كلًّا من الكرملين والبيت الأبيض إلى إصلاح العلاقات بين واشنطن وموسكو مع تصاعد التوترات بينهما إلى المستوى الذي كان عليه خلال الحرب الباردة منذ ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم في 2014 ثم غزوها أوكرانيا في شباط/فبراير الماضي.
وأمضى غورباتشوف سني حياته الأخيرة بين المستشفى والمنزل، إذ تردّت صحّته كثيرًا كما أنّه فرض على نفسه الحجر الصحّي الوقائي خلال فترة جائحة كوفيد-19. وكان غورباتشوف موضع تقدير كبير في الغرب الذي كان يسمّيه تحببًا “غوربي”.

وفاز الراحل بجائزة نوبل للسلام في 1990 لتفاوضه مع الرئيس الأميركي في حينه رونالد ريغن على اتفاقية تاريخية لنزع الأسلحة النووية، كما اعتُبر قراره بمنع الجيش السوفياتي من التدخّل للحؤول دون سقوط جدار برلين قبل عام من ذلك عاملًا أساسيًا في الحفاظ على السلام.

أبرم غورباتشوف اتفاقات مع الولايات المتحدة للحد من الأسلحة وأقام شراكات مع القوى الغربية لإزالة الستار الحديدي الذي قسم أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، كما لعب دورًا في إعادة توحيد ألمانيا. لكن إصلاحاته الداخلية الواسعة ساعدت في إضعاف الاتحاد السوفياتي حتى بلغ نقطة الانهيار، وهي لحظة وصفها الرئيس فلاديمير بوتين بأنها “أكبر كارثة جيوسياسية” في القرن العشرين. وذكرت وكالات أنباء في عام 2018 أن بوتين قال إنه سيلغي انهيار الاتحاد السوفياتي إذا استطاع.

بعد التوتر والمواجهة خلال الحرب الباردة التي استمرت عقودًا، جعل غورباتشوف الاتحاد السوفياتي أقرب إلى الغرب من أي مرحلة منذ الحرب العالمية الثانية. وحاول غورباتشوف، الذي أطاح به متشددون في الحزب الشيوعي لفترة وجيزة في انقلاب في أغسطس/ آب 1991، الحيلولة دون هذا الانهيار لكن جهوده باءت بالفشل.

وقال فلاديمير شيفتشينكو، الذي ترأس مكتب البروتوكولات في عهد الزعيم السوفيتي “عصر غورباتشوف هو عصر البيريسترويكا، عصر الأمل، عصر دخولنا إلى عالم خال من الصواريخ… لكن كان هناك خطأ واحد في تقدير الأمور: لم نكن نعرف بلدنا جيدًا”. ونقلت وكالة الإعلام الروسية عنه قوله “لقد انهار اتحادنا. كانت تلك مأساة، ومأساة له”.

عندما أصبح غورباتشوف أمينًا عامًا للحزب الشيوعي السوفياتي في عام 1985 وعمره 54 عامًا فقط، شرع في إعادة إحياء النظام عبر إدخال حريات سياسية واقتصادية محدودة، لكن إصلاحاته خرجت عن نطاق السيطرة. وسمحت سياسته (غلاسنوست)، أو حرية التعبير، بانتقاد الحزب والدولة بشكل لم يكن ممكنًا تصوره في السابق، ولكنها شجعت أيضًا القوميين الذين بدأوا في الضغط من أجل الاستقلال في جمهوريات البلطيق لاتفيا وليتوانيا وإستونيا وأماكن أخرى.

ولم يغفر كثيرون من الروس لغورباتشوف الاضطرابات التي أحدثتها إصلاحاته، معتبرين أن التراجع اللاحق في مستويات المعيشة ثمن باهظ للغاية مقابل الديمقراطية. بدوره علق رئيس اللجنة الدولية في مجلس الدوما ليونيد سلوتسكي على رحيل غورباتشوف بالقول: “كان غورباتشوف ألمع سياسي في عصره. واشار الى أنه بالنسبة لجميع المواطنين الذين ولدوا وعاشوا في الحقبة السوفياتية، يظل شخصية تاريخية معقدة ومثيرة للجدل”.
إنه لأمر مؤسف من الناحية المسيحية … تمامًا كما هو مؤسف لهذا البلد العظيم، بدأت عمليات الانهيار في عصر البيريسترويكا و” التفكير الجديد “وصارت لصالح أولئك الذين سعوا إلى محو اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية من الخريطة السياسية للعالم. وقال فلاديمير روجوف، وهو مسؤول عينته روسيا في جزء تحتله القوات الموالية لها في أوكرانيا، إن غورباتشوف “قاد عمدًا الاتحاد (السوفياتي) إلى زواله” ووصفه بالخائن.

سيقال الكثير عن هذه الشخصية المثيرة التي كانت مملة الى ابعد الحدود في تكرار الاوهام والوعود بحياة كريمة، ولكن يبقى مشهد مشاركته في إعلان في مطعم البيتزا في موسكو من أكثر الامور غرابة آنذاك بالنسبة للمواطن السوفياتي الذي قضى نصف عمره بالوقوف في الطوابير من اجل الحصول على الحد الادنى من مقومات العيش جراء “بيريسترويكا” و”شفافية” جلبت الويلات للعالم، وما الانهيارات التي تحصل على صعيد العلاقات الدولية الا من أبرز تجلياتها.

اساسيالاتحاد السوفياتيبوتينروسياغورباتشوفموسكو